الكتابة
26اقتباس
فقد جعلوا اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في التعامل والتعليم والحياة العامة، ومنعوا تدريس اللغة العربية، مما أدى لنشوء عدة أجيال من الجزائريين لا يحسنون التكلم بالعربية، وبالتالي لا يعرفون شيئاً عن دينهم إلا ما يتلقونه في الزوايا الصوفية من مفاهيم محرفة عن الدين والعقيدة والحياة...
لا يُعرف على مستوى التاريخ المعاصر والحديث محتل جمع بين الاستعلاء العنصري والتعصب الديني والقسوة الوحشية والشره الكبير لثروات البلاد المحتلة، مثلما عرف عن المحتل الفرنسي!!
فالفرنسيون كانوا مزيجاً غريباً من كل النقائص البشرية والجرائم الأخلاقية مع قشرة سميكة من التعصب الديني والرغبة العارمة لطمس وتذويب الهوية والمجتمعات الإسلامية. ما أن يحطون رحالهم المخيفة ويطئون بأقدامهم الثقيلة بلداً حتى تبدأ سلاسل المجازر الوحشية والإبادة الجماعية والتدمير الشامل، فهم تاريخياً أقرب الأوروبيين شبهاً بالتتار في أسلوب الحركة والهجوم على الآخرين.
لأكثر من مائة وثلاثين سنة ظل المحتل الفرنسي الصليبي جاثماً على صدر الشعب الجزائري المسلم يمارس ضده أبشع وسائل الاجتثاث والتنكيل وطمس الهوية والانسلاخ عن الدين والعروبة، ودفع الجزائريون ثمناً هو الأبهظ والأغلى في التاريخ الحديث؛ أكثر من مليوني جزائري مسلم راحوا ضحية المجازر الوحشية للمحتل الفرنسي البغيض.
وقصة تحرر الشعب الجزائري من الاحتلال الفرنسي الصليبي من أروع وأوسع قصص التحرير في العصر الحديث وفصولها مليئة بالأحداث المثيرة والتقلبات الكبيرة، وخلاصة تجربة الشعب الجزائري في التحرير كُتب فيها عشرات الكتب الزاخرة بالدروس والعبر والعظات العظيمة، بحيث تحولت تجربة التحرير إلى واحدة من أكبر الملاحم التاريخية المعاصرة، لمع خلالها أسماء المئات من الأبطال والقادة والعلماء والدعاة والمجاهدين، وفي القلب منهم وإمامهم الذي استحق لقب أبو الثورة الجزائرية ورائد التحرر الجزائري الإمام المجاهد المربي عبد الحميد بن باديس صاحب المشروع التربوي والجهادي والنهضوي والحضاري المتكامل والذي مثلت تجربته العلمية والعملية ذروة النضوج الفكري والحركي في مطلع القرن العشرين.
التعريف والنشأة
هو الإمام المصلح المجدِّد الشيخ عبد الحميد بن محمَّد بن المصطفى بن المكِّي ابن باديس الجزائري، رئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، ورائد النهضة الفكرية والإصلاحية والقدوة والملهم لحرب التحرير الجزائرية.
وُلد بقسنطينة سنة 1889ميلادية / 1307 هجرية، وسط أسرة من أكبر الأسر الجزائرية، مشهورة بالعلم والفضل والثراء والجاه، والإمارة والولاية، عريقة في التاريخ، يمتدُّ نسبُها إلى المعزِّ بن باديس الصنهاجي، فهو في مقابل اعتزازه بالعروبة والإسلام لم يُخْفِ أصله الأمازيغي، بل كان يُبديه ويُعلنه، لما لجده من منقبة عظيمة وقدم صالح في الدفاع عن الدين بالشمال الأفريقي كله، وليس الجزائر فحسب أو المغرب الأوسط كما كان يُطلق عليها قديماً، فقد كان جدُّه الأوَّل يناضل الإسماعيلية الباطنية، وبدع الشيعة في إفريقية، فصار خلفًا له في مقاومة التقليد والبدع والحوادث، ومحاربة الضلال والشركيَّات.
بدأ حياة التعلم في الكتاب القرآني على الشيخ محمد المداسي حتى حفظ القرآن عليه، ختم عبد الحميد بن باديس حفظ القرآن وهو ابن ثلاث عشرة عاماً، ومن شدة إعجاب الشيخ بجودة حفظه، وحسن سلوكه، قدمه ليصلي بالناس التراويح في رمضان بالجامع الكبير سنتين أو ثلاثا، وتلقى مبادئ العلوم العربية والإسلامية بجامع سيدي عبد المؤمن على مشايخ أجلاء من أشهرهم العالم الجليل الشيخ حمدان الونيسي ابتداء من عام 1903هـ. وهو من أوائل الشيوخ الذين كان لهم أثر طيب في اتجاهه الديني، ولا ينسى ابن باديس أبداً وصية هذا الشيخ له: "ادرس العلم للعلم لا للوظيفة"، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية الفرنسية.
وفي سنة (1327 هـ - 1908 م) التحق الشيخ عبد الحميد بجامع الزيتونة، فأخذ عن جماعة من كبار علمائها الأجلاّء، وكان الجامع زاخر بالعلماء ويموج بحركة إصلاح فكرية قوية متأثرة بمدرسة الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وفكر شكيب أرسلان والكواكبي وغيرهم من المهتمين بأحوال العالم الإسلامي ودراسة أسباب تخلفه. وقد سمحت له هذه الفترة بالاطلاع على العلوم الحديثة وعلى ما يجري في البلدان العربية والإسلامية من إصلاحات دينية وسياسية، في مصر وفي الشام وغيرهم، ممّا كان لهذا المحيط العلمي والبيئة الاجتماعية الأثر البالغ في تكوين شخصيته ومنهاجه في الحياة.
مكث الشيخ عبد الحميد بن باديس في القيروان خمس سنوات، ثم عاد للجزائر بقلب مفعم بالحماس والرغبة في نشر العلم، ولكنه واجه صعوبات بسبب توجس أرباب الطرق الصوفية من أفكاره ونشاطاته، فضيقوا على دروسه، فقرر السفر إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحج وطلب العلم على يد مشايخ الحرمين، والسياحة في الأرض للتعرف عن قرب على أحوال العالم الإسلامي وحواضر الإسلام الكبرى في مصر والشام، لمزيد من تشكيل الوعي وتمحيص الأفكار وإنضاج الرؤى.
في رحلته التقى بالكثير من العلماء وأخذ عنهم العلم وأعجبوا به لذكائه وغيرته على الإسلام والمسلمين، وقد مالت نفسه في هذه الفترة لمجاورة الحرم النبوي والاشتغال بالعلم والتعبد، ولكنه نصحه بعض العلماء بأن يعود إلى الجزائر ويؤسس حركة وطنية إسلامية لتحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي الخبيث، فآثر الشيخ المنفعة العامة وقضايا أمته الكبرى على منفعته الخاصة وحظوظ نفسه حتى لو كان هذا الحظ هو التعبد والتعلم ومجاورة الحرمين.
خلال تلك الفترة تقابل الشيخ عبد الحميد بن باديس مع رفيق دربه وشريك كفاحه وصنوه في جهاد الدعوة؛ الشيخ البشير الإبراهيمي، وكان قد سبقه في طلب العلم بالحجاز، فتلاقت أفكار الرجلين ومكثا سوياً الليالي الطويلة يخططان لحركة النهضة والدعوة لتحرير الجزائر حتى اتفقا على الشكل النهائي لخطة الإصلاح والنهوض والتحرر، وعادا سوياً إلى الجزائر سنة 1913 بطموحات كبيرة وأفكار عظيمة وتوهج فكري وعلمي ودعوي ورغبة عارمة في التخلص من المحتل الفرنسي الصليبي.
مواطن الداء وأسباب البلاء
عاد الشيخ ابن باديس إلى الجزائر وهو يحمل في قلبه وعقله أبجديات مشروعه الإصلاحي الكبير الذي يبدأ بالتربية والتعليم وإثبات الهوية وينتهي بالتحرر من أسر الاحتلال الصليبي الفرنسي.
دراسة الشيخ المستفيضة للواقع الجزائري رفقة صنوه الشيخ الإبراهيمي مكنته من وضع يديه على موطن الخلل وأصل الداء الذي استفحل واستشرى في الجسد الجزائري حتى صار واهناً للغاية أمام عدو محتل لا يرحم.
فقد وجد الشيخ -رحمه الله- أن الحالة الجزائرية تردّت إلى هذا الواقع البئيس بسبب عدة عوامل تضافرت فيما بينهما لصنع بيئة سهلة وخصبة للمحتل الفرنسي، من أهم هذه العوامل:
1-التجهيل المتعمد: فقد عمل الاحتلال الفرنسي على ضرب التعليم في الجزائر، لأن الشعب المتعلم سيكون شوكة في حلق المستعمر والمحتل، ورغم أن الجزائريين كانوا يتفوقون على الفرنسيين بنسبة التعليم قبل الاحتلال الفرنسي لبلادهم، يقول الجنرال فالز في سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية، وكتب الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر ديسمبر عام 1831م، يقول: "لقد بحثت قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب". وقد أُحصيت أكثر من 2000 مدرسة في الجزائر سنة 1830م، ما بين ابتدائية وثانوية وعالية. لكن الاحتلال الفرنسي عمل بكل قوة على محاربة العلم والمعرفة في الجزائر.
وكان التعليم في الجزائر يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مردود الأوقاف الإسلامية في تأدية رسالته، وكانت هذه الأملاك قد وقفها أصحابها للخدمات الخيرية، وخاصة المشاريع التربوية كالمدارس والمساجد والزوايا. وكان المحتل الفرنسي يدرك بأن التعليم ليس أداة تجديد خُلقي فحسب، بل هو أداة سلطة وسلطان ووسيلة نفوذ وسيطرة، وأنه لا بقاء له إلا بالسيطرة عليه، فوضع يده على الأوقاف، قاطعًا بذلك شرايين الحياة التعليمية.
وبالفعل آتت هذه السياسة الآثمة أُكلها وزاد معدلات الأمية والجهل بين الجزائريين وتخلفوا عن ركب العلم والثقافة، وشاعت فيهم الخرافات والظلام. هذه السياسة المتعمدة للتجهيل جعلت التعليم في الجزائر يصل إلى أدنى مستوى له، فحتى سنة 1901-أي بعد حوالي 70 سنة من الاحتلال-كانت نسبة المتعلمين من الأهالي لا تتعدى 3.8%، فكادت الجزائر أن تتجه نحو الفرنسة والتغريب أكثر من اتجاهها نحو العروبة والإسلام.
وفي المقابل عمد الفرنسيون لإنشاء مدارس مخصوصة لتخريج أجيال من المتغربين والمتفرنسين من أبناء الجزائر، وفرنسا لم تفتح هذه المدارس في حقيقة الأمر من أجل تعليم أبناء الجزائر، ورفع مستواهم الثقافي، بل كان الاستعمار يقصد من وراء ذلك عدة أمور، منها: تجريد الشعب الجزائري من شخصيته العربية الإسلامية، ومحاولة إدماجه وصهره في البوتقة الفرنسية بإعطائه تعليمًا هزيلاً يجعله أسهل انقيادًا لسياسته.
ومنها قتل الروح الوطنية التي أدت إلى اشتعال الثورات المتوالية، وجعل الشعب أكثر خضوعًا للاحتلال.
ومنها إيجاد قلة متعلمة للاستفادة منها في بعض الوظائف التي تخدم الاحتلال، وقد تصبح فيما بعد طابوراً خامساً للمحتل، أو طبقة حاكمة يُعهد إليها بتسيير شئون الحكم ولعب دور الوكيل للمحتل إذا اقتضت الحاجة لعودة المحتل إلى بلاده في أي وقت.
2-الطرق الصوفية: فقد وجد المحتل الفرنسي في الطرق الصوفية خير سند ومعين في إحكام قبضته على الجزائر. فمعظم الطرق الصوفية -وليست كلها- انضمت مع المحتل الفرنسي في محاربة الأمير عبد القادر الجزائري، وساهمت بجهد كبير وفعال في إجهاض ثورة الأمير!!
وقد ردّ المحتل الفرنسي الجميل للطرق الصوفية فزادت عدد الطرق وأتباعها بشكل مخيف في الجزائر في عهد الاحتلال، حتى أصبح في العاصمة لوحدها 23 طريقة صوفية، لها 349 زاوية ويتبعها 295 ألف مريد.
هذه العلاقة الخبيثة الآثمة والتي تندرج مباشرة تحت خانة العمالة وخيانة الدين والعرق والوطن، فيلخصها شيخ الطريقة التيجانية محمد الكبير في حديثه للكولونيل يسكوني: "إن من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا فرنسا ماديا وأدبيا وسياسيا، إن أجدادي قد أحسنوا صنعا في انضمامهم إلى فرنسا قبل أن تصل إلى بلادنا، ففي عام 1838 م كان أحد أجدادي قد أظهر شجاعة نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا "عبد القادر الجزائري"، وفي عام 1870 حمل سيدي أحمد برهن على ارتباطه بفرنسا قلبيا، فتزوج من (أوريلي بيكار) وهو أول مسلم جزائري تزوج بأجنبية على يد الكردينال (لا فيجري) على حسب الطقوس المسيحية". ولا نحتاج لتعليق على هذه الشهادة الصريحة في العمالة والخيانة.
3-التغريب وتذويب الهوية: المحتل الفرنسي اعتبر أن الجزائر أراضي فرنسية تابعة للدولة الأم في أوروبا، ومن قم راح يطمس كل آثار الوجود الإسلامي ليس في الواقع وعلى الأرض فحسب، ولكن أيضا في النفوس والقلوب بالقيام بواحدة من أشد وأبشع عمليات التحريف والتغريب للهوية الدينية والوطنية لبلد ما.
فقد جعلوا اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في التعامل والتعليم والحياة العامة، ومنعوا تدريس اللغة العربية، مما أدى لنشوء عدة أجيال من الجزائريين لا يحسنون التكلم بالعربية، وبالتالي لا يعرفون شيئاً عن دينهم إلا ما يتلقونه في الزوايا الصوفية من مفاهيم محرفة عن الدين والعقيدة والحياة. وهذه الحالة الدينية المشوهة وفقدان بوصلة الهوية والتغريب الذي استولى على العقول أدى إلى ضعف الهمم وخور القوى الراغبة في التحرر، وبالفعل ركدت حركات الكفاح ضد الفرنسيين، وظهرت أجيال تجهر صراحة بالولاء إلى فرنسا واعتبرها البلد الأم صاحبة الحضارة والمعارف والعلوم، ونُسيت دماء الشهداء، وطويت أخبار المجازر المروعة، وضاع جرائم تحويل المساجد والجوامع إلى كنائس في واقع أصبح أشد مأساوية من واقع الاحتلال نفسه.
ومن ثم قرر الشيخ ابن باديس ورفاقه العلماء الشروع في طريق الحرية باستعادة الهوية بإصلاح العقيدة ومحاربة الشركيات وبالعلم والعمل والتنقية والتحريك والإصلاح الشامل للمجتمع الجزائري على المستوى الفردي والجماعي، في نضال وكفاح استمر لسنوات طويلة تجلت فيها بنود مشروعه الدعوي والتربوي الكبير، كما سيتضح لنا في الجزء الثاني من المقال.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم