اقتباس
أن يكون ظهور السوأة عقوبة على ارتكاب مخالفة فذلك دليل على أهمية الستر ووجوبه ومكانته من الفطرة والدين والأخلاق؛ لذا لا غرابة في المجتمعات التي كشفت ما أمر الله ستره رجالا ونساء أن ينتشر فيهم ضياع الشرف ودنسه وسقوط الأعراض واختلاطها بسبب نزع الحجاب والستر...
أيها الكرام: كانت تجربة عملية مريرة وتطبيقا ميدانيا صعبا واختبارا سلوكيا عويصا الذي أجري لآدم -عليه السلام- في جنة الله؛ لتحقيق ما قدره الله -تعالى- وأراده عليه، وبيان مدى استقامته على الأمر وكفه عن النهي، وكبحه شهوته وضبطه هواه وقوة صبره على جميعها؛ فبعد أن أسجد الله له ملائكته إكراما له أسكنه وزوجه جنته مبيحا له منها كل شيء، ضامنا له فيها كل مقومات حياته وأسباب سعادته؛ (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)[طه: 118- 119]؛ بيد أن الله استثنى عليه من تلك الجنة الواسعة ومن ذلك النعيم المقيم شجرة واحدة، كانت هي مربط الفرس ومحل البلاء ونقطة الاختبار.
ولم يكن نهي الله لآدم -عليه السلام- عن هذه الشجرة نهيا عابرا، بل عهد إليه في ذلك وشدد؛ لكن الضعف الإنساني غلب عليه وطبعه الفطري هزمه، إلى جانب أن في المحيط مخلوقا حاقدا يعتقد أن ما حل به من الطرد واللعنة وما وقع به من العاقبة السيئة كان المخلوق من طين سببه، ومن حينها أعلن المطرود الشقي عداوته والترصد له؛ (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)؛ حرصا منه على صرفه عن الحق وإيقاعه في الغفلة والمخالفة، وإبرارا بقسمه الذي قطعه على نفسه مع الله.
ويراقب اللعين عن كثب مستقبل آدم -عليه السلام- والنقلة الكريمة التي نالها والإقامة الكريمة التي مُنحها، وما حباه ربه في جنته من عيش رغيد ومتعة دائمة ولذة مباحة، إلا ما كان من شجرة مخصوصة منعه من الأكل منها، كانت الفرصة السانحة التي وجدها إبليس ثغرة يدخل بها عليه. وما إن استقر آدم -عليه السلام- وزوجه في الجنة مستمتعا بنعميها متلذذا بعيشها؛ حتى بدأ الخبيث مهمته في الوسوسة والإغواء مثيرا تعجب آدم عن سر نهي الله له من هذه الشجرة تحديدا من بين جنة واسعة، مُنسيَا له نعيم الجنة الأبدي ولذتها السرمدية!
ولما كان إبليس مدركا أن الإنسان مجبول على حب الخلد وهوس الملك، دغدغ تلكم العاطفة وهيج ذلكم الشعور في آدم -عليه السلام-، وجعل يتساءل ماذا يعني النهي هنا! وما السر وراءه!
وبلباس الناصح ورداء المشفق لبَّس عليهما وزين لهما الأكل منها زاعما أنهما سيصبحان بعدها ملكين أو من الخالدين، يحكي ربنا ذلك فيقول: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)، وحتى لا يشك آدم وزوجته فيما ادعاه وغررهم به أقسم لهما أنه لهما ناصح: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)؛ فتناولا من الشجرة ونسيا العهد والنهي.
وللأسف يسقط آدم -عليه السلام- في هذه التجربة المريرة وهذا الاختبار العويص؛ دافعا ثمنا باهظا معرضا نفسه لعاقبة مرة؛ حيث ترتب على مخالفته أمور: أولها: ظهور سوءته وزوجه، وقد حاولا جاهدين سترها من ورق الجنة فلم يجديا نفعا، ثم جعلا يهربان في الجنة حياء من مخالفتهما نهي الله -تعالى-؛ (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).
ثانيها: عتاب الله لهما مذكرا إياهما ما نهاهما عنه ووصاهما به، (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ)؛ فأجابا معترفَين بالذنب معلنين توبتهما سائلَين الله أن يتوب عليهما؛ يقول الله -تعالى-: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23]، (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)[طه: 121-122].
ثالثها: الإبعاد من الجنة ونزول الأرض؛ (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)؛ ليستأنفا حياة جديدة من المدافعة والممانعة، ولتبدأ المعارك العقدية الفكرية والأخلاقية السلوكية بين خصمين وفريقين؛ فريق الحق ويمثله آدم -عليه السلام- ومن تبعه، وفريق الباطل يتزعمه الشيطان ومن تبعه من بني الإنسان والجان؛ (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)[ص: 85].
واستقرا الفريقان في الأرض وأخذ كل منهما على عاتقه مهمته ومشروعه الخاص، وأعلم الله آدم -كما أخبر ذريته- بما في هذه الدار من اختبار وابتلاء وشقاء وعناء؛ ثم توالت التشريعات، وكان كلما حدث في البشرية اعوجاج أو حصل منها حيد عن الهدى أو تنكب عن الصراط أرسلت الرسل وبعثت الأنبياء، كان آخرهم محمدا -صلى الله عليه وسلم- ومعه من الكتب القرآن العظيم.
وكل أولئك الرسل وجميع تلك الكتب حذر من الخصم الأكبر والعدو المبين (الشيطان) قال الله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[فاطر: 6]، وهنا توضيح من العليم -سبحانه- أننا في معركة معه دائمة، كانت طلائعها عند الأمر بالسجود ومرورا بالشجرة، وحتى أنزلا إلى الأرض ولا تزال تلك المدافعة مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، كما قدر ذلك سبحانه وهو كذلك ما طلبه الطريد من ربه؛ (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)[الحجر: 36 - 38].
أيها الفضلاء: إنها عداوة بكل صورها وخصومة بكل أشكالها؛ قال الله: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 38-39]، وقال الله: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)[الأنفال: 42].
لقد كانت قصة آدم -عليه السلام- حاضرة في كثيرة من آي القرآن الكريم؛ ليجعل الله منها تحذيرا وتنبيها فيستلهم أبناؤه منها العظة ويأخذون منها العبرة؛ حتى لا يقعون في فخوخ الشياطين ومصائدهم ويسقطون في أساليبهم ومداخلهم؛ فيقعون فيما حرم الله في الدنيا فيجرون على أنفسهم خزي الدنيا والآخرة وهوانهما؛ ولكشف خطته قال الله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)[الأعراف: 26]؛ فيخبرنا ربنا في هذه الآية الكريمة أنه خلق العورة وخلق ما يسترها من اللباس ويواريها، وأشار إلى أنه لا يكفي لباس الظاهر وستره ما لم يصاحبه لباس الباطن وهو التقوى. وقدر وردت الآية بعد قصة آدم والشجرة في الجنة وإبليس من ورائهم، وورودها بعد القصة فيه دلالة واضحة وإشارة جلية إلى:
· أهمية الستر والحجاب ووجوب العفاف والاحتشام، وأنه تكليف رباني وتشريع إلهي لا -كما يقال- عادة اجتماعية يمكن لمجتمع تركها أو لعرف أن يتنازل عنها أو لأنظمة أن تحد منها أو تغيرها أو لقوانين أن تسقطها وتلغيها.
· دلالة على أن التفسخ والتهتك دعوة شيطانية إبليسية قديمة، كان بداتيها في الجنة مورست مع آدم وزوجه، بعدها انطلق مؤسسها مع أتباعه ورواده من شياطين الإنس والجن يروجون لها في الأرض بين آدم وزوجه وذريته.
وفي قوله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 27]، يلفت الله انتباه البشرية إلى النظر في حياة أبيهم السعيدة في الجنة؛ وكيف أن الشيطان سعى جاهدا لإشقائه بإخراجه من ذلك النعيم بتزيينه له من الأكل من الشجرة؛ ليحصل بعدها ما لم يكن يتوقعه آدم -عليه السلام- من كشف سوأته والذي كانت السبب في خروجه من الجنة.
أيها الكرام: إن محاولة آدم وزوجه ستر عورتهما من ورق الجنة فيه دلالة على أن الفطرة سترها وتغطيتها، وأنهما جبلا على الستر والحياء؛ ويقينا أنهما لم يؤمرا بالستر قبلها وما قاما به كان من دواعي الفطرة السليمة، كما أن كشفها مغاير للفطرة وللشرع، ولربما علم إبليس أن عاقبة التفسخ عظيم وعواقبه وخيمة؛ لذلك كانت الثغرة التي استغلها.
ولم يقف الأمر في جزاء المخالفة عند كشف عورتهما؛ بل جاء الأمر بالخروج منها والنزول إلى الأرض لتكون مستقرا لهم ومتاعا إلى حين؛ قال الله: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)[طه: 123].
أيها الكرام: أن يكون ظهور السوأة عقوبة على ارتكاب مخالفة فذلك دليل على أهمية الستر ووجوبه ومكانته من الفطرة والدين والأخلاق؛ لذا لا غرابة في المجتمعات التي كشفت ما أمر الله ستره رجالا ونساء أن ينتشر فيهم ضياع الشرف ودنسه وسقوط الأعراض واختلاطها بسبب نزع الحجاب والستر.
وعليه فليعلم أن هدف الشيطان الأول: هو صرف الناس عن فطرة الله ومنهجه والتنصل من القيم والمروءات. وثانيا: العدول بهم إلى نزع الحجاب وكشف العورات وهتك الأستار؛ (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا؛ فتثار عند ذلك شهوة الجنسين وتحرك مياهها الراكدة، فتغيب وقتها التقوى وينعدم الحياء؛ فيسوق أمراض النفوس للجريمة ويدعون للفاحشة، ومن ثم يمارس الناس الرذيلة جهارا دون وازع إيماني ولا مانع أخلاقي؛ فيظهر الفساد في البر والبحر، وحينها يحل على المجتمعات العقاب الإلهي والغضب الرباني؛ قال سبحانه: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ).
وقوله -تعالى-: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)؛ نعم؛ فما يحدث من انحراف عقدي وفساد أخلاقي إنما هو بوجود ولاية قائمة بين شياطين الجن وشياطين الإنس وتعاون مشترك بين رموز ضلالهم؛ قال الله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)[الأنعام: 121]، وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)[الأنعام: 112]!
وما تقوم به أقلام جاهلية وأصوات شيطانية من دعوات العري الروحي من التقوى والتعري الخلقي من الحياء والتعري الجسدي من الحجاب يعني العودة إلى سلوك الجاهلية والسقوط في وحل الحيوانية، وليس هو التقدم كما زعموا؛ قال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)[الأعراف: 28، 29].
وكثيرا ما يدلل شياطين الإنس على أفعالهم المشينة ويشرعنون لسلوكهم القذر بدعوتهم المجتمع إلى التبرج والسفور، بأن هذه من حرية الفرد المتاحة والمكفولة، وأن محاربة هذه الحرية يعني التشدد والتطرف والتضييق، ويستدلون بنصوص هي عليهم لا لهم.
وقد رد الله -تعالى- عليهم وأخبر بأنه لا يليق بمن وصْفه الحكيم اللطيف الستير أن يأمر عباده بمثل هذا التكشف ويدعوهم لهذا التفسخ؛ كونه يتعارض مع كمال أسمائه وصفاته وجمال أفعاله وأحكامه؛ فالله يدعو للفضيلة ويحث على العفاف، ولذلك أرشد إلى كل وسيلة تحققها؛ ومن ذلك:
أمره المرأة بالقرار في البيوت وأذنه لها في الخروج لحاجة تقدر بقدرها؛ قال ربنا: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)[الأحزاب: 33]، وفي الحديث الذي رواه عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المرأةَ عورةٌ، فإذا خَرَجَتْ استَشْرَفَها الشيطانُ، وأَقْرَبُ ما تكونُ من وجهِ ربِّها وهي في قَعْرِ بيتِها"(الألباني إسناده صحيح).
كما أمر بالحجاب والستر؛ فقال: (يا أيها النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ)[الأحزاب: 59]، وقال: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)[النور: 31]، وقال: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[الأحزاب: 53].
وأمر بالحياء وحث عليه؛ فقال: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)[القصص: 23 - 25]؛ قال عمرُ -رضيَ اللهُ عنهُ-: "جاءتْ تمشي على استحياءٍ قائلةً بثَوبِها على وجهِها ليسَتْ بسَلْفَعٍ خرَّاجةٌ ولَّاجةٌ"(تفسير القرآن لابن كثير إسناده صحيح).
وأمر بخفض الصوت؛ فقال: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)[الأحزاب: 32].
وأمر بغض البصر؛ فقال: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)[النور: 31].
وحرم كل وسيلة تفضي إلى محرم فنهى عن الاختلاط؛ قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[القصص: 23].
بل حتى لو كان الداعي للاختلاط عبادة الله وطاعته لما كان ذلك مسوغا؛ فهذا نبينا -عليه الصلاة والسلام- بلغ من حرصه أنه كان يحث النساء على الصفوف الأخيرة وهي التي لا تلي صفوف الرجال؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا"(رواه مسلم).
ومن حرصه -صلى الله عليه وسلم- أنه خصص بابا في مسجده للنساء يدخلن منه ويخرجن بعد أن كان الجميع في بداية الإسلام يستعملون بابا واحدا؛ مما كان يسبب تزاحما واختلاطا؛ فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ قَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ"(رواه أبو داود رقم (484).
كما كن -رضي الله تعالى عنهن- يخرجن قبل الرجال؛ تفاديا لأي تزاحم أو اختلاط يجر إلى فتنة؛ فعن أم سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْقَوْمِ" رواه البخاري رقم (793).
بل أرشد -صلى الله عليه وسلم- إلى أن صلاة المرأة في بيتها خير لها؛ فها هو يقول لأمِّ حُميدٍ امرأةِ أبي حُميدٍ السَّاعديِّ: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاة في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي".
هذا في بيوت الله وهن يؤدين فريضته وهن خلف رسوله يصلين ومع صحابته يصفين؛ فمن باب أولى تحريم ذلك في الطرقات والأسواق وغيرها؛ فعن أبي أسيد الساعدي مالك بن ربيعة: أنه سمع رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول للنساء وهو خارجٌ من المسجدِ فاختلطَ الرجالُ مع النساءِ في الطريقِ: "استأخِرْن فإنه ليس لكنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريقَ عليكنَّ بحافَّاتِ الطريقِ فكانت المرأةُ تَلتصقُ بالجدارِ حتى إنَّ ثوبَها ليتعلَّقُ من لصوقِها به"(الألباني الصحيحة ٢/٥١٢).
ونهى عن السفر بغير محرم؛ ففي حديث عبد الله بن عباس قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ ولا تسافرُ المرأةُ إلا مع ذي محرمٍ فقام رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ! إنَّ امرأتي خرجت حاجةً وإني اكتتبتُ في غزوةِ كذا وكذا قال: "انطلِقْ فحُجَّ مع امرأتكَ"(مسلم ١٣٤١).
ونهى عن التبرج وإظهار الزينة؛ فقال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء)[النور: 31]، وقال: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)[الأحزاب: 33].
ونهى عن خروجها متعطرة بين العامة والغرباء؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا"، ومن حديث أبي موسى الأشعري عبدالله بن قيس قال عليه الصلاة والسلام: "أيُّما امرأةٍ استعطرتْ ثُمَّ خَرَجَتْ، فمرَّتْ علَى قومٍ ليجِدُوا ريَحها فهِيَ زانيةٌ، وكُلُّ عينٍ زانيةٌ"(الألباني (١٤٢٠ هـ)، صحيح الجامع). وروى أبو داود وأحمد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات"؛ أي غير متزينات ولا متطيب.
ونهى عن الخلوة؛ عن عمر بن الخطب -رضي الله عنه- قال: قال: "فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ، وَهوَ منَ الاثنينِ أبعدُ، ولا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ فإنَّ ثالثَهُما الشَّيطانُ، ومن كانَ منكم تسرُّهُ حسنتُهُ وتسوؤُهُ سيِّئتُهُ فَهوَ مؤمنٌ"(الألباني الصحيحة عن عمر بن الخطاب).
إضافة إلى حرص الشريعة على قصر بعض أحكامها على الرجال دون النساء؛ صيانة لشرفها وكرامتها وحفظا لعفتها وعرضها، وحتى لا يترتب على فعلها مفسدة؛ ومن أمثلة ذلك: الأذان، والرفع بالتلبية، والفتح على الإمام، والخطابة، والجهاد وغيرها كثير...
أيها الكرام: إن أعداء الشريعة والفطر السليمة يدعون إلى الحرية والاختلاط والغناء والسفور، وكل ذلك يقود لا محالة إلى الوقوع في الفاحشة والرذيلة وهو ما يصبون إليه لإشباع رغابتهم وغرائزهم، وهو ما يتفقون فيه مع أوليائهم من الشياطين في دعوتهم ومهمتهم، وقد صاروا بهذه المهمة أولياء بعض لاتحادهم في الهدف وانسجامهم في الغاية.
أيها الفضلاء: إن الدعوة للتعري وعدم الستر ونزع الحجاب ليس إلا عودة للجاهلية الأولى؛ مهما زعم دعاة تحرير المرأة أنه رقي ووصفوه تقدم ونعتوه حضارة؛ فأي حضارة تجعل من الإنسان الذي كرمه الله بخلقه وعقله ووصفه وتكليفه يعيش حياة رضيها الخالق العزيز للبهائم ونزه عنها الإنسان!
إنما مثل الشهوة كمثل الحريق إذا انقدح شرره؛ فإذا لم يأخذ الإنسان بأسباب السلامة منه ويحترز من وقوعه وإلا سبب كوارث وخيمة، وقد يمكن إطفاءه عند بداية شرره وبدء نشوبه، أما في حال اشتداده وهيجانه وبلوغه ذروته فيصعب حينها السيطرة عليه، وحتى لو تم التحكم عليه فلن يكون ذلك إلا بعد لحوق أضرار كبيرة ودفع ضرائب باهظة في الأرواح والأموال وغيرها..
وهكذا الشهوة حرص الإسلام أن يكبتها ويمنع أسباب إثارتها ووسائل هيجانها؛ لأنها إن هاجت وثارت فمن الصعب كبتها والتحكم فيها، ولا يسلم صاحبها من الوقوع في الكارثة وهي الحرام والفاحشة، قال ربنا: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31].
ما كان للإنسان العاقل ذو الفطرة السليمة أن يقبل بالمكشوف المبتذل من الطعام والشراب وغيره هكذا فطروا وتعلموا؛ فكيف يرضون ذلك لشريكات حياتهم وأعراضهم؛ فلا يرضون لأنفسهم تلك المرأة التي كشفت مفاتنها لكل الناس وحسنها للقريب والبعيد حتى وإن كانت شريفة..
أيها الكرام: اللباس ستر وزينة؛ ففي الدنيا أمروا به وفي القبر يسترون وفي القيامة بعد حشرهم عراة يكسون وفي الجنة يلبسون.
ومن هنا أوجه نداء إلى أولياء الأمور وإلى المربين والمعلمين، نداء إلى الرجال وإلى النساء، نداء إلى حراس القيم ورواد الفضيلة، نداء إلى كل الناس بأخذ الدروس والعبر من هذه القصة العظيمة ففي قصصهم تربية وعبرة وعظة وحكمة..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم