الأساليب التربوية (10) اكتشاف قدرات المتربي

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2021-12-31 - 1443/05/27 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/دور المربي في اكتشافي قدرات المتربي ومساعدته في تطويرها 2/أمثلة على بعض الجوانب التي ينبغي إبرازها في المتربي3/آثار معرفة المتربي لقدراته وإدراكه لقيمته 4/شواهد من إبراز المربين لإيجابيات المتربين 5/أثر جهل المتربي بقدراته على النمو التربوي 6/إبراز قدرات المتربين والاعتراف بها لا ينقص من قدر المربين 7/كل نمو وتطور في المتربي ينسب للمربي.

اقتباس

إِنَّ كُلَّ نُمُوٍّ وَتَطَوُّرٍ فِي الْمُتَرَبِّي لِلْمُرَبِّي فِيهِ يَدٌ وَتَأْثِيرٌ؛ إِذْ أَنَّهُ الْمِشْكَاةُ الَّتِي انْبَثَقَتْ عَنْهَا تِلْكَ الْأَنْوَارُ، وَالشَّجَرَةُ الَّتِي نَمَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَزْهَارُ؛ وَعَلَى الْمُتَرَبِّي -قَبْلَ غَيْرِهِ- أَنْ يَعْرِفَ هَذَا لِمُرَبِّيهِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْمُرَبِّي الْأَمِينُ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُعَبِّدُ طُرُقَ الرُّقِيِّ أَمَامَ الْمُتَرَبِّينَ بِبَذْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَيَرْسُمُ لَهُمْ خَرِيطَةَ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُشْرِقِ بِجَوْدَةِ فَهْمِهِ وَسَنَائِهِ، وَيَكْتَشِفُ قُدُرَاتِهِمْ بِقُوَّةِ حَدْسِهِ وَذَكَائِهِ، وَيُحْسِنُ تَوْظِيفَهَا فِي مَنَافِعِهِمْ بِخِبْرَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَيَظَلُّ يَحْرُسُهَا بِتَوْجِيهَاتِهِ وَدَوَامِ مُرَاقَبَتِهِ؛ يَرْعَاهُمْ بِعِنَايَتِهِ كَمَا يَرْعَى الزَّارِعُ زَرْعَهُ، فَإِذَا رَأَى ثَمَرَهُ الْبَهِيجَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَتَنَاسَى مَرَارَةَ التَّضْحِيَةِ وَالْعَنَاءِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِلْمُرَبِّي دَوْرًا كَبِيرًا فِي اكْتِشَافِ قُدُرَاتِ الْمُتَرَبِّينَ وَحُسْنِ تَطْوِيرِهَا؛ فَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ تَوَجُّهَاتِهِمُ الْعَمَلِيَّةَ، وَوُجُهَاتِهِمُ الْعِلْمِيَّةَ، وَيَعْرِفُ قُدُرَاتِهِمُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ؛ وَمِنْ ثَمَّ يَشْرَعُ فِي التَّطْوِيرِ التَّدْرِيجِيِّ حَتَّى بُلُوغِ الْغَايَةِ الْمَرْجُوَّةِ؛ وَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قُدْوَةَ الْمُرَبِّينَ فِي هَذَا مَعَ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهِ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الْأَحْزَابِ: 21].

 

فَقَدْ كَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَكْتَشِفُ قُدُرَاتِ أَصْحَابِهِ فَيُعْطِيهِمُ النَّيَاشِينَ، وَيُقَلِّدُهُمُ الْأَلْقَابَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْعَمَلِيَّةَ الْحَسَنَةَ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَهَا هُوَ كَذَلِكَ يَكْتَشِفُ قُدُرَاتِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَيُكَلِّفُهُ بِمُهِمَّةٍ عَظِيمَةٍ تَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ: فَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، قَالَ زَيْدٌ: ذَهَبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: "يَا زَيْدُ: تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ؛ فَإِنِّي -وَاللَّهِ- مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي"، قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَهَذَا الْإِمَامُ مَالِكٌ يَكْتَشِفُ قُدُرَاتِ تِلْمِيذِهِ النَّجِيبِ الشَّافِعِيِّ، حَتَّى قَالَ لَهُ: "إِنِّي أَرَى اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ".

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ مِنَ الْجَوَانِبِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي إِبْرَازُهَا فِي الْمُتَرَبِّي: الْجَانِبَ التَّعَبُّدِيَّ؛ إِذْ هُوَ الْغَايَةُ لِوُجُودِنَا، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذَّارِيَاتِ: 56].

 

وَمِنَ الْجَوَانِبِ الَّتِي يَنْبَغِي إِبْرَازُهَا فِي الْمُتَرَبِّي أَيْضًا: الْجَانِبُ الْعِلْمِيُّ وَتَوْجِيهُهُ؛ فَالْمُرَبِّي يَنْظُرُ فِي مُيُولِ الْمُتَرَبِّينَ الْعِلْمِيَّةِ، ثُمَّ يَدُلُّهُمْ عَلَى سُبُلِ تَطْوِيرِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُتَرْجِمُونَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ بَعْضِ التَّخَصُّصَاتِ إِلَى تَخَصُّصَاتٍ أُخَرَ بِأَمْرٍ مِنْ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ رَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ، فَبَرَعُوا فِي ذَلِكَ وَاشْتُهِرُوا.

 

وَمِنَ الْجَوَانِبِ الَّتِي يَنْبَغِي إِبْرَازُهَا فِي الْمُتَرَبِّي أَيْضًا: الْجَانِبُ الْأَخْلَاقِيُّ؛ فَإِنَّ لِذَلِكَ أَثَرًا كَبِيرًا عَلَى الْجَانِبَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَفِي هَذَا الْجَانِبِ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ: كَمَا أَنَّ الْمُرَبِّيَ يَنْبَغِي لَهُ مَعْرِفَةُ قُدُرَاتِ الْمُتَرَبِّي؛ فَإِنَّ عَلَى الْمُتَرَبِّي كَذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ قُدُرَاتِهِ وَيُدْرِكَ قِيمَتَهُ؛ فَإِنَّ لِذَلِكَ آثَارًا حَسَنَةً عَلَى الْمُتَرَبِّي:

أَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِنَفْسِهِ تُعِينُهُ عَلَى ثَبَاتِهِ وَتَحْسِينِ أَدَائِهِ؛ فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا عَرَفَ قُدُرَاتِهِ الْعِلْمِيَّةَ أَضْحَى يُنَمِّي مَوْهِبَتَهُ فِيهَا، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَتَتَبَّعُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-إِلَى بُيُوتِهِمْ، وَيَقِفُ عَلَى أَبْوَابِهِمْ حَتَّى يَخْرُجُوا فَيَسْمَعَ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ.

 

وَمِنْ آثَارِ مَعْرِفَةِ الْمُتَرَبِّي لِقُدُرَاتِهِ: إِبْرَازُهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا لِيَنْفَعَ بِهَا غَيْرَهُ؛ فَقَدْ قَالَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلْمَلِكِ: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يُوسُفَ: 55].

 

أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: هُنَاكَ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ لِإِبْرَازِ الْمُرَبِّينَ لِإِيجَابِيَّاتِ الْمُتَرَبِّينَ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي مُوسَى: "لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ؛ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"(رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ).

 

فَهُنَا يُبْرِزُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُدْرَةَ هَذَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ الْجَلِيلَيْنِ فِي إِحْسَانِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُشَجِّعَةِ؛ فَكَانَا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَرْجِعًا لِلنَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ بَعْدُ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مُرَبِّينَ نَاجِحِينَ وَقُدْوَةً صَالِحِينَ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ بِلَا عَمَدٍ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ الْأَخْيَارِ وَصَحَابَتِهِ الْأَبْرَارِ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَإِذَا كَانَ مَعْرِفَةُ الْمُتَرَبِّي لِقُدُرَاتِهِ لَهَا مَنَافِعُهَا الْكَثِيرَةُ فَإِنَّ جَهْلَهُ بِهَا يُؤَثِّرُ سَلْبًا عَلَى نُمُوِّهِ التَّرْبَوِيِّ وَالْمَعْرِفِيِّ وَالْمَهَارِيِّ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ:

ازْدِرَاؤُهُ نَفْسَهُ؛ فَتَذْهَبُ قُدُرَاتُهُ ضَيَاعًا، فَلَا هُوَ اسْتَفَادَ مِنْهَا وَلَا أَفَادَ غَيْرَهُ بِهَا.

فَأَصْبَحَ لَا نَفْعَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ *** سِوَاهُ بِهَا خَيْرًا فَضَاعَ وَضَيَّعَا

 

وَمِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ لِجَهْلِ الْمُتَرَبِّي بِقُدُرَاتِهِ: أَنْ تَبْقَى تِلْكَ الْقُدُرَاتُ بِدُونِ تَطْوِيرٍ وَتَوْظِيفٍ، وَمَنْ لَمْ يُطَوِّرْ قُدُرَاتِهِ ذَهَبَتْ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُوَظِّفْهَا فِي مَكَانِهَا الْمُنَاسِبِ فَكَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَدَيْهِ تِلْكَ الْقُدُرَاتُ، فَيَظَلُّ عِنْدَ ذَلِكَ فِي انْحِدَارٍ.

 

وَمِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ لِجَهْلِ الْمُتَرَبِّي بِقُدُرَاتِهِ: أَنَّ الْمُتَرَبِّيَ قَدْ يُحَمِّلُ نَفْسَهُ فَوْقَ طَاقَتِهَا، ظَانًّا أَنَّ قُدْرَتَهُ تَبْلُغُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ أَوْ عَدَمِ اسْتِمْرَارِهَا عَلَى الْعَطَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)[الطَّلَاقِ: 7]، "وَالْمُنْبَتُّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى".

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ إِبْرَازَ الْمُرَبِّي قُدُرَاتِ الْمُتَرَبِّينَ وَالِاعْتِرَافَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ قَدْرِ الْمُرَبِّي، بَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِهِ تَرْبَوِيًّا وَعُلُوِّ قَدْرِهِ تَوَاضُعًا، وَيَجْعَلُهُ قُدْوَةً فِي ذَلِكَ لِلْمُتَرَبِّينَ عَلَى يَدَيْهِ؛ فَقَدْ قَالَ الرَّاهِبُ لِلْغُلَامِ لِلْمُؤْمِنِ -بَعْدَ أَنْ قَتَلَ الدَّابَّةَ-: "أَيْ بُنَيَّ: أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي؛ قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ إِبْرَازِ قُدْرَةِ الْمُتَرَبِّي؛ تَشْجِيعًا لَهُ عَلَى الْإِصْرَارِ، وَشَحْذًا لِهِمَّتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ.

 

مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ كُلَّ نُمُوٍّ وَتَطَوُّرٍ فِي الْمُتَرَبِّي لِلْمُرَبِّي فِيهِ يَدٌ وَتَأْثِيرٌ؛ إِذْ أَنَّهُ الْمِشْكَاةُ الَّتِي انْبَثَقَتْ عَنْهَا تِلْكَ الْأَنْوَارُ، وَالشَّجَرَةُ الَّتِي نَمَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَزْهَارُ؛ وَعَلَى الْمُتَرَبِّي -قَبْلَ غَيْرِهِ- أَنْ يَعْرِفَ هَذَا لِمُرَبِّيهِ.

 

فَمَنْ مِنَّا يَجْهَلُ تَقَدُّمَ الْإِمَامِ مُسْلِمٍ فِي فَنِّ الْحَدِيثِ وَرِجَالِهِ؟ وَلَكِنَّ الْقَلِيلَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مُسْلِمًا إِنَّمَا هُوَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ؛ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: "لَوْلَا الْبُخَارِيُّ لَمَا ذَهَبَ مُسْلِمٌ وَلَا جَاءَ"، وَقَدْ قِيلَ: "وَإِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ أَهْلُ الْفَضْلِ".

 

أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: مَا أَحْوَجَ الْأُمَّةَ الْيَوْمَ إِلَى الْعِنَايَةِ بِأَبْنَائِهَا وَتَهْيِئَتِهِمْ عِلْمِيًّا وَفِكْرِيًّا وَمَهَارِيًّا وَسُلُوكِيًّا حَتَّى يَنْشَأَ فِيهَا أَصْحَابُ الْمَعَارِفِ الْفَاضِلَةِ وَالْقُدْوَاتِ الْحَسَنَةِ؛ فَيَقُومُوا بِوَاجِبِهِمْ نَحْوَ دِينِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ، وَيُسَاهِمُوا فِي الِارْتِقَاءِ بِهَا فِي سَائِرِ الْمَجَالَاتِ؛ فَيَعُمُّ نَفْعُهُمْ وَتَعْظُمُ بَرَكَتُهُمْ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَ الْمُرَبِّينَ وَيُسَدِّدَ خُطَاهُمْ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ عَوْنًا لِأَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَعْلِيمِهِمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَالِارْتِقَاءِ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا هُوَ نَافِعٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

الأساليب التربوية (10) اكتشاف قدرات المتربي.doc

الأساليب التربوية (10) اكتشاف قدرات المتربي.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات