عناصر الخطبة
1/ سرعة مرور الوقت والحث على استغلاله 2/ الجمع بين العمل للدنيا والعمل للدين 3/ بعض أخطاء الناس في الإجازة الصيفية 4/ نصائح وتوجيهات لاستغلال الإجازة الصيفية 5/ جريمة تفجير المساجد 6/ كثرة الفتن والواجب نحوهااقتباس
أيها الموفق, يا من دخلت في معترك الإجازة, أبًا كنت أو طالبًا: ضع نصب العين آيتين, يمثلان لك حقيقتان, ينبغي أن لا تغيبا عن ذهنك؛ آية لدنياك، وأخرى لأخراك, وبدون استذكارهما تخرب الدنيا، ويخسر الدين, ويفوت خير كثير, هما...
الخطبة الأولى:
يتعاقب الزمان، ويقلب الله الليل والنهار, وتمر الأيام سراعًا والسنون تباعًا, يكبر المرء، وتتخطى به السنون، وهو ما زال في الأماني غارق، وفي الأمل واقع.
سلوا ابن الأربعين كيف رأى سرعة المرور, سلوا ابن الستين والسبعين كيف كان يُمنِّي نفسه بطول الأمل، فطال العمر، ولم يُحقِّق ما أمّل.
عُمرٌ يمضي، ولذاتٌ تنقضي, وشمسٌ تشرق وتغرب, تُقرِّبُنا من الآخرة، وتباعدُنا من الدنيا, كذا الدنيا سريعة الزوال لا تَبقى فيها لذةٌ, ولا تدومُ فيها سعادة.
ونحن -أيها الكرام- نستقبل الإجازة, وتحلُّ علينا أيامها المفعمة بأوقات الفراغ والراحة, لا سيما لفئة الشباب من الطالبات والطلاب, إجازة تمتد لتسعين يومًا أو تزيد, هي من العمر, وكل يوم منها له صحيفة, تدون وتسطّر, يخطُّ أعمالَها كرامٌ حافظون, مطيعون لربهم مؤتمنون, فماذا نحن فيها فاعلون؟
أيها الموفق, يا من دخلت في معترك الإجازة, أبًا كنت أو طالبًا: ضع نصب العين آيتين, يمثلان لك حقيقتان, ينبغي أن لا تغيبا عن ذهنك؛ آية لدنياك، وأخرى لأخراك, وبدون استذكارهما تخرب الدنيا، ويخسر الدين, ويفوت خير كثير, هما قول الله: (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].
وقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
فأما الأولى: فتشعرنا أن النفوس ينبغي أن تأخذ حقها من الراحة والإجمام, فلا يُواصَلُ عليها بالجد, ولا تؤخذ بالحزم على الدوام, بل يروح عنها وتؤخذ باللين, وكذا كان سيد المرسلين وصحبه الغر الميامين, فبرغم جدهم وجهادهم، فإن لهم أزمانًا يُجِمُّون النفْس فيها, وعنها يروحون, لكن هذا الإجمام لا يتجاوز المباح، ولا يصل للحرام.
ولذا فلا إشكال أن يُروِّحَ المرءُ عن نفسه في سفرٍ مباح, أو نزهة لا معصية فيها, ولا لوم على المرء أن يجم النفس ويريح البدن والذهن من الكدِّ والجُهد, فمن رام جدًا مستمرًا, وجلدًا في العمل دائمًا, فربما كل وانقطع, وما هكذا تقاد النفوس, بل تدوم في العمل, حين تأخذها بالراحة تارة، وبالجد والحزم تارات, ومن لطيف ما يروي قول أبي الدرداء: "إني لأستجم ليكون أنشط لي في الحق".
وعن غيره: "أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد".
وأما الآية الثانية: فهي تُشعرنا أن المؤمن ليس في حياته إجازة مطلقة, فهو قد يأخذ إجازةً عن دراسته, وعمله, ولكنه لا يمكن أن يأخذ إجازة عن ميادين الخير, ودروب الطاعة, فالمؤمن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين, بل ما أُتي به للدنيا إلا ليعمرها بطاعة المولى, وفي سبيل ذلك، فالإجازة كغيرها حقبةٌ من العمر ينبغي أن تكون مركبًا يوصل للجنة, وموسمًا للطاعة, والأبواب مُشْرعة، والسبل مفتوحة ومتنوعة, وفي أيامها فرصة أن يُحوِّلَ المرءُ إجازة الدراسة خطوة للمعالي والرفعة.
فأيامٌ تبلغ التسعين مع التخطيط, حفظ في مثلها أقوامٌ القرآن, في تسعين يومًا حصّل أقوام علومًا شرعية عبر دروسه المتكاثرة في الإجازات, تسعون يومًا أو تزيد هي فرصةٌ أن تكتسب حرفة، أو تتقن صنعة, أو تتعلم مهارة.
أيا شباب الأمة, يا نشء الخير وعدّة الحاضِر وأمل الأمة في المستقبَل: ها هي الإجازة قد فتحت صفحتها لكم لتكتبوا فيها وتُسطِّروا, فماذا أنتم فاعلون؟
ليست الإجازة إجازة عن القيم والمثل, والأخلاق والدين.
نعم -أيها الشاب- أنت في إجازة, لكن هذا لا يعني أن تقضيها بمحرم, وأعيذك بالله أن تكون من قومٍ يُضايقون الناس في متنزهاتهم, ويزعجون المسلمين في طرقاتهم, ويعترضون العفيفات في مكناتهن, وأين يغيب هؤلاء عن دعوات المؤذَين, وعن نظر رب العالمين؟
يا أيها الشاب: نعم أنتم في إجازة, لكن لله حقًا مستمرًا، فإياك أن تضيعه, فالصلوات, ومجانبة المحرمات, والقيام بالواجبات, أمر ينتظر في جميع الأوقات, فلسنا في إجازة منها.
وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا معًا.
معشر الآباء والأولياء، يا من حمّلهم الله الأمانة, أمانة الأبناء والبنات, ورعاية القيم وصيانة الفلذات: التبعة عليكم كبيرة, والحمل عظيم, لا سيما في هذا الزمن الذي تعددت مشاربه, وكثرت صوارفه ومؤثراته, أنتم مخرِّجوا جيل الغد, فإن طابت المقاصد، وحسن الجهد، طاب النتاج.
الإجازة لأولادكم هي مفترق طرق, وهي حقبة حساسة قد يرتفع بها الشاب في المعالي أو ينحدر في دروب التقصير, ولكم دور يُنتظرُ تجاههم.
ليست الأبوة -يا كرام- انتساب, ومأكل ومسكن وشراب, الأبوة تكليف وتربية وعيالة, والذرية أمانة.
ما أجمل ذلكم الأب, يتحمل المسؤولية, ويتابع ويوجه, ويربط أولاده في مجالات الخير المتعددة في الإجازات, من برامج قرآنية, أو دورات تربوية, أو معرفية, هنيئًا له وهو أول المستفيدين من صلاح أبنائه.
ما أروع ذلكم الأب, يعلم أين يذهب أبناؤه, ومع من, لن ترى أبناءه مع من يسهرون الليالي في الطرقات؛ لأنه علم أن الطرقات لا تُخرِّجُ خُلقًا فاضلًا، أو شبابًا واعيًا.
ما أحسن ذلكم الأب لا يفتح لهم أبواب شر, ولا يسافر بهم لأماكن حرم العلماء غشيانها, يفسحهم ويروح عنهم ويسعدهم، وعن الشر يباعدهم, ويحتسب ذلك كله عند ربهم.
أما أنتم -أيها الدعاة ويا طلبة العلم-، فإجازتكم ينبغي أن تكون مختلفة, فقد عقدت الأمة عليكم بعد الله آمالها، ورنت إليكم بأبصارها، وهوت إليكم بأفئدتها، لذا فالمسؤولية التي أنيطت بكم، وألقيت على كاهلكم، في توجيه الناس وتربيتهم ودعوتهم وتبصيرهم كبيرة، لا سيما في زمانٍ كثر فيه الباطل والفساد، ونَفَقَت فيه سِلَعُ أهلِ الكفر والإلحاد، ونشط دعاة التغريب والإفساد، والمؤمل فيكم والمنتظر العمل بجد واجتهاد, في كل سبيل وناد, سافِروا إلى القرى والأمصار، وعلِّموا الجاهل، وأرشدوا التائه، ودُلُّوا الحائر، مُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قاوموا وسائل التدمير والإفساد، بوسائل البناء والإرشاد، واستغلوا وقت الإجازة بدعوة القريب والبعيد, فالناس في كل مكان ينتظرون أهل الإسلام ليدلُّوهم ويرشدوهم, فكونوا أدلاء خير, دعاة إحسان وبر، وأخلصوا في ذلك كله لله -تعالى-، فإن ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يذهب، ولا تحقروا من أعمال البر والدعوة شيئًا, وفي التنزيل: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].
وبعد -معاشر المسلمين- فستمضي الإجازة، وسيمضي العمر، والموفقون هم الذي عملوا لآخرتهم، وقدّموا في مواسم الفراغ أعمالًا تزيدهم صلةً بالله، وخدمة ونفعًا لعباد الله، وليُعلم أنه ليس بين الناجحين دينًا ودنيا، وبين البطالين، إلا علوَ الهمة، والمبادرةَ للعمل.
ولئن كانت النعم من الله وفيرة, فإن النعمة التي غبن فيها الكثير: نعمةُ الفراغ, فها نحن في زمن الفراغ، فماذا نحن مقدمون؟
وفي وصايا الرسول الكريم -عليه الصلاة والتسليم-: "اغتنم فراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك".
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده...
دمعت عينا ذلك الرجل الصالح صباح اليوم وهو يرى بيوت الله تحاط بالحواجز، وقال: والله ما كنت أؤمل أن أعيش حتى أرى بيوت الله تحمى من عبث منحرف, وما كنت أظن أن يصل الفكر يقوم حتى تحمى منهم بيوت الله, فاللهم احفظ علينا أمننا.
معشر الفضلاء: في وقت الاضطرابات والفتن, وعند الملمات والمحن, تضطرب العقول، وتتكاثر الشائعات, ويصبح البعض في حال هلع وفزع, فمن قائل: لا تقرب المساجد يوم الجمعة!
ومن قائل: فكر لك في بلد آخر تجعل لك به مستقرًا.
حينها -يا مبارك- ضع نُصب العين: أن الأمور تدبر في السماء, وأن الحافظ الله, وأن الأمر كله بيده, ولو اجتمع الخلق على أن يكيدوك بشيء ما قدروا إلا بأمر أراده.
ضع في سويداء القلب: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها.
ضع في مستقر الفؤاد: أن الأمن نعمة ينبغي أن يؤخذ لها بالأسباب, وسيتحقق لنا بقربنا من ربنا، وقيامنا بشرعه.
ضع في قرارة البال: أن الخير لا يأتي إلا بالخير, وأنه لو أراد الله أجلًا لأحد لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.
وما أحوجنا في وقت الفتن حين ينشغل الناس عن طاعة الله, إلى القرب منه, وفي الصحيح: "العبادة في الهرج -والهرج أيام الفتن واختلاط الأمور، وحال القتل والحرب، وحال الخوف والذعر- كهجرة إلي" أي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في فضلها.
لا سواء بين من انشغل في وقت الاضطرابات بتتبع الأخبار, وملاحقة المستجدات, ونسي العبادة, وبين من أقبل على ربه له عابدًا, وبقربه آنسًا, وبالعيش معه متحصنًا, وبمثل هؤلاء تكشف الفتن -بإذن الله-.
فيا من أهمهم شأن المسلمين هنا وفي كل مكان, وأزعجهم قضايا اضطرابٍ في هذه البلاد, يا من يخافون من المستقبل: الله يرى ويسمع, فأقبلوا عليه، واصدقوا معه, وكلوا الأمر له, وأبشروا, فكم من شدة رفعها, ومحنة كشفها؟ كم مرت على المسلمين من شدائد وبلايا, ومحن ورزايا, وحين اعتصم الناس بربهم، وأقبلوا على عبادة مولاهم، تحول البؤس عزًا, والذل تمكينًا.
وفوق هذا -أيها الكرام-, ففي مقول الرسول -عليه السلام-: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم" اجتهدوا قبل وقوعها, وأقبلوا على الطاعة قبل حلولها, وافزعوا لها عند وجودها، فبذلكم ترفع الفتن، وتكشف الكرب.
وليست العبادة -حين يشاد بها- مقصورةً على الصلاة، ونحوها, بل هي أوسع من ذلك.
إن ثباتك على الدين في وقت الفتن, واستقامتَك على الجادة, مهما كثرت الصوارف، أو طغت المغريات، أو لاح تهديد، أو عرض ترغيب، عبادة من أجل العبادات في زمن الفتن.
وتقلُبَكَ في صنوف القربات, قوليّها وعمليها, عبادة من العبادات, ذكرٌ ودعاء, توبة ورجاء, صلاة وصيام, قرآن وأخلاق وقيام, ولكل عبادة فضيلة.
في وقت الفتن وغفلة الناس زد من طاعات كنت تعملها, واسعَ في جمع الكلمة، وإيصال النصيحة، ورفع الغمة, وكن دلاّلًا للخير, داعية للبر, مُرهٍّبًا من العصيان, منابذًا للفساد والطغيان, فكل ذلك تعبد للرحمن, يتأكد هذا في شهر شعبان حين يغفل الكثير عن الإحسان, وفي مقول المصطفى: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِين".
وبعد:
مضى رجبٌ وما أحسنت فيه *** وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقاتِ جهلًا *** بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قسرًا *** ويُخلي الموت كرها منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا *** بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم *** فخير ذوي الجرائم من تدارك
اللهم أصلح أحوال المسلمين، وبلغنا رمضان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم