عناصر الخطبة
1/أوجه افتقارنا إلى الله وتجلي ذلك في القرآن 2/دأب الرسل في الافتقار إلى الله 3/حاجتنا الماسة للافتقار إلى اللهاقتباس
تخيل -يا عبد الله- أنك لم تخلق فماذا كان؟! هل سيختل الكون بدونك؟! وهل ستفتقر الموجودات إلى وجودك؟. ألم تمض أزمان قبل وجودك، والكون هو الكون، ولم يفتقر أحد إليك حتى توجد من أجله، وبعد موتك سيعيش..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين: إن حاجة الخلق إلى الله تعالى لا يحيط بها الوصف؛ إذ هم مفتقرون إليه في كل أحوالهم، محتاجون إلى عونه في كل شؤونهم.. هو سبحانه موجدهم من العدم، ومربيهم بالنعم، وهاديهم إلى ما ينفعهم، وصارفهم عما يضرهم؛ فما قيمة الخلق بلا خالقهم.
إن ربنا -جل جلاله- هو الذي خلقنا وهو غني عن خلقنا؛ فلم يخلقنا -سبحانه- ليستكثر بنا من قلة، ولا ليستقوي بنا من ضعف، ولا ليحتاج لنا في أي شيء؛ فكان خلقه لنا محض فضل منه سبحانه وتعالى تفضل به علينا (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)[الزمر:6].
تخيل -يا عبد الله- أنك لم تخلق فماذا كان؟! هل سيختل الكون بدونك؟! وهل ستفتقر الموجودات إلى وجودك؟. ألم تمض أزمان قبل وجودك، والكون هو الكون، ولم يفتقر أحد إليك حتى توجد من أجله، وبعد موتك سيعيش من يعيش، والكون هو الكون، والناس هم الناس؛ فلا افتقرت الموجودات إلى خلقك، ولا اختل نظامها بموتك؟، وهذه الحقيقة نص عليها القرآن في غير ما موضع؛ فقال: (أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)[مريم:67]، وقال -تعالى-: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً)[الإنسان:1].
وسمع جبير بن مطعم وهو على الشرك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- لسورة الطور قال: فلما بلغ هذه الآية (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[الطور:35] قال: كاد قلبي أن يطير (رواه البخاري).
ثم بعد افتقارنا إلى الله -تعالى- في وجودنا بشرا سويا نفتقر إلى الله تعالى في بقائنا وبقاء جنسنا البشري، والله -عز وجل وهو الغني عنا- كان ولا يزال قادرا على أن يهلكنا ويذهبنا، وأن يبدلنا ببشر مثلنا، بل هو القادر على أن يلغي جنسنا، ويخلق خلقا آخر غيرنا، يعبدون الله -تعالى- ولا يعصونه طرفة عين.
والقرآن مليء بالآيات التي تثبت افتقارنا إلى الله -عز وجل- في استمرار بقائنا وبقاء جنسنا البشري (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)[الأنعام:133] وفي سورة النساء (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً)[النساء:133]، وفي سورة إبراهيم -عليه السلام- (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)[إبراهيم:19-20] وفي سورة المعارج (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)[المعارج:40-41] وفي سورة الإنسان (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً)[الإنسان:28].
بل جاء النص الصريح في القرآن على حقيقة افتقارنا إلى ربنا -جل جلاله- في بقائنا وبقاء جنسنا البشري (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)[فاطر:15-17] .
ونحن مفتقرون إلى الله -تعالى- في هدايتنا وإسلامنا وإيماننا، وإلى عبادته -سبحانه وتعالى-؛ فلولا الله -تعالى- لما كنا مسلمين، ولا آمنا، ولا صلينا، ولا صمنا، ولا عملنا صالحا، ولا جانبنا المحرمات، ولسنا أعلى البشر شأنا، ولا أوفرهم عقلا، ولا أشدهم بأسا، ولكن الله -تعالى- منَّ علينا بالهداية، وضلَّ عنها غيرنا ممن لم يهتدوا (قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات:17]، وقال -سبحانه- في الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم".
ولا زلنا مفتقرين إلى الله -تعالى- في الديمومة على إيماننا، والثبات على إسلامنا؛ فلا ثبات لنا إلا بالله -تعالى- وعونه وتوفيقه؛ ولذا ذكر -سبحانه- عن الراسخين في العلم أنهم يقولون: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)[آل عمران:8] والمصلي يتلوا في كل ركعة هذا الدعاء المبارك (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)[الفاتحة:6].
ونحن مفتقرون إلى الله -تعالى- في رزقنا؛ فمن ذا الذي يرزقنا غير ربنا وخالقنا والمنعم علينا، والخلق مهما كانت عظمتهم، أو بلغت قوتهم، أو علت مكانتهم لا يرزقون أنفسهم فضلا عن أن يرزقوا غيرهم؛ فكلهم عيال على الله -تعالى-، يسوق إليهم أرزاقهم حيث كانوا (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا)[هود:6]، (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت:60].
وقد جمع الله -تعالى- ذكر افتقارنا إليه -سبحانه- في الخلق والرزق في آيات كثيرة؛ وذلك أنه لا قوام لنا، ولا بقاء لجنسنا بعد أن خلقنا ربنا -جلل جلاله- إلا برزقه الذي رزقنا (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الروم:40] وأمرنا -سبحانه- بدوام تذكر هذه النعمة العظيمة وعدم نسيانها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)[فاطر:3].
ولو حبس عنا رزقه فمن يرزقنا: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)[الملك:21] فالرزق إنما يطلب ممن يملكه ويقدر عليه، وربنا -جل جلاله- بيده خزائن السموات والأرض (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[العنكبوت:17].
إننا مفتقرون إلى الله -تعالى- في طعامنا وشرابنا وكسائنا وصحتنا وعلاجنا وفي كل شئوننا، وقد قال الله -تعالى- في الحديث القدسي "يا بنى آدم كلكم كان ضالا إلا من هديت، وكلكم كان عاريا إلا من كسوت، وكلكم كان جائعا إلا من أطعمت، وكلكم كان ظمآنا إلا من سقيت، فاستهدوني أهدكم، واستكسوني أكسكم، واستطعموني أطعمكم، واستسقوني أسقكم"(رواه أحمد).
وفقرنا إلى الله -تعالى- دائم معنا، ملازم لنا؛ فكل حركاتنا وسكناتنا بتقدير الله -تعالى- وتدبيره، أقر بذلك من أقر به؛ فخضع لعبادة مولاه -جل جلاله-، فكان من الناجين الفائزين، وأنكره من أنكره، فاستكبر عن عبادته -سبحانه-، فكان من الهالكين المعذبين.
فاعرفوا لله -تعالى- حقه، وأقروا بفضله، وتبرئوا من كل حول وقوة إلا بالله -تعالى-؛ فإن ذلك التبرؤ إلا من حول الله -تعالى- وقوته كنز من كنوز الجنة؛ لأن فيه اعترافا بالفقر الدائم إلى الله -تعالى-، روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى عليه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: "يا عبد الله بن قيس، ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله "(متفق عليه).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: لقد كان دأب الرسل، وسبيل الصالحين قبلكم: الافتقار إلى الله -تعالى-، والانطراح بين يديه، والاعتراف له بالعجز والفاقة، والضعف والحاجة، والتبرؤ من الحول والقوة؛ فهذا خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- يتبرأ من أصنام قومه، ويعلن فقره لله -تعالى- في كل شئونه الدنيوية والأخروية: (قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ *وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشعراء:75-82]، وهذا اعتراف منه –عليه الصلاة والسلام- بفضل الله -تعالى- عليه، وإعلان الفقر والحاجة إليه، وتعداد نعمه عليه.
وهذا نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- كان أشد الناس فقرا إلى الله -تعالى-، واعترافا بفضله، وتعدادا لنعمه، وتعلقا بجنابه، وإلحاحا في دعائه، وكان -عليه الصلاة والسلام- يربي ذريته وأمته على دوام الافتقار إلى الله -تعالى-، والإقرار بالحاجة إليه -سبحانه- في كل شيء، روى أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لابنته فاطمة -رضي الله عنها-: "ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"(رواه الحاكم).
إننا مفتقرون إلى الله -تعالى- في صلاح قلوبنا، وزكاء أعمالنا، واستقامتنا على ديننا، وكل ذلك بيد الله -تعالى-؛ إذ إن قلوبنا بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء، ومفتقرون إليه -سبحانه- في حفظ أنفسنا وأولادنا وأموالنا من الأمراض والحوادث والجوائح، ومفتقرون إليه -سبحانه- في دوام أمننا واستقرارنا، وفي حفظ بلادنا وبلاد المسلمين من مشاريع الكفار والمنافقين، ومفتقرون إليه -عز وجل- في ديمومة النعم التي أنعم بها علينا، فهو من يملك بقاءها وزوالها؛ فافتقروا إليه سبحانه يغنكم، ولا تستغنوا بغيره فتهلكوا.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم