عناصر الخطبة
1/ كثرة تقلب الدنيا بأهلها 2/ لا يسلم إنسان من الابتلاء 3/ تأملات في ابتلاء نبي الله أيوب عليه السلام 4/ كم من مِنَح في طيات المِحَن 5/ أهمية الصبر عند الابتلاء 5/ عِظَم الجزاء مع عِظَمِ البلاء.اقتباس
كم من محنةٍ في طيِّها منحةٌ! ومن هوانٍ كانت عاقبته كرامةً!.. المؤمن الواثق مهما نزلت به الأمراض.. أو ابتُلِيَ بفقد الأحباب.. أو حُرِمَ من المال والولد.. أو تكاثرت عليه مشاكل ومصائب في وظيفة أو تجارة أو سيارة أو بيت أو غير ذلك.. لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، أما الإنسان الجَزُوع فإنه إذا نزلت به المصائب ضاقت عليه مسالك الفَرَج، بل ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فييأس، فإذا يئس زاد مرضُه مرضاً وهمُّه هماً..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل بعد الشدّةِ فرجاً، وبعد الضُّر والضيقِ سعةً ومخرجاً، ولم يُخلِ محنةً من منحةٍ، ولا نِقمة من نعمةٍ، ولا نكبةً ورزيَّةً من موهبةٍ وعطيَّةٍ.
وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، جلَّ عن الشبيهِ والمثيلِ والنظير، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وسلّم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: إنّ مَن تأمَّل بعين العِبرة والبصيرة، في حال الناس هذه الأيّام، وما هم فيه من امتحانات ومحنةٍ، وكلهم ينتظر انفراجَ هذه الأيام وانتهائها، إنّ من تأمّل ذلك علم أنّ هذه الدنيا لا يستقرُّ حالها على سعةٍ ورخاءٍ دائم، وإنّما هي ابتلاءٌ وامتحان، وفرجٌ وشدةٌ، وكلُّ إنسان في هذه الدنيا تمرُّ به محنٌ وبلايا، ومصائبُ ورزايا، بينما هو في رخاءٍ إذ نزلت به شدّةٌ، وبينما هو في عافيةٍ وسعةٍ إذ فَجَأهُ مرضٌ وسُقم.
أو لعله كان في سعةِ رزقٍ ورخاء ثم يُبتلى بفقرٍ مُدقع أو دَينٍ مُضلِع، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعِجاتٌ تورث الخوف والجوع.
كم ترى من مبتلى يشكو مرضَه! وأبٍ يلوم عقوقَ ولدِه! وأمٍ ثكلى تبكي فقيدَها! كم ترى ممّن بارَت تجارتُه وكسَدَت صِناعتُه! وآخرَ قد ضاعَ جُهده ولم يُدرك مَرامَه! تلك هي الدنيا تُضحكُ وتُبكي، وتُشتّتُ وتَجمع.
إنها دار غرور لمن اغترَّ بها، وهي عبرة لمنِ اعتبَرَ بها، وهي دار صدق لمن صدَق فيهَا: (لِكَيْلَا تَأْسَوا عَلى مَا فَاتَكُم وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 23].
والمؤمن مهما أظلمَ عليه ليلُ الكروب بالأمراضِ والأحزانِ.. إلّا أنه لا ييأس من فجرٍ يبدد الله به كرباتِه وأحزانهِ؛ كما قال سبحانه: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5- 6]، وقال: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7]، وقال -عز وجل-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4].
أيوبُ -عليه الصلاة والسلام- نبيٌ كريمٌ مطهَّرٌ.. ابتلاه الله -تعالى- بالسُقم والّلأواء، وجرى عليه الدودُ والأدواء، جاء القرآن بذكره، ونطقت الأخبار بشرح أمره، قال الله -عز وجل-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83].
أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبِّه قال: "لم يكن الذي أصاب أيوبَ الجُذامُ ولكنه أشدّ؛ كان يخرج في جسده مثل ثَديِ المرأةِ، ثم يتفقّأ".
وقال مجاهد: "كان أول من أصابه الجُدري أيوب -عليه السلام-، واشتد البلاء وكرهَهُ الناس وتركوه ومات أهله وولده جميعاً، وهلك مالُه كلُه، وأُلقِي في الصحراء معه زوجةٌ لم يبقَ من أهله غيرُها، ومع ذلك كان ذا يقينٍ وصبرٍ على ما أصابه".
أخرج ابن جرير عن الحسن: "أن أيوبَ لما اشتدّ عليه البلاء جزِعت امرأتُه فقال لها: أرأيتِ ما تبكين عليهِ مما كنا فيه من المال والولد؟ فكم مُتِّعنا فيه؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمنذُ كم ابتلانا الله؟ قالت: سبعَ سنين وأشهُرَ، فقال: ويلكِ واللهِ ما عدلتِ ولا أنصفتِ ربَّك، ألا صبرتِ حتى نكونَ في البلاءِ ثمانين سنةٍ كما كنا في الرخاء ثمانين سنة..". (الدر المنثور:4/591).
ابتلاه الله بالمرض والسقم وما على الأرض أحدٌ أكرم على الله -تعالى- منه، فما زال صابراً على مرضه.. محتسباً على الله مصابَه حتى كشف الله ضره ورفع قدره وآتاه أهله ومثلهم معهم رحمة من الله وذكرى للعابدين..
ففي قصته -عليه السلام- ذكرى لكل سقيم ومريض بأن الفرج بيد الله وحده (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء: 80].
عسى فرجٌ يَأتي بِهِ اللهُ إنَّهُ *** لهُ كُلَّ يومٍ في خَليقَتِهِ شَأنٌ
ذكر التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة، عن لبيبٍ العابد قال: "رأيت حيّةً داخلةً جُحرها فأمسكتُ بذنَبِها فعضّت يدي فشُلَّت، ثم شُلّت يدي الأخرى، ثم جفَّت رجلاي ثم عَمِيتُ وخَرسْت، وبقيت سنة كاملة ملقى على فراش ليس فيَّ جارحةٌ صحيحة إلا سمعي أسمعُ به ما أكره، وكنت أُسقى وأنا ريّان، وأُترَك وأنا عطشان، وأُطعَم وأُهمَل، فدخلت امرأةٌ يوماً فسألت زوجتي: كيف أبو علي؟ فقالت: لا حيٌ فيُرجى ولا ميتٌ فينسى، فآلمني ذلك، فدعوت الله في سِرّي وبكيتُ.. فضربني ألمٌ شديدٌ ظننته الموت، حتى جاء الليل فسكن عني فنمت، فما أحسستُ إلا وقتَ السَّحَر وإحدى يديَّ على صدري وكانت مطروحة على الفراش، فحركتها فتحركت، فحركت الأخرى فتحركت.. وجعلت أقبضها وأبسطها، ثم أردت الانقلاب من غير أن يقلبني أحد فانقلبت ثم قمت.. ومشيت وأنا أطمع في بصري فخرجت إلى صحن الدار فرأيت السماء فكدت أموت فرحاً فصِحْتُ: يا قديمَ الإحسان! لك الحمد".
عسى فرجٌ يَأتي بِهِ اللهُ إنَّهُ *** لهُ كُلَّ يومٍ في خَليقَتِهِ شَأنٌ
حدث أبو جعفر طلحة بن عبد الله الطائي الجوهري قال: "كان ببغداد رجل اعتلَّ غلامُه بالبرسام فبلغ إلى درجة قبيحة وزال عقله -والبرسام: هو ورمٌ شديد يكون في الرأس-، فوضعوه في بيت وأمروا صبياً بمراعاته، فما لبثوا أن سمعوا صياح الصبي الموكل به فلما أتَوه نظروا فإذا عقرب قد نزلت على رأس العليل فلسعته في عدة مواضع، فإذا به قد فتح عينيه لا يشكوا ألماً، فأطعموه وسقوه وبرأ مما كان فيه"؛ فسبحان اللطيف الخبير..
أيها الإخوة الكرام: كم من محنةٍ في طيِّها منحةٌ! ومن هوانٍ كانت عاقبته كرامةً! ها هو يعقوب -عليه السلام- يفقد ولده الأول فيقول: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، فلما ترقب الفرج غُيِّب عنه ولده الثاني، فقال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 83]، ثم أنزل همه وكربه بربه جلَّ وعلا فقال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86]، الله أكبر.. يقين أرسى من الجبال، وعلمٌ بالله لا يخالطه شك أو جدال.
فالمؤمن الواثق مهما نزلت به الأمراض.. أو ابتُلِيَ بفقد الأحباب.. أو حُرِمَ من المال والولد.. أو تكاثرت عليه مشاكل ومصائب في وظيفة أو تجارة أو سيارة أو بيت أو غير ذلك.. لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، أما الإنسان الجَزُوع فإنه إذا نزلت به المصائب ضاقت عليه مسالك الفَرَج، بل ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فييأس، فإذا يئس زاد مرضُه مرضاً وهمُّه هماً..
أخرج الإمام أحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو ماله أو ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي أرادها الله له"، وقال: "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه" (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح).
أيها الإخوة الكرام: إن أمر المؤمن كلَّه له خير؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن.
فأين في زماننا من إذا نزلت به الكُربة رأيت منه قيام الليل وصيام النهار وصِدقَ اللَّجَأ إلى الله -تعالى- ثم إذا كشف الله كربته أكثرَ من الحمدِ والشُّكر وزاد في الطاعات.
(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 2- 3].
نفعني الله وإيّاكم بهَديِ كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيء علماً؛ أحمده سبحانه وأشكره فنعمه علينا تترى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خص بالمعجزات الكبرى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: فاعلموا -أيها المؤمنون- أن عِظَم الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وأنّ ما يقع على الناس من ضيقٍ في أموالهم، أو مرض في أجسادهم أو عقوق من أولادهم، أو مشاكل وخصومات، إن ذلك كلَّه مقدرٌ مكتوبٌ على العبد، فليس له إلا التجمُّل والصَبر.
مع تعاطي الأسباب ليصلح بها شمل نفسه ويرفع عنها ما أصابه، "وإن الله إذا أراد بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يُوافَى به يومَ القيامة"، بهذا جاء الخبر عن المصطفى المختار -صلى الله عليه وسلم- (رواه الترمذي).
اللهمّ إنا نعوذُ بكَ من جَهد البلاء، ودَرَكِ الشَّقاء، وسوءِ القضاء، وشماتَةِ الأعداء..
اللهمّ إنا نسألك خَشْيَتَك في الغيب والشهادة.
اللهمّ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرّجْته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحةً رزقته، ولا ولداً عاقّاً إلا هديته وأصلحته يا ربَّ العالمين.
اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين واخذُلِ الشِّرك والمشركين ودمِّر أعداء الدين..
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت إلى إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، سبحان ربك ربّ العزّة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم