الالتجاء إلى الله والطلب منه

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2024-10-25 - 1446/04/22 2024-10-30 - 1446/04/27
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/أهمية الالتجاء إلى الله والتوكل عليه 2/التضرع وملاءمة الدعاء للشكوى 3/شدة حاجتنا للالتجاء إلى الله ودعائه 4/من أسباب جلب الخيرات ودفع النكبات 5/من علامات الخير للعبد 6/مطالعة النعمة والحزن على التقصير.

اقتباس

وكم من دعوة جلبت نعمًا! ودفعت نقمًا، وكم من استعاذة بالمولى أنجت صاحبها من شر وبلاء! وكم من غفلة، وتكبر، وعناد، واستخفاف، أذل صاحبه وفوّت عليه ما هو بأمس الحاجة إليه!

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله رفيع الدرجات، واسع الرحمة مجيب الدعوات، فسبحانه من إله عظيم ورب كريم، أحمده -تعالى- وأشكره، وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالهدى ودين الحق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله وأَنِيبوا إليه في جميع شؤونكم، فلا ملجأ ولا منجا لنا منه إلا إليه، كلّنا فقراءُ إلى الله ومحتاجون إليه، لا غِنَى لنا عنه طرفة عين.

 

ولا يخفى أن الإنابة تظهر في  الالتجاء إليه، والتوكل عليه، والذّلّ بين يديه، فحين تُلِمُّ بالعبد ملمةٌ؛ عليه أن يلتجئ إلى مولاهُ القادر عل كل شيء، والعالم بكل شيء، فهو -تعالى- نعم المولى ونعم النصير، يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؛ قال -تعالى- (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[النمل: ٦٢]، وقد أمرنا بدعائه، ووعدنا بالاستجابة؛ قال -تعالى- (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: ٦٠].

 

وممن اشتكى إلى ربه ودعاه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فحين اشتدَّ عليه الإيذاء بمكة وخرج إلى الطائف فلم يُؤوه أهلُها بل آذوه، دعا الله في رجوعه قائلاً: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تكلني؛ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملّكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل عليّ غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".

 

عباد الله: تأملوا -رحمكم الله- هذه الشكوى العظيمة، الصادرة من أشرف المرسلين وما فيها من دعاء حالة ابتلائه وصبره في ذات الله، فهو يشكو إلى ربه ضعف قوته على الأعداء، وقلة حيلته، وهوانه على الناس، بألطف عبارة وأحسنها وأكملها معنى، ولنا في رسول الله أُسوة حسنة، فلندع بهذا الدعاء، حال الابتلاء في الدين وضعف المسلمين، وفي حال الابتلاء في شؤون الحياة ومُلِمّاتها بما يلائم الحال.

 

 وكما يدعو الإنسان ربه لإزالة كرب، فكذلك يدعوه بما يُعِزّ الإسلام؛ فقد دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه أن يُعِزّ الإسلام بأحبّ الرجلين إليه -تعالى-، فاستجاب الله دعاءه، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللَّهمَّ أعزَّ الإسلامَ بأحبِّ هذينِ الرَّجُلَيْنِ إليكَ بأبي جَهْلٍ أو بعُمرَ بنِ الخطَّابِ"؛ قال: "وَكانَ أحبَّهما إليهِ عمر"، فشرح الله صدره للإسلام، وأعز الإسلام به، بل سماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفاروق؛ وذلك بسبب ما قام به من إعلان للإسلام، وقوة على الأعداء.

 

 ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه أن يَنْصُره على أعدائه في بدر، لما جاء إليه المشركون من قريش محادّين لله ومكذبين لرسوله، قائلاً: "اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، جاءت تحادّك وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أَحنْهم -أي: أهلكهم- الغداة".

 

وبَالَغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التضرع ورفع يديه حتى سقط رداؤه، وقال: "اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة، لن تُعبَد في الأرض أبدًا"؛ فاستجاب الله له ونصره على أعدائه، مع كثرتهم وقلة المسلمين، وأنزل في ذلك قرآنًا يُتْلَى إلى قيام الساعة؛ قال -تعالى-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[الأنفال: ٩].

 

معشر المسلمين: كونوا مع الله دائمًا بالتضرع واللجوء إليه والاعتماد عليه، فإن من كان مع الله كان الله معه؛ قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل: ١٢٨].

 

وليكن الدعاء ملائمًا لحال الشكوى، ومناسبًا للطلب، ومما يناسب من الدعاء إذا وقع التحدي من الأعداء، أن تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فقد قالها إبراهيم -عليه السلام- حين وقع التحدي عليه بالإحراق بالنار، فأنجاه الله منها وجعلها بردًا وسلامًا.

 

 وقالها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لما قيل لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[سورة آل عمران: 173]، فرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يمسسهم سوء، فما أعظمه من دعاء لمن وفقه الله إليه! وما أعظمها من استجابة لمن حصلت له!

 

عباد الله: ما أحوجنا للالتجاء إلى الله ودعائه، لكي يجلو ما في قلوبنا من قسوة، وما أحوجنا لدعائه بأن يُوفِّقنا لشُكر نعمه، وما أحوجنا للاستعاذة من حلول نِقَمه، وما أحوجنا للإنابة إليه، خصوصًا وقد ظهر منا التقصير في طاعته، وما أحوجنا لإصلاح أزواجنا وذرياتنا.

 

 اللهم اجْلُ سوادَ قلوبنا من درن الذنوب، ونوّرها بالإيمان ووفِّقنا لشكر نعمك، وأعذنا من حلول نقمك، اللهم ارزقنا الذل بين يديك، والانقياد لطاعتك، اللهم أصلح أزواجنا وذرياتنا، يا أرحم الراحمين ويا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

 

بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله مجيب الدعوات، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، أحمده -تعالى- وأشكره، وأستغفره وأتوب إليه.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير منيب إلى ربه ومنقاد لطاعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: أيها المسلمون: فإن مِن أعظم الأسباب لجلب الخيرات ودفع الشرور والنكبات: الالتجاء إلى فاطر السماوات، بالدعاء والتوكل، والاستعانة، والاستعاذة، والثناء، وطلب التوفيق؛ فهو -تعالى- المالك لكل شيء المتصرف فيه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ونحن مأمورون ببذل السبب، وكلٌ مُيسَّر لما خُلق له، وكم من دعوة جلبت نعمًا! ودفعت نقمًا، وكم من استعاذة بالمولى أنجت صاحبها من شر وبلاء! وكم من غفلة، وتكبر، وعناد، واستخفاف، أذل صاحبه وفوّت عليه ما هو بأمس الحاجة إليه!

 

أيها المسلمون: إن من علامات الخير للعبد أن يكرمه الله بمشاهدة المنَّة منه -تعالى- بنعمه عليه، وأن يُوفّقه إلى مطالعة عيب النفس والعمل، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجوء إلى الله -تعالى-، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده، فالعارف سائرٌ إلى الله -تعالى- بين هذين الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحدٌ منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه".

 

 واستدل -رحمه الله- بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سيد  الاستغفار؛ قال: "فجمع في قوله: "أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي"، بين مشاهدة المنَّة، ومطالعة عيب النفس والعمل".

 

 اللهم ارزقنا مشاهدة المنة منه -تعالى- علينا بنعمه العظيمة، التي من أكبرها نعمة الإسلام، ووفِّقنا لمطالعة عيب النفس والعمل، وأعنّا على تسديد النقص، وافتح لنا باب الذُّل والانكسار إليك، ودوام اللجوء والافتقار إليك، واجعلنا من الراشدين، في كل ما تحب وترضى يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات

الالتجاء إلى الله والطلب منه.doc

الالتجاء إلى الله والطلب منه.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات