عناصر الخطبة
1/ الإخلاص لله تعالى أعظم أصول الدين 2/ تبعيَّة الجوارح للقلب 3/ أهميةُ وفضلُ الإخلاص 4/ ثمرات الإخلاص 5/ أماراته 6/ الإخلاص مفتاح السعادة الحقيقية 7/ مُعِيناتٌ على تحقيق الإخلاصاقتباس
إن على العبد، وهو يسير في رحلته إلى الله -عز وجل-، ألَّا يأمن على نفسه الوقوع في الرياء ونواقض الإخلاص، بل يكون حذِرَاً دائما مِنْ أنْ يشوب عمله شائبة من شوائب الإخلاص، ولا يكتفي المسلم في ذلك في ظاهر حاله، أو بتقويم الناس له، أو بمعرفة الناس إياه؛ بل عليه أن يجدَّ في تحرير الإخلاص في كل كلمة يقولها، وكل عبادة يؤديها؛ بل وكل لحظة وفكرة تنتابه ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضْلِل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله -عز وجل- سبب لدخول جنته، والنجاة من ناره، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].
أيها الإخوة المسلمون: أعظم الأصول في دين الإسلام تحقيق الإخلاص لله تعالى في كل العبادات وكل الطاعات، والابتعاد عما يضاد الإخلاص وينافيه من الرياء والسمعة والعجب والتكبر والغرور والإدلال بالعمل؛ ولهذا كانت الحاجة إلى معرفة هذا الأصل العظيم والتفكر فيه من أجَلِّ المطالب، وأعلى المقاصد.
يقول عبد الله بن أبي جمرة: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أنْ يُعَلِّمَ الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أُتِيَ على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.
كل هذه الأهمية للإخلاص لأن أعمال القلوب هي الأساس الذي تقوم عليه الأعمال كلها، يقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
إن القلب ملِكُ الجوارح، وهي له تبَعٌ، فإن صلح القلب صلحت الجوارح كلها، وإن فسد القلب فسدت الجوارح كلها.
ومِن أجَلِّ أعمال القلوب الإخلاص لله -عز وجل- الذي هو مِن أشقِّ الأمور على النفوس؛ ولهذا قال سفيان الثوري -رحمه الله-: ما عالجت شيئا عليَّ أشدّ من نيتي؛ إنها تتقلب عليّ؛ فالقلوب كثيرةُ التقلُّب والتحوُّل في قصودها ونياتها.
وصدَقَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "لَقَلْبُ ابن آدم أشدُّ تقلباً من القدر إذا استجمعت غلَيانا".
وإذا كان الأمر كذلك فما أحوجنا -أيها الإخوة المسلمون- إلى الإلحاح على الله، والتضرع بين يديه؛ بأن يوفقنا للإخلاص في أعمالنا وأقوالنا، ويجنبنا الرياء والسمعة في جميع أعمالنا.
فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: خَطَبَنَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفَى من دبيب النمل"، فقال له مَن شاءَ أن يقول: وكيف نتقي، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: "اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم".
لقد فقه الصحابة هذه الحقيقة فأخذوا يلحون على الله -عز وجل- في الدعاء والتضرع بين يديه بأن يوفقه للإخلاص، وأن يجنبهم الوقوع في الشرك.
هذا أمير المؤمنين الفاروق عمر -رضي الله عنه- يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي صالحا، ولوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه معك شِرك.
إن على العبد، وهو يسير في رحلته إلى الله -عز وجل-، ألَّا يأمن على نفسه الوقوع في الرياء ونواقض الإخلاص، بل يكون حذِرَاً دائما مِنْ أنْ يشوب عمله شائبة من شوائب الإخلاص، ولا يكتفي المسلم في ذلك في ظاهر حاله، أو بتقويم الناس له، أو بمعرفة الناس إياه؛ بل عليه أن يجدَّ في تحرير الإخلاص في كل كلمة يقولها، وكل عبادة يؤديها؛ بل وكل لحظة وفكرة تنتابه.
يقول الحسن البصري -رحمه الله- عن الرياء: ما أمِنَه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن. ويقول -رحمه الله-: لا يكن حظ أحدكم من عمله أن يقول له الناس: عالم!.
إن الخشوع الحقيقي -أيها الإخوة المسلمون- هو خشوع القلب لله رب العالمين، وإنابته لربه -عز وجل-، أما خشوع الجوارح وحدها دون القلب فذاك خشوع النفاق الذي عناه بعض السلف بقوله: اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق. فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى الجسم خاشعا، والقلب ليس بخاشع.
كل هذا الاهتمام بالإخلاص والحذر من شوائبه لأن الإخلاص حقيقة الدين، لأن الإخلاص هو مفتاح دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة:5].
إن الإخلاص هو السبيل إلى مرضاة الله -سبحانه وتعالى- في تحقيق العبودية، واتباع ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إن الإخلاص متى ما تمكن من أي طاعة فإن الله -عز وجل- يجزي صاحبها الجزاء الأوفى، ويعطيه العطاء الأعظم، وإن كانت هذه الطاعة في ظاهرها يسيرة أو قليلة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يُكْمِلُ فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر الذنوب، كما في حديث البطاقة.
فهذه حال مَن قالها، أي كلمة التوحيد، بإخلاص وصدق، كما قال هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين يدخلون النار كلهم يقولون: لا إله إلا الله! ولم يترجح قولهم بكلمة التوحيد على سيئاتهم، كما ترجح قول صاحب البطاقة.
ثم ذكر -رحمه الله- البغيّ التي سقت كلب فغفر الله لها، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، وليس كل بَغِيٍّ سقت كلباً يُغْفَرُ لها، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال لله رب العالمين.
وتلك ثمرة عظيمة من ثمار الإخلاص؛ حيث يترتب على العمل اليسير أجر كبير، وجزاء وفير، وفي المقابل قد يعمل العبد أعمالا عظيمة من صلاة وصيام وصدقة وأمر بمعروف ونهي عن منكر ودعوة إلى الله وإصلاح بين الناس، ويبذل جهودا كبيرة في هذا؛ لكنَّها لمــَّا فقدت الإخلاص صارت عند الله لا وزن لها، ولا قيمة، فلا ثواب عليها؛ بل صاحبها متوعَّدٌ بالعذاب الشديد.
ورحمه الله ابن المبارك إذ يقول: رُبَّ عمَلٍ صغير تعظمه النية -أي النية الحسنة-، ورب عمل قليل تكبِّرُه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.
إن الإخلاص -متى ما استقر في قلب العبد- ظهرت علاماته عليه، وبرزت أماراته على حركات العبد وسلوكه وتصرفاته وأعماله وأقواله؛ بل وحياته كلها.
المخلص لله رب العالمين في طاعاته وعباداته، المخلص لله رب العالمين يفني حياته -لو خرج كل قَدر له في قلوب الناس- من أجل إصلاح قلبه مع الله -عز وجل-؛ لذا فإنه لا يبالي.
المخلص لله رب العالمين لا يحب أن يطَّلِعَ الناس على مثاقيل الذر من عمله، ورحم الله من قال: مَن شاهَدَ في نفسه الإخلاص؛ فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.
إن المخلص لا يخشى في الله لومة لائم، تراه آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، غير آبهٍ بلوم اللائمين، همه في هذه الدنيا مرضاة ربه -عز وجل-:
إذا صحَّ منك الوُدُّ فالكُلُّ هيِّنٌ *** وكُلُّ الذي فوقَ التُّرابِ تُرَابُ
فتراه بعيداً عن كل سبب يؤدي إلى التعاظم وحب الرياسة والشهرة، والتقدم في المجالس، وكثرة الكلام، ومحبة الأتباع.
المــُخْلِصُ لله رب العالمين في عبادته يكره المدح، يكره المجاوزة فيه؛ مجانباً أهل الغفلة والشهوات والانغماس في الدنيا وشهَواتها في مجالسهم وأحاديثهم.
المخلص لله رب العالمين لا يدعي لنفسه علما أو مكانة أو جهادا؛ بل هو دائم العتب على نفسه، يوبخها، ويندم على تفريطه وتقصيره في حق خالقه -عز وجل-، تراه دائما وأبداً خائفا من عدم قبول عمله بمخالطة رياء أو سمعة.
يقول بعض السلف ممن أدركوا حقيقة الإخلاص وعظيم أثره: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت! لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
ومع خوف العبد من عدم قبول عمله تراه خائفا سوء الخاتمة، يذكر المصير بعد الموت، يخاف المرور على الصراط في ذلك اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار، هذا هو المؤمن المخلص، جمع إحسانا في مخافة وسوء ظن في نفسه.
والمغرور حسَن الظن بنفسه، مع إساءته في عمله، ومع هذا كله فالمخلص حريص على الإكثار من العبادات، حريص على الإكثار من القربات، وخاصة تلك الأعمال والقربات التي لا يشاهده فيها الناس، يفرح بها ويُخفِيها عن أعيُنِهِم، ويحاول تكثيرها.
لقد كان السلف -رحمهم الله- يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عملٍ صالحٍ، لا تعلم به زوجته ولا غيرها مِن أقرب الناس إليه.
إنه يتطلب رضا الله -عز وجل- في أي ميدان، وبكل حال، يتذكر فضل الله العظيم، يتذكر جزاء الله الكبير، فلا يفوت فرصة فيها خير ينفعه، ولا عمل صالحا يقربه إلى ربه. المخلص هو الشحيح بأنفاسه وأوقاته وأيامه، لا يفوتها إلا بالقربات والطاعات.
هذه -أيها الإخوة المسلمون- بعض علامات الإخلاص وأماراته؛ فلينظر كل منا في نفسه ليرى البون شاسعا، والفرق كبيرا بين حياتنا وحياة المخلِصين المخلَصين من عباد الله.
إن السعادة الحقيقية إن الفوز المؤكد لا يناله ويظفر به إلا المخلِصون المخلَصون، وما سواهم -وإن عظمت أعمالهم في أعين الناس- فأعمالهم والله كالهباء المنثور، يرونها يوم القيامة حسرات عليهم، وصدَق الله -عز وجل- إذ يقول: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان:23].
وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16]
اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، اللهم اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، ونعوذ بك اللهم أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.
اللهم اجعل علمنا صالحا، ولوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه معك شركاً، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يعلم السر والنجوى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لا يعزُبُ عن علمه -سبحانه- مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
أحمده -سبحانه- وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، أخلص لله في عبادته، وحذر أمته من الرياء والنفاق، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شد عنهم شد في النار.
أيها الإخوة في الله: إن العبد لا يكون مخلصا لله رب العالمين إلا إذا قصد وجه الله في عبادته، وخلَّص عمله من حظوظ المخلوقين وملاحظاتهم، فهو يفعل الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيما من الناس، ولا توقيرا، ولا جلب نفع دنيوي، ولا دفع ضر دنيوي، يحرص على عمارة باطنه أكثر من ظاهره، يحسبه الناس على حال من الصلاح وهو خير من الحالة التي يحسبه الناس عليها، يحذر من الرياء، فلا يفعل العمل أمام الناس ليطلب به الحظوة والمكانة عندهم.
لا يرائي الآخرين بقوله، لا يرائيهم بعمله ولا بملبسه ولا مظهره، ولا يتحدث عن الأعمال الصالحة التي يعملها، والإنجازات الخيرة التي حققها.
إن مما يعين العبد -أيها الإخوة المسلمون- على الإخلاص في أعماله والبعد عن المراءاة فيها أن يستحضر مِنَّة الله عليه وفضله وتوفيقه له، وأن العبد بالله لا بنفسه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور:21].
ثم إنه عبد محض لخالقه، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجراً، وعلمه مع ذلك بعيوبه وآفاته وتقصيره في أعماله، وفي الوقت ذاته علمه بما يستحقه الرب -جل وعلا- من حقوق العبودية وآدابها الظاهرة والباطنة، وأن العبد أضعف وأعجز من أن يوفيها حقها ولو عبد الله طيلة حياته، ولو امتدت به السنون والأعوام وهو في عبادة لربه، وإنما هو الفضل لله وحده أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53].
فنسأل الله -عز وجل- الحياة على الطاعة في إخلاص وحسن عمل، وخاتمة حسنة، وتجاوز عن السيئات والهفوات، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم.
هذا، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم -عز وجل- في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صَلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم