الاختلاط

سامي بن عبد العزيز الماجد

2012-02-19 - 1433/03/27
عناصر الخطبة
1/ الاختلاط وعمل المرأة 2/ مفاسد الاختلاط ومساوئه 3/ شبهات تسعّر شهوات 4/ صور الاختلاط وأحكامها 5/المرأة بين الإفراط والتفريط

اقتباس

النظرة الواقعية في طبيعة العلاقة بين الجنسين تفرض التحرزَ والتحوطَ، لا التساهل وإحسان الظن والتعويلَ على الحصانة الإيمانية والثقافية، والنظرة الواقعية تقول: قل من الشباب من يتقي ويصبر إذا أحاطت به المغريات من كل جانب. والنظرة الواقعية تقول: إذا اختلط الشبان والشابات ثارت بينهم عقابيل الفتنة، ونشأت فيهم العلاقات المحرمة والصداقات الحميمية التي تجعل الصديق كالزوج في بعض العلاقة ..

 

 

 

 

 

أيها الأحبة في الله: لا تكاد تثار قضيةُ عملِ المرأة إلا وتثار معها قضيةُ الاختلاطِ وكأنه قد كُتب على المرأة ألا تعملَ إلا وقد خالطت الرجال، وصار لها زملاءُ عمل كما لها زميلات.

وأصبحت الدعوى العريضةُ في هذا الباب أن منع الاختلاط في العمل ليس له معنى إلا تضييق مجالات العمل للمرأة، وحرمانها من أبواب كثيرة من الرزق، وحُكم على كل مطالبة بعزل الرجال عن النساء بأنها مطالبات مكلفة تُهدر الأموال الطائلة، فإنفاق المال في هذا هو تضييع له وتبديد للثروات وكلفة ليس لها معنى صحيح.

وما جاء هذا الحكم الجائر والنظر القاصر إلا من النظرة الاقتصادية الماديةِ الصرفة، التي لا تراعي في حسابات الربح والخسارة مكتسباتِ القيم الفضائلِ، فليس معدوداً من المكتسبات التي تستحق أن يصرفَ فيها المال أن تحافظ على أخلاق الموظفين والموظفات وعلى أعراضهم، وأن تسدَّ عليهم ذرائع الفتنة والفاحشة. ولذا يرون الإنفاق في مراعاة هذه المقاصد هدراً للمال.

وتجد من هؤلاء من يناقش قضيةَ الاختلاط بمثالية مفرطة، فينظر إلى واقع الشبان والشابات بنظرة مثالية تراهم بمنأى بعيد عن أن ينزلقوا في مزالق الفاحشة، وأن نضجَ عقولهم وحصانة أخلاقهم تمنعهم مهما اختلطوا أن يقعوا في شيء من طرائق الفاحشة.

والعجيب أن هؤلاء يدعون الواقعيةَ في التعامل مع الواقع، ويطالبون غيرهم أن يعالج الأمور بنظرة واقعية تراعي طبيعة البشر وطباعَهم، ويتناسون أن من طبيعة البشر ميل كل جنس إلى الآخر.

ويتناسون أن النظرة الواقعية في طبيعة العلاقة بين الجنسين تفرض التحرزَ والتحوطَ، لا التساهل وإحسان الظن والتعويلَ على الحصانة الإيمانية والثقافية، والنظرة الواقعية تقول: قل من الشباب من يتقي ويصبر إذا أحاطت به المغريات من كل جانب.

والنظرة الواقعية تقول: إذا اختلط الشبان والشابات ثارت بينهم عقابيل الفتنة، ونشأت فيهم العلاقات المحرمة والصداقات الحميمية التي تجعل الصديق كالزوج في بعض العلاقة.

وثمة شبهة يثيرها أولئك الذين يريدون أن يُطبِّعوا المجتمع على الاختلاط وهي أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تحريمُ الاختلاط، وإنما هو من زيادات الفقهاء التي هي محض آراء. وأن المحرم إنما هو الخلوة وليس الاختلاط.

والجواب: أنه ليس كلُ ما لم يُنصَّ على تحريمه صراحةً في الكتاب والسنة يكون مباحاً بإطلاق؛ لأن أدلة الأحكام لا تنحصر في الكتاب والسنة، فمن الأدلة التي تستنبط بها الأحكام الشرعية القياس وسدُّ الذرائع، ولا يصح أن نقول إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان إلا إذا أخذنا بحجية القياس؛ لأن الوحي قد انقطع والحوادث والأقضية تستجد فلا معدل من الأخذ بالقياس.

وأنت لو عرضت كتابَ الله آية آية، لما وجدت فيه نصاً صريحاً يحرم على الولد ضرب والديه؛ لكنك واجد فيه نهياً صريحاً للولد أن يقولَ لهما أفٍ أو ينهرَهما، ومع ذلك فكل عاقل يفهم أساليب الخطاب يدرك من النهي عن مجرّد التأفف للوالدين النهيَ عن كل ما هو أعظم منه من باب أولى.

وكم نص الشرع على حكم الأدنى ليدل على الأعلى من باب أولى، ولذا نقول: إن من غير المظنون بالشرع الحكيم أن ينهى عن خروج المرأة متعطرة ليجد الرجال من ريحها، ثم يأذن لها أن تزاحم الرجال لتجر وراءها الفتنة!

ومن اتهام الشرع في حكمته وعقلانيته أن نـزعم أنه يُبيح صور الاختلاطِ كلَّها لأنه لم ينصّ على تحريمها، وهو الذي نهى المرأة عن مجرد ضربها برجليها؛ ليُعلم ما تخفي من زينتها!

كما أن سد الذرائع أصل أخذ به جمهور العلماء في كل ما غلبت فيه المفسدة على المصلحة، وإنما اختلفوا في بعض فروع ذلك لاختلافهم في تقدير المفسدة والمصلحة، وهل ينازع عاقل في أن الاختلاط المنتظم المتكرر في العمل يفضي إلى كثير من المفاسد؟! وقاعدة سد الذرائع معمول بها في القوانين والنظم ولك أن تستقرئ كثيرًا منها لتجد شواهد ذلك جلية كل الجلاء.

ولو كان الشأنُ ألا نحرِّم إلا ما حرّم بنص صريح ولا نوجب إلا ما وجب بنصٍ صريح يفهمه كل أحد لما كان لنا من حاجة أن نسأل العلماء عن أحكام ديننا، فلما أن أمرنا الله بسؤالهم دل ذلك على أن في الشرع من الأحكام الشرعية ما لا يستنبطه إلا العلماء العارفون بدلالات الألفاظ وفحوى الخطاب وطرق القياس.

أيها الأحبة: إذا كان سكوت الشرع عن النص على الاختلاط لا يدل على جوازه بإطلاق، فإن قواعد الشريعة التي تراعي درء المفسدة وجلب المصلحة لا تقضي بتحريم الاختلاط بإطلاق! فليست صور الاختلاط كلُّها جائزة، وليست كلُّها محرَّمةً أيضاً، فمنه ما هو محرّم؛ لأن مفسدته ظاهرة يمكن درؤها، ومنه ما هو مغتفرٌ؛ لأن المفسدة فيه غير ظاهرة، أو لأن الاحتراز عنه يشق.

ومن هنا: فإن فمجرد وجود الرجال مع النساء في الأسواق والطرق لا يعد اختلاطاً محرّماً، بل ولا يعد من الصور التي يحتملها لفظ الاختلاط.

والذي يُدرجُ هذه الصورة في صور الاختلاط المحرَّم يلزمه أن يجعل الرجال في كوكبٍ والنساء في كوكب آخر، وإلا فهو يناقض نفسه من حيث لا يشعر؛ لأنه سيجد نفسه كثيراً في مكان يوجب به نساء، وسيجد امرأته في مكان يوجد به رجال، وهذه الطرق والشوارع شاهدة على ذلك.

وليس أحد بأغير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع شدة غيرته فإنه لم يكن يمنع النساء أن يمشين في طريق يمشي فيه الرجال، ولا أن يمنع الرجال من طريق تمشي فيه النساء.

وليس من الاختلاط الذي يُقطع بتحريمه: اختلاط العائلات في المنتزهات والأسواق والمعارض والأماكن العامّة ذات الطرق الواسعة التي لا يكون فيها تزاحم ولا تبرّج ولا سفور، ولا سفهاءُ يتحرّشون بأعراض المسلمين. وكما أن النساء فيها مأمورات بالتزام الحجاب، فالرجال مأمورون كذلك بغض البصر عن العورات.

إن بعض الرجال من لا يرى التجاوز والتساهل إلا من قبل النساء فيما يبدينه من زينة وسفور، أما هو فله أن يطلق لبصره عنانه كما يحلو له، غيرَ آبةٍ ولا لائمٍ لنفسه هذا التجاوز وينسى أن الله أمره بغض بصره كما أمر النساء بالحجاب.

إن الشأن في هذه الأماكن العامة الواسعة في الغالب أن كل عائلة مهمومة بأمرها منشغلة بحاجاتها، فلا المرأة تخلو بالأجنبي ولا الرجل منفردٍ ليعاكس النساء، وإذا وجد شيء من ذلك فلا ينبغي أن يعم المنعُ الجميع، ليحرموا لأجل شذاذ يمكن منعهم وتأديبهم.

فمن صور الاختلاط: الاختلاط المنتظم المتكرر للأشخاص أنفسهم، وهو الاختلاط الذي يكون بين الموظفين والموظفات في العمل، والفرق بين هذا الاختلاط والاختلاط الذي يكون في الأماكن العامة: أن الاختلاط الذي يكون في الأماكن العامة اختلاطٌ عفوي لا تنشأ عنه علاقات وصداقات، بخلاف اختلاط العمل، فهو الاختلاط الذي ترتفع فيه الحواجز بين الجنسين شيئاً فشيئاً، وتنشأ العلاقة من زمالة فصداقة فحب وغرام؛ ليس هذا أمرًا مطّرداً بلا شك حتى ولا في الدول الكافرة، فبعضهم وإن كان مبتلىً بهذه الوظيفة؛ لكنه معافىً بحفظ الله من عقابيل هذه الفتنة، وهو معها في مجاهدة ومصابرة لا يأمن عواقبها. غير أن الواقع في حبائلها كثيرٌ، واسألوا من يعملون في هذه الوظائف، لينبِّئوكم بها، ولا ينبئك مثلُ خبير.

وعن أبي أسيد أنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم – يقول –وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق-: "استأخرن، فليس لكنّ أن تحققن الطريق – أي تذهبن في وسط الطريق- ، عليكن بحافات الطريق"، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. أخرجه أبو داود بإسناد حسن.

أما بعد: فقد ذهب الزاعمون إباحةَ كل اختلاط ولو كان اختلاطاً منتظماً تفضي إلى الخلوة في بعض أحواله إلى الاحتجاج على إباحته بالاختلاط الحاصل في الطواف، والجواب عن ذلك فيما أخرجه البخاري عن ابن جريج قال: "أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء من الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قال: لم يكنّ يخالطن، كانت عائشة تطوف حجرة من الرجال –أي معتـزلةً للرجال– ، لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: انطلقي عنك. وأبت، يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كنّ إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال".

وروى الشافعي في مسنده أن مولاة لعائشة دخلت عليها فقالت لها: "يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعاً واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً". فقالت لها: "لا آجرك الله، تدافعين الرجال؟ ألا كبرت، ومررت به؟!".

وهنا لا بد من التنبيه إلى أمرين:

الأول: أن عائشة –رضي الله عنه– لم تجتنب الطواف بحضرة الرجال، ولم تنهَ النساء عن ذلك، وإنما كانت تتجنب مزاحمة الرجال ومخالطتهم، وكانت تنهى عن ذلك النساء.

وهذا يقرر بجلاء أن مجرد وجود الرجال والنساء في مكان واحد ليس من الاختلاط المحذور، كما تقدم.

الثاني: ما يقع في الطواف من اختلاط الرجال بالنساء جرّاء الزحام الشديد لا يصح أن يجعل دليلاً على جواز الاختلاط؛ لأن أكثر ما يقع من ذلك إنما هو حال حاجة ملحّة، فهو استثناء لا ينبغي أن يجعل أصلاً.

ولا معنى أن نأمر المرأة عند شدة الزحام أن تبتعد عن مخالطة الرجال، ونحن نعلم أن ذلك مظنةُ ضياعها عن محرمها! كما أن من الإشقاق عليها أن نأمرها بتأخير الطواف إلى وقت السعة وهي محكومة برفقة لا تخرج إلا معهم، وليسوا طوع أمرها يخرجون بها متى شاءت.

وإذا كان من التشديد غير السائغ أن نجعل مجرد طواف النساء مع الرجال بلا تزاحم اختلاطاً يجب إنكاره، فإن من المغالطة الصريحة أن نجعل هذه الحالة الاستثنائية أصلاً نقيس عليه صوراً كثيرة من الاختلاط التي لا تدعو إليها الحاجة فضلاً عن الضرورة.
 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات