الاعتناء بالأعمال الصالحة

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2024-08-09 - 1446/02/05 2024-10-29 - 1446/04/26
عناصر الخطبة
1/الاعتناء بالباقيات الصالحات 2/خطورة تفضيل الدنيا على الآخرة 3/التحذير من الغفلة والإسراف 4/عواقب التنافس على الدنيا.

اقتباس

لقد شَغَلنا التكاثر في هذه الدنيا عن ذِكْر الله وعن الصلاة... لقد أسرفنا في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب، وتعدينا في ذلك الحدود، فما أكثر النعم التي تُرْمَى في النفايات!.. لقد أضعنا الكثير من...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله مُوفِّق مَن شاء من عباده لطاعته، فقام بالأعمال الصالحة رجاء ثوابه -تعالى- وخوفًا من عقابه، فسبحانه من إله عظيم، وملك كريم، يُضِلّ مَن شاء، ويهدي من يشاء، أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير مؤثر للآخرة على الدنيا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بطاعة المولى خير قيام، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-، واعتنوا بالأعمال الصالحة، ولا تغرنّكم الحياة الدينا بزخرفها، فإنما هي متاع قليل، والآخرة خير وأبقى.

 

عباد الله: عليكم بالباقيات الصالحات فإنها خير لكم من المال والبنين؛ قال -تعالى-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[سورة الكهف:46]؛ قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: "أي الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من انشغالكم بهم والجمع لهم والشفقة المفرطة عليهم، ولهذا قال: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).

 

قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: "الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس"، وقال عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس: "الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر".

 

وهكذا سُئل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن الباقيات الصالحات ما هي؟ فقال: "هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "هي الأعمال الصالحة كلها"، واختاره ابن جرير -رحمه الله-.

 

أيها المسلمون: إن من تفضيل الدنيا على الآخرة الحرص على المال والشرف، بل إنه مفسدة للدين، وذلك لما رواه الإمام أحمد وغيره عن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حِرْص المرء على المال والشرف لدينه".

 

فالحرص على جمع المال، وعلى الوصول إلى الجاه والرفعة يُفْسِد الدين؛ وذلك لما يحصل من الافتتان بالمال والانشغال به، ولما يحصل من التطاول والتعالي على الغير، فما أعظمه من مَثَل يضربه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا انفرد ذئبان جائعان بغنم فماذا سيبقى منها ما لم يُؤْكَل أو يُعْقَر؟ ماذا سيبقى لنا من الدين إذا حرصنا على المال والشرف؟!

 

عباد الله: لقد شَغَلنا التكاثر في هذه الدنيا عن ذِكْر الله وعن الصلاة، مع اليقين بأن هذا المال ليس كله لنا حقيقة، فمالنا الحقيقي ليس هو الذي نأكله فنفنيه، أو نلبسه فنبيله، وإنما الذي نتصدق به فنمضيه، فعن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- أنه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)[سورة التكاثر:1]؛ قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت"(رواه مسلم).

 

 ولقد أسرفنا في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب، وتعدينا في ذلك الحدود، فما أكثر النعم التي تُرْمَى في النفايات! وما أكثر ما يُقدَّم إلى الأكل ولا يُؤكَل! وما أكثر ما يُفصَّل من الملابس! وما أضخم القصور والمنازل! وما أكثر ما فيها من أثاث! وما أكثر الأنواع لما يركب!

 

لقد أضعنا الكثير من العمر في الحصول على ذلك، ألا نذكر الوقوف بين يدي الله وسؤاله عن هذه الأشياء كلها، وهل أعددنا للسؤال جوابًا؟ فعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن عمله فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه".

 

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-، ولا تغرّنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، تذكروا الآخرة واستعدوا لها، احذروا من تزيين سوء العمل للنفس فإنه سبب للضلال عن الهدى.

 

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[سورة فاطر:5-8].

 

بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الكريم، الذي أسبغ علينا نعمه الكثيرة ظاهرة وباطنة، الحليم على عباده، فلا يُؤاخذهم بما كسبوا، ولو فعل ذلك لهم ما ترك على ظهرها من دابة، فسبحانه من إله عظيم، ورب رحيم، أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العظيم الذي سنُعْرَض عليه يوم القيامة حتمًا لا تخفى منا خافية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين وأفضل المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، وأخلصوا له الأعمال، تذكروا دائمًا أهم شيء خُلِقْنَا له؛ قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[سورة الذاريات:56]، فأهم شيء خُلِقْنَا له عبادة الله -تعالى-، وذلك بتوحيده وطاعته وطاعة رسوله، مع الإخلاص لوجه الله -تعالى-؛ قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)[سورة البينة:5].

 

 أما الزرق فلا يكون جُلّ هَمّنا؛ لأن الله قد تكفَّل به؛ قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[سورة الذاريات:58]، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[سورة الطلاق:2-3]، وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها".

 

 وقد خاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا من الدنيا أن تُبْسَط علينا فنتنافس فيها فتُهلكنا، وأقسم على ذلك، كما في حديث عمرو بن الأنصاري المتفق عليه: ففيه يقول رسول الله لأصحابه حين قدمت الجزية من البحرين: "أبْشِروا وأمِّلُوا فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبْسَط الدنيا عليكم كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".

 

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتَح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها"(متفق عليه)؛ فيا عباد الله: هذا النبي قد أشفق علينا من الدنيا أن تُهلكنا، فهل خفنا مما خافه علينا؟

 

 اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك فينا ولا يرحمنا، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم وفقنا للأعمال الصالحة، واجعل ما يسرته لنا خالصًا لوجهك الكريم.

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات

الاعتناء بالأعمال الصالحة.doc

الاعتناء بالأعمال الصالحة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات