الاستعجال المذموم

فيصل بن جميل غزاوي

2024-10-18 - 1446/04/15 2024-10-19 - 1446/04/16
عناصر الخطبة
1/العجلة طبيعة في الإنسان ركبت فيه 2/صفات الإنسان المتعجل 3/بعض صور الاستعجال المذمومة 4/الله تعالى لا يعجل كعجلة العباد 5/أمور لا تحتمل التأخير 6/وجوب المسارعة لعمل الآخرة

اقتباس

هناك أمورٌ لا تَدخُل في العجلة المذمومة، بل مطلوبٌ أن يبادرَ المرءُ بفعلها، ويسارعَ إلى اغتنامها، فمِمَّا لا يحتمل التأخيرَ أو التأجيلَ: الإقلاعُ عن الذنوب والمعاصي، وسرعةُ التوبة والإنابة إلى الله، والمبادَرةُ إلى فِعْلِ الطاعاتِ، وانتهازُ الفرصِ إذا حانَتْ...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102].

 

أما بعدُ: فإنَّ اللهَ -تعالى- هو الحكيم العليم، أفعالُه صادرةٌ عن حِكمةٍ بالغةٍ، ومصلحةٍ عظيمةٍ، وغايةٍ حميدةٍ، وهو المطَّلِع على مبادئ الأمور وعواقبها، والواضع للأشياء في مواضعها، والعالِم بخواصها ومنافعها، والخبير بحقائقها ومآلاتها، ما أعظَمَ شأنَه، وأعزَّ سلطانَه.

 

عبادَ اللهِ: أمَّا شأنُ الإنسانِ فكما بيَّن القرآنُ، قال تعالى: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)[الْأَنْبِيَاءِ:37]؛ أي رُكِّب على العَجَلَةِ، وجُبِلَ عليها؛ فالعجلةُ في طبعِه وتكوينِه، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)[الْإِسْرَاءِ:11]؛ أيْ: مُبالِغًا في العَجَلَةِ؛ يَتَسَرَّعُ إلى طَلَبِ كُلِّ ما يَقَعُ في قَلْبِهِ ويَخْطُرُ بِبالِهِ؛ ولا يتأنى، بل يُبادرُ الأشياءَ ويستعجلُ بوقُوعِها.

 

والعَجِلُ -أيها الإخوةُ- له صفاتٌ يُعرَفُ بها، قال أبو حاتم البُستيُّ -رحمه الله-: "إنَّ العَجِلَ يقولُ قَبل أن يَعلمَ، ويُجِيبُ قبلَ أنْ يَفْهَمَ، ويَحمدُ قبلَ أنْ يُجَرِّبَ، ويَذُمُّ بعد ما يَحْمَدُ، والعَجِلُ تَصْحَبُهُ النّدَامةُ، وتَعتزِلُهُ السّلامةُ، وكانتِ العربُ تُسمِّيها أمَّ النَّدَامَاتِ".

 

معاشرَ المسلمينَ: للعَجَلَةِ المذمومةِ صورٌ كثيرةٌ، وأمثلةٌ متعددةٌ؛ فمن ذلك أن يستعجل الإنسانُ بسؤال الله ما يَضرُّه كما يستعجل في سؤال الخير، قال تعالى: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)[الْإِسْرَاءِ:11]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ عَجَلَةِ الْإِنْسَانِ، وَدُعَائِهِ في بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ (بِالشَّرِّ)؛ أَيْ: بِالْمَوْتِ أَوِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَاللَّعْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوِ اسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ لَهَلَكَ بِدُعَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)[يُونُسَ:11].

 

ومن صور العَجَلة: أن يتعجَّل المرءُ في الحُكم بين المتنازعينِ قبل التبيُّن، وقد جاء في وصيته -صلى الله عليه وسلم- لعليٍّ -رضي الله عنه- لَمَّا بعَثَه إلى اليمن قاضيًا: "فإذا جلَسَ بينَ يديكَ الخَصْمانِ، فلا تَقضينَّ حتَّى تسمَعَ مِنَ الآخَرِ، كما سمِعتَ مِنَ الأوَّلِ، فإنَّهُ أحرى أن يتبيَّنَ لَكَ القضاءُ".

 

ومنها: الاستعجالُ في نتائجِ الدعوةِ إلى اللهِ، ورؤيةِ ثمارِ الجُهدِ والبذلِ، فإِنْ رأى عدمَ استجابةٍ مِنَ الناسِ، تذمَّر وتضجَّر وتوقَّف عن دعوتهم، وقد يُبادِر بالدعاء عليهم، ويتعجَّل هلاكَهم، عَنْ قَتادَة -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)[الْقَلَمِ:48] قالَ: "لا تَعْجَلْ كَما عَجِلَ، ولا تُغاضِبْ كَما غاضَبَ".

 

ومِنَ العَجَلة أن يستبطئ المؤمنُ النصرَ، قال -عز وجل-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[الْبَقَرَةِ:214]، قال القرطبي -رحمه الله-: "أَيْ: بَلَغَ الْجَهْدُ بِهِمْ حَتَّى اسْتَبْطَؤوا النَّصْرَ، فَقَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[الْبَقَرَةِ:214]، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ عَلَى طَلَبِ استعجالِ النصرِ لا على شكٍّ وارتيابٍ".

 

ومنها أن يستبطئ المؤمنُ نزولَ العذابِ بالأعداءِ وحلولَ العقوبةِ بهم، قال -تعالى-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)[الْأَحْقَافِ:35]، قال البقاعي -رحمه الله-: "وَلَمَّا أمَرَهُ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ مِن أعْلى الفَضائِلِ، نَهاهُ عَنِ العَجَلَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الرَّذائِلِ، لِيَصِحَّ التَّحَلِّي بِفَضِيلَةِ الصَّبْرِ الضّامِنَةِ لِلْفَوْزِ والنَّصْرِ...".

 

والأعظم مِنْ هذا الأمر -أيها الإخوةُ- أن يستعجل الكفارُ بوقوع العذاب بهم تكذيبًا وجحودًا وعنادًا واستبعادًا، قال -تعالى-: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ)[الْحَجِّ:47]، ومِنْها نقلُ الأخبار قبلَ التثبُّت من صحتها، وإذاعةُ الشائعاتِ والأباطيلِ، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الْحُجُرَاتِ:6]، وقال -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النِّسَاءِ:83].

 

وممَّا يدخُل في هذا الباب التعجُّلُ في نسبة الأقوال لغير قائليها، وعزوُ الكلام لغير أصحابه، وأظهَرُ أمثلةِ ذلك نشرُ الأحاديثِ المكذوبةِ على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونسبةُ ما لم يَقُلْه إليه.

 

ومِنَ العَجَلةِ المذمومةِ -أيها الإخوةُ- إسراعُ الخطى عندَ الذهاب إلى المسجد لإدراك الصلاة، ولا سيما إذا كان الإمام قبيلَ الركوع أو أثناءَ ركوعه، ومنها الاستعجال في أداء الصلاة، فلا يتمُّ ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئنُّ فيها، والإسراع في الصلاة إذا كان يُخِلُّ بركنِ الطمأنينةِ فإنَّها تَبطُل، وقد قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: "ارْجِعْ فصلِّ فإنكَ لم تُصَلِّ"، كما أنَّه نُهي عن التشبه بفعل المنافقينَ في نقر الصلاة نقرًا.

 

وممَّا يدخل في باب العَجَلَةِ المُحرمةِ في الصلاة: مُسابَقةُ الإمامِ؛ فإن المطلوب من المأموم أَنْ يكونَ مُتابِعًا لإمامه، لا يُسابِقُه، ولا يتأخَّرُ عنه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَمَّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبِّرُوا، وإذا ركَع فاركعوا، وإذا سَجَدَ فاسجدوا".

 

ومنها استعجالُ العبدِ إجابةَ دعوته وتفريجَ كربته، قال صلى الله عليه وسلم: "يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"، ومنها أن يَطْلُبَ من الله حاجاتِه، ويتَركَ ما كان يَنبَغي له أنْ يَبدَأَ به مِنْ آدابِ الدُّعاء، فقد سمعَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رَجُلًا يَدعو في صلاتِهِ لم يُمجِّدِ اللَّهَ -تعالى-، ولم يُصلِّ على النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فقالَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: "عجِلَ هذا، ثمَّ دعاهُ فقالَ لَهُ أو لغيرِهِ: "إذا صلَّى أحدُكُم فليَبدَأ بتَمجيدِ ربِّهِ جلَّ وعزَّ والثَّناءِ علَيه، ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم، ثمَّ يَدعو بَعدُ بما شاءَ".

 

ومِنَ الفوائدِ المستنبَطةِ من قوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطَّلَاقِ:3]، ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- بقوله: "لَمَّا ذَكَرَ كِفايَتَهُ لِلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ، فَرُبَّما أوْهَمَ ذَلِكَ تَعْجِيلَ الكِفايَةِ وقْتَ التَّوَكُّلِ، فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِه: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطَّلَاقِ:3]؛ أَيْ: وقْتًا لا يَتَعَدَّاهُ، فَهو يَسُوقُهُ إلى وقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ، فَلا يَسْتَعْجِلُ المُتَوَكِّلُ ويَقُولُ: قَدْ تَوَكَّلْتُ، ودَعَوْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئًا، ولَمْ تَحْصُلْ لِي الكِفايَةُ، فاللَّهُ بالِغُ أمْرِهِ في وقْتِهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَه" انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

ومنها استبطاءُ الرزقِ، فيستعجلُ فيطلبُه من طُرُق محرَّمة، ووجوهٍ غيرِ مشروعةٍ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يحملنكم استبطاءُ الرزقِ على أن تطلبوه بمعصيةِ اللهِ؛ فإنَّ ما عندَ اللهِ لا يُنالُ إلا بطاعتِه".

 

ومِنَ العَجَلَةِ المذمومةِ -أيها الإخوةُ- القولُ على الله بغير علم، والاستعجال في الفتيا للمؤهَّل أو لِمَنْ هو ناقلٌ لها، وقد كان سلفُ هذه الأمة من الصحابة والتابعينَ يَهابُونَ الفتوى ويتريَّثون فيها، بل ويتدافعونَها فيما بينَهم.

 

ومنها عدم الصبر على حالة واحدة، وإن كانت حالةَ نعمةٍ ورخاءٍ، حتى يملَّ عنها ويسأمَ ويريدَ التحولَ إلى حالة هي دون تلك الحالة، ويرضى بشيء دُون.

 

ومنها العجلة في الحُكم على الأشخاص والأقوال والأفعال والنِّيَّات والمقاصد قبلَ البحث والتَّحري، وفي سوء الظنِّ بإخوانه المسلمين قبل التَّثبُّت واليقين.

 

ومنها التعجلُ في الاعتماد على نتائج التقنيات الحديثة، ومحرِّكات البحث الآلية، وأنظمة الذكاء الاصطناعيّ، من دون النظر إلى ما قد يَنتُجُ عنها، من المعلومات الخاطئة والمضلِّلة، وعدم الرجوع إلى المصادر الموثوقة في ذلك.

 

ومنها الاستعجال في الجزم بتنزيل علامات الساعة وأحداث آخِر الزمان والملاحم على الواقع، ومنها العجلةُ والتسرعُ في اتخاذ بعض القرارات التي تحتاج إلى تأنٍّ ودراسةٍ وتأمُّلٍ، ولا يغيب عن الأذهان أن الاستخارة والاستشارة ركنان أساسيَّان لكلِّ قرارٍ حكيمٍ وموفَّقٍ.

 

ومنها العجلة في طلاقِ الرجلِ زوجتَه، ومخالَعةِ المرأةِ زوجَها لأتفهِ سببٍ وأدنى موقفٍ، والمبادَرةُ إلى اتخاذِ قرارِ التفرُّقِ مِن غير تأمُّلٍ ولا تَرَوٍّ ولا نظرٍ في العواقب، وكَمْ كان لذلك من نتائج وخيمة من تدمير البيوت وتشتيت الأسر، وضياع الأولاد وقطيعة الأرحام.

 

ومنها الاستعجالُ والسرعةُ في قيادة السيارات، وما يترتَّب على ذلك من الحوادث المروِّعة، التي كانت سببًا في إزهاق نفوس كثيرة، وأمراض خطيرة، وعاهات مزمنة وتلَف للأموال.

 

وأخطر صور العجلة المذمومة على الإنسان إيثار العاجل على الآجِل، والاستغراق في متع الحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة، فَمِمَّا يقال للذين كفروا يوم القيامة تقريعًا وتوبيخًا: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بها)[الْأَحْقَافِ:20]، فَمَنِ استوفى طيباتِه وانغمَس في شهواتِه المحرَّمة واستعجَلَها في هذه الدار حُرِمَها في الآخرة.

 

أيها الإخوةُ: إن الاستعجال في الأمور قبلَ أوانِها ووقتِها مُفسدٌ لها في الغالب؛ وإنَّ الأناةَ والحِلْمَ والتُّؤدةَ والرفقَ من الصفات العظيمة التي يُحبُّها اللهُ -سبحانه-، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لأشجِّ عبدِ القيسِ: "إنَّ فيكَ خَصلتينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمَ، والأناةَ"، وإن مجاهَدة النفس على الصبر والتمهل والتأني، تَقِي -بإذن الله- الوقوعَ في طريق الانحراف، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: "إذا انحرفتَ عن خُلُقِ الأناةِ والرفقِ انحرفتَ إمَّا إلى عَجَلَةٍ وطيشٍ وعنفٍ، وإمَّا إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، والرفقُ والأناةُ بينَهما".

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الحكيم العليم، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: من طبيعة العباد أنهم يَعْجَلُونَ، والله -تعالى- لا يعجل لعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد، عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ‌وَهُوَ ‌مُتَوَسِّدٌ ‌بُرْدَةً لَهُ في ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ في الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، ‌وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".

 

عبادَ اللهِ: هناك أمورٌ لا تَدخُل في العجلة المذمومة، بل مطلوبٌ أن يبادرَ المرءُ بفعلها، ويسارعَ إلى اغتنامها، فمِمَّا لا يحتمل التأخيرَ أو التأجيلَ: الإقلاعُ عن الذنوب والمعاصي، وسرعةُ التوبة والإنابة إلى الله، والمبادَرةُ إلى فِعْلِ الطاعاتِ، وانتهازُ الفرصِ إذا حانَتْ، وكلُّ ما كان تقديرُه وعواقبُه حسنةً بعدَ إعداد وترتيب، قال -تعالى- حاكِيًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسى -صلى الله عليه وسلم-: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه:84]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَظاهِرُ الآيَةِ أنَّ الحامِلَ لِمُوسى على العَجَلَةِ: هو طَلَبُ رِضا رَبِّهِ، وأنَّ رِضاهُ في المُبادَرَةِ إلى أوامِرِهِ، والعَجَلَةِ إلَيْها".

 

والمسارعة في الخيرات -أيها الإخوةُ- مَنقبَةٌ محمودةٌ، وسمةُ جميعِ الأنبياءِ -عليهم السلام-، قال -تعالى- (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ)[الْأَنْبِيَاءِ:90]، والأصلُ في عمل الآخرة المسارَعةُ إليه والمسابقةُ فيه، وعدمُ التباطؤ عن العبادة، وعدمُ التأخُّر عن الخير، قال -سبحانه-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)[الْحَدِيدِ:21]، وقال -عز وجل-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)[آلِ عِمْرَانَ:133]، وقال جل ثناؤه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[الْبَقَرَةِ:148]، وقال جلَّ شأنُه: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ:26]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "التُّؤَدَةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلا في عمل الآخرة"، وعن علي -رضي الله عنه- قال: "ثلاثة لا تُؤَخِّرْهَا: الصلاةُ إذا أتَتْ، والجنازةُ إذا حضرَتْ، والأيمُ إذا وجدَتْ كُفؤًا"، وعن حَاتِم الأصمِّ -رحمه الله- قال: "کَانَ يُقَالُ: الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا في خَمْسٍ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ إِذَا حَضَرَ الضَّيْفُ، وَتَجْهِيزُ الْمَيِّتِ إِذَا مَاتَ، وَتَزْوِيجُ الْبِکْرِ إِذَا أَدْرَکَتْ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ إِذَا وَجَبَ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا أَذْنَبَ".

 

ألَا وصلُّوا وسلِّموا عباد الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، كما أمركم ربكم -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56]، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّرْ أعداءَكَ أعداءَ الدين، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا رخاءً وسعةً، وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ كُنْ لإخواننا المستضعَفين والمجاهِدينَ في سبيلك، والمرابطينَ على الثغور، وحماة الحدود، اللهمَّ كُنْ لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهمَّ آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، واجعل ولايتَنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأفعال، يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهمَّ وفقه وولي عهده لهداك وتقواك، اللهمَّ أنج المستضعَفين من المؤمنين في فلسطين، وفي كل مكان، اللهمَّ اشف مرضاهم، وعاف مبتلاهم، واحقن دماءهم، وارحم موتاهم، وتقبل في الشهداء قتلاهم، اللهمَّ كُنْ لهم، ولا تكن عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم، اللهمَّ انتقم من عدوك وعدوهم، واشدد وطأتك عليهم، واقذف الرعب في قلوبهم، ورد كيدهم في نحورهم؛ (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الْكَهْفِ:10]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ:201]، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وآله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

الاستعجال المذموم.doc

الاستعجال المذموم.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات