عناصر الخطبة
1/ حسن الظن بالعلماء الربانيين 2/ الذبّ عن أعراض أهل العلم 3/ تهافت أهل الهوى في الوقوع في العلماء 4/ ضوابط حرية الرأي والنقد 5/ منزلة العلم والعلماء في الإسلام 6/ مساوئ الطعن في العلماء وعقوبات منتقصيهماقتباس
لقد أسقط الإعلاميون بعامة كلَّ هيبة يرجى لها منفعة للوطن، فأسقطوا هيبة العلماء الذين عُينوا ليكونوا مرجعية دينية يستقيم بها المجتمع، وأسقطوا هيبة القضاء والقضاة، وآووا في صحفهم أناساً صدر بحقهم صكوكٌ شرعية لنيلهم من الدين في بعض مسائله. وأسهموا في إسقاطِ هيبة المعلم وحرّضوا عليه بتحقيقات صحفية تجعله في نظر المجتمع أنه هو الجاني والطالب هو المجني عليه. وأسهموا كذلك في إسقاط هيبة رجل الأمن، كل ذلك تحت غطاء حرية الرأي والنقد ..
أما بعد: أيها المسلمون: لا يزال المرجفون ينتهزون كل فرصة مواتية للنيل من شيوخ هذه البلاد، ومع كل حدث يتواصون بالنيل من عالم أو داعية مصلح، وكانت آخر مرة مع عضوٍ من أعضاء هيئة كبار العلماء، سُئل عن مسألة لا يُسأل فيها إلا المختصون في الشريعة وهو منهم، فأجاب فيها بما يدين الله به، لم يكن جوابه بالجواب الذي خرج عما جرى عليه عمل المفتين قديماً وحديثاً؛ ولكنه لم يَرُق لهم، فرموه عن قوس واحده في صحفهم في أكثر من عشرين مقالاً بدأها رءوسهم وكبارهم فسار على أثرهم مرتَزِقتُهم، كانت حملة لافتةً للأنظار؛ ولذا كانت لها هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: من يقرأ هذه المقالات الفجّة المتحاملة المتشنجة يظن لأول وهلة أن ذلك المفتيَ المستهدفَ قد قال قولاً عظيماً أعلن فيه الخروج عن ولي الأمر، أو أساء به الظنَ وطعن في دينه، أو يظن أن ذلك المفتيَ قد أفتى بما هو خارج عن فتوى العلماء فشذَّ عنهم وخالف الدليل؛ هكذا يبدو لك الأمر وأنت تقرأ مقالةً من مقالات هؤلاء.
غير أن الواقع أن المفتي أجاب عن السؤال بسكينة ونبرة هادئة لم يؤلّب على ولي الأمر، ولم يسِئْ به الظن، بل كان حسن الظن به هو الغالب في كلامه، فأيده على مشروعه في تلك الجامعة، ورجا أن تكون إسهاماً في العلم والمعرفة يُحتسب لهذه الأمة، ولم يقرر أن فيها اختلاطاً؛ ولكن ما جرى به أغلب الكلام عن بيان حكم الاختلاط وخطره تؤيده في مجمل كلامه مع تحفظ على كليمات يسيرة، كما تتحفظ على كل كلام مرتجل.
لم تكن الفتوى تستدعي كل هذا الضجيج لولا أن مفتعليه غاروا على المفاهيم الغربية التي يراد لها أن تستنبت في مهد الإسلام ويُطبَّع عليها المجتمع.
لقد غاروا، وبئست الغيرةُ غيرتهم، لم نرَ منهم مثلها غيرة حين انتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسوم الساخرة، ولم نر منهم مثلها حين كتب كاتب في جريدة الرياض يلمز خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أول من شرعن الإرهاب والتطرف في حروب الردة، فلم يكتب أحد من هؤلاء المرتزقة ولا رؤوسهم ولا حتى مقالةً واحدة دفاعاً عمن رضيه النبي صلى الله عليه وسلم خليفة له على أمته.
ولو كانت تلك السُّبة في حق حاكمٍ لفُصل المحرر الذي نشر، ولمنع الكاتب الذي كتب أبد الدهر. هكذا هي غيرتهم تكاد تموت حين تنتهك حرمات الله ودين الله، وتبلغ أوجها حين ينال أحدٌ من قيم الغرب ومفاهيمه المخالفة للدين.
وغيرتهم على قيم الغرب لا تقاربها في القدر غيرتُهم الوطنية ولا مُدَّها ولا حتى نصيفها، فقد وقعت أعمال الشغب والإرهاب والتخريب في الشرقية مؤقتةً باليوم الوطني وتحرش هنالك سفهاءُ بالنساء وكاد أن تُنتهك أعراضٌ فلم نر لهم في ذلك غيرةً ولا كتبوا عن ذلك الشغب كما كتبوا في هذه الهجمة المقصودة.
علامَ تدل هذه المفارقة في الغيرة؟ أن يغار رجل على المنكر أن يُحارب أكثر من أن يغار على دين الله أن تنتهك منه حرمةٌ أو يُحارب معروفُه بمنكر؟ أترك الجواب في ذلك لعقولكم.
الوقفة الثانية: لم ينكشف لنا بهذه الحملة المنهجُ المشبوهُ لهؤلاء القوم، فقد كان مكشوفاً مفتضحاً في وقائع كثيرة سابقة؛ وما هذه الحملة إلا شاهدٌ ينضم لشواهد كثيرة، غير أن الذي يقال هنا ويؤكد عليه أن شعاراتِ هؤلاء ودعواتهم المزيفة باتت مكشوفةً مفضوحة، فهم يدعون للتسامح، وهم أبعد الناس عنه، ويعيبون على غيرهم الغلظةَ وهم أشد الناس غلظة وفضاضة، وينشئون هيئة للصحافة يزعمون أن من أهدافها المحافظةَ على المعايير الصحفية، وإذا برؤوسهم هم أول من ينتهكها؛ فقد انتقدوا الشيخ المقصودَ بهذه الحملة بناءً على تقرير غير دقيق كتبته إحدى المواقع الإلكترونية، وهل يصح هذا في المعايير الصحفية الراقية؟!
وفي شعاراتهم الدعوةُ للوطنية والمحافظةُ على لُحمتها، وهم أكثر من يشغب عليها ويُعمِلون أقلامهم في تقويضها، فهذه الحملة يراد بها إسقاط هيبة العلماء من نفوس الناس، وأي علماء؟ إنهم العلماء الذين اختارهم ولي الأمر لهيئة كبار العلماء، فأي مرجعية دينية ستبقى لشبابنا إذا كانت هذه هي مكانة عضو هيئة كبار العلماء في نظر هؤلاء الصحافيين؟
بأي شيء ستُسهم هذه الحملةُ الشعواء في الوطنية والمواطنة وهيبة الوطن؟
لقد أسقط الإعلاميون بعامة كلَّ هيبة يرجى لها منفعة للوطن، فأسقطوا هيبة العلماء الذين عُينوا ليكونوا مرجعية دينية يستقيم بها المجتمع، وأسقطوا هيبة القضاء والقضاة ، وآووا في صحفهم أناساً صدر بحقهم صكوكٌ شرعية لنيلهم من الدين في بعض مسائله.
وأسهموا في إسقاطِ هيبة المعلم وحرّضوا عليه بتحقيقات صحفية تجعله في نظر المجتمع أنه هو الجاني والطالب هو المجني عليه. وأسهموا كذلك في إسقاط هيبة رجل الأمن، كل ذلك تحت غطاء حرية الرأي والنقد.
وحتى حرية الرأي والنقد تراهم يدعون إليها ويدعون تقديسها، وما كان غرضَهم من هذا إلا أن يحتموا بها في النيل من الآخرين، أما هم فإقصائيون لا يحتملون نشرَ خلاف لمخالف، ولا رأيًا في نقد فِكرهم.
ومن شعاراتهم المزيفة الأدبُ في النقد والترفعُ عن النيل من الذوات، وتحييدُها بأن يتوجه النقد للفكرة دون قائلها؛ ولكنهم في كل حملة ينتهكون هذه الحرمة، ويسيئون الأدب مع المخالف، فعرَّضوا في حملتهم الأخيرة بحداثة سن الشيخ المستهدف، مع أنه بلغ أشده وجاوز الأربعين، ورماه بعضهم في صفحة مقالات اليوم بجريدة الرياض بأنه لم يكن ليصبح عضوًا في هيئة كبار العلماء لولا الشفاعة! وفي هذا اتهام مبطن لولي الأمر؟ ثم زاد وقاحة فسخر من ذكائه وعلمه، فهل بقي أدب بعد هذا؟
الوقفة الثالثة: هؤلاء القوم قوم بهت، إن وافقهم أحد في الرأي امتدحوه ورفعوا قدره وأثنوا على علمه ودينه، فإن خالفهم نسوا ما كانوا قد قالوا فيه ثناء ومدحاً، وقلبوا مدحه ذماً، كما اليهودُ لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن أخيهم عبد الله بنِ سلام ولم يكونوا يعلمون بإسلامه: أخ كريم وابن أخ كريم. فلما خرج عليهم شاهراً إسلامه سبّوه ولم يُبقوا له محمدة.
إن هؤلاء لم يطعنوا في الشيخ لذاته، فليس بينه وبينهم سابقُ خصومة، ولكنهم يطعنون العلم الذي يحمله، والحق الذي يقوله، والدينَ الذي يدين الله به، ولو وقف الأمر على حد النقاش الرفيع والمراجعة المهذبة والحوار الهادئ لمسألة الاختلاط لكان الأمر محتملاً ، ولكنه بهذه الصورة وبهذا التأليب والسخرية والتشنج يجعل في النفس محلاً للريبة في دوافع هؤلاء على هذه الغيرة المفتعلة.
بارك الله لي ولكم
الخطبة الثانية
أيها الناس: للعلم والعلماء في الإسلام مقام رفيع، ومنزلة كبيرة؛ فهم ورثة خير خلق الله تعالى وهم الأنبياء عليهم السلام، في خير ما ورثوا وهو دين الله تعالى، فورثوا خير ميراث من أفضل موروثين.
ولولا العلماء من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا لضاع الدين؛ فهم حملته ومبلغوه، يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: "واعلموا أنه لولا العلماء الذين ينقلون العلم ويعلمونه الناس جيلاً بعد جيل لهلك الإسلام جملة، فتدبروا هذا وقفوا عنده وتفكروا فيه".
ولأجل أن العلماء حملة الدين ومبلغوه عن الله تعالى كان انتقاصهم والطعن فيهم، والتنفير منهم، والتأليب عليهم نوعاً من الصد عن دين الله سبحانه، وطريقاً لإخفاء الحق وإظهار الباطل.
ومن أعظم آثار ذلك العاجلة موت القلب؛ لأن من انتقص نقلة الدين هان الدين في قلبه، وسهل عليه أن يتوجه بالطعن المباشر في أحكام الله تعالى وحدوده، ومن سبر أحوال كثير ممن يرفضون أحكام الله تعالى، ويطعنون في شريعته، أو يستميتون في تأويلها وتحريفها يجد أن بدايات انحرافاتهم كانت بالطعن في العلماء، فعوقبوا بالجرأة على الدين كله تأويلاً وتحريفاً ورداً وانتقاصاً، نعوذ بالله تعالى من الضلال والهوى.
والأصل أنه لا يطعن في علماء الشريعة، ولا يرضى بالطعن فيهم إلا أهل الأهواء والنفاق؛ لأن العلماء يحولون بينهم وبين نشر النفاق والفساد والابتداع في الدين.
وواجب على أهل الإيمان عدم تصديق هؤلاء المفسدين في أكاذيبهم، ولا الانسياق خلف أراجيفهم؛ فإنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، كما يجب على أهل الإيمان الذبّ عن العلم والعلماء، ومعرفة قدرهم، وحفظ مكانتهم، والصدور عن أقوالهم؛ فإنهم أقرب الناس إلى الحق، وأنصحهم للخلق؛ لأنهم ورثة الأنبياء عليهم السلام، ولا أحد في البشر أعلم من الأنبياء ولا أكثر نصحاً منهم، وقد قال الله تعالى فيهم (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) [الأنبياء:73]، كما قال في العلماء: (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت:49].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم