اقتباس
أخي الخطيب: إن فكرك لا بد أن يواكب عصرك، وإن مصطلحاتك لا بد أن تُقتبس من قاموس يومك، وإن أسلوبك لا بد أن يتطور بتعاقب الليل والنهار، وإلا ستظل مكانك والعالم كله يجري...
أخي الخطيب: ألا ترى أن كل شيء حولنا يتطور، وأن التطور قد طال كل مجالات الحياة، حتى مجال الدعاية والإعلان الذي أنت قريب منه، وحتى مجال الخطابة والتأثير في الجماهير الذي أنت أصل فيه، بل أنت حامل أنبل الرسالات والمبلغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أفلا تطور من نفسك ومن تفكيرك ومن وسائلك ومن أساليبك...
من سنوات كان السائد هو الهاتف المنزلي الأرضي ثم ظهر الهاتف المتنقل المحمول، ومنذ سنوات كان الناس يتواصلون بالخطابات واليوم يتراسلون بـ الإيميلات، ومنذ زمان كانوا يتنقلون على ظهور الحيوانات والآن يسافرون بالسيارات والطائرات... فلا شيء جامد مكانه، بل كل شيء يتطور.
وكل أرباب مجال من المجالات يطورون ويبتكرون ويخترعون من المبهر المنمق ما يخلب ألباب الناس ويجذبهم إليهم، فهؤلاء أهل التلفاز -مثلًا- يتفننون في خلب ألباب الناس، وانظر -أخي الخطيب- بنفسك؛ هل تلفاز اليوم كتلفاز الأمس؟!
ويأسف المرء ويحزن حين يجد من الخطباء، الذين هم حملة الدين ومعلموه، مَن خطبته هي خطبته منذ سنوات، وأسلوبه هو نفس الأسلوب وأداؤه هو نفس الأداء منذ سنوات لا يتغير ولا يتبدل! ألا يخاف أن يمل الناس منه وينصرفوا عنه بقلوبهم وعقولهم وإن بقيت أمامهم أجسادهم؟!
فإن أدركت حتمية التطور والتجديد وسألتني: وكيف أتطور؟ أجبتك: من خلال هذه البنود لاستراتيجية أسميتها: "استراتيجية تطوير فكر الخطيب".
البند الأول: طوِّر قراءاتك يتطور فكرك:
فإن تطور الفكر أصله تطوير القراءة، فكلما طورت قراءاتك كلما تطورت ثقافتك وتعمقت أفكارك، وكأني بك تعاود فتسأل: وكيف أطوِّر قراءاتي؟ وأجيبك: افعل ما يلي:
أولًا: اقتن الكتب الجديدة: فلا تبخل بمال تنفقه في كتاب طالما وجدت كفافًا، وتتبع كل كتاب جديد يُطبع وتأمله؛ هل يفيدك؟ هل فيه جديد؟ فإن تأكدت من فائدته فلا تفوته ولا تضيعه، فإن لم تستطع شراءه فاستعره، فإن لم تستطع فترقب نسخة الكترونية منه، فإن لم يكن فما حيلة المضطر إلا الصبر حتى يأذن الله به.
ثانيًا: تتبع إنتاج المفكرين الشرعيين: دعنا نتفق أن ما يُكتب في الفكر الإسلامي اليوم كثير جد وكثير، لكن المتميز منه -للأسف- قليل، لذلك ينبغي أن تُقسِّم الكُتَّاب الشرعيين إلى أقسام:
قسم مجدِّد مبتكِر: فهذا تقرأ له جميع كتبه وتحرص عليه حرص الشحيح على الدرهم والدينار.
وقسم له فلتات([1]): وأحب أن أسميه: "صاحب الفلتة" إن كان له كتاب واحد مميز وسائر كتبه "عادية"، أو "صاحب الفلتتين" إن أخرج كتابين متميزين اثنين... وهكذا، فهذا تنتقي من كتبه فتقرأ له ما أجاد فيه.
وقسم ثالث: لا أرى له من الخير إلا أنه نقل خيرًا؛ بمعنى أنه ما ابتكر ولا جدَّد، لكنه وفَّق وألَّف وآخى بين المتشابهات؛ فتراه يضع لكتابه عنوانًا ثم يقتبس من هنا وهناك ومن هذا وذاك ولا يفعل إلا ذلك، اللهم إلا أن يربط بين هذه الاقتباسات بكلمات يسيرات، فهذا وإن فعل خيرًا فإنني لا أنصحك أن تنفق في قراءته وقتًا ولا جهدًا حتى تفرغ من الأهم منه.
ثالثًا: كتيب كل فجر: وهي سياسة ومنهجية ممتازة؛ أن تقتني مجموعة من الكتيبات الجيدة، بحيث تُنهي كل فجر أحدها ولا تترك منه شيئًا للغد، فميزة الكتيبات أنها في الغالب مركَزات؛ تعطيك الزبد والخلاصة بلا حشو ولا استطراد، وميزة وقت الفجر أنت أدرى به.
وستدرك بعد فترة من مداومتك على هذا كم أنجزت من قراءات وكم اكتسبت من أفكار ومهارات.
رابعًا: أسقط ما تقرأ على واقعك: سؤال نسأله: هل القراءة غاية أم وسيلة؟ ونجيب: إنها وسيلة لتغيير الواقع مِن حولنا، لذلك فليكن الأمر الحاضر في ذهنك دائمًا وأنت تقرأ هو: كيف أطبق هذا؟ كيف أستفيد منه في الحياة العملية؟ ما مدى بُعد الواقع أو قربه عما أقرؤه؟... فاجعل همك كلما قرأت جديدًا أن تحوِّله من كلام نظري إلى واقع حي.
فإذا طبقت كل جديد تقرؤه وأسقطته على واقعك وواقع جمهورك، حدث التطور والتجديد لا محالة.
البند الثاني: حدِّث أفكار التراث:
جميل وضروري أن تقرأ كتب التراث، ومقصر من لا يقرأ فيها؛ فهي الأساس وهي الأصل، ولكن لا تنسى وأنت تقرؤها أنها كُتبت في زمان غير زمانك، ولقوم غير قومك، وأنهم كانوا يستخدمون من التعبيرات والمصطلحات ما كان مفهومًا في عصرهم وليس مفهومًا الآن، وأنك -أيها الخطيب- إن نقلتها لجمهورك كما هي لم يفهموا بعضها أو أغلبها، وبالمثال يتضح المقال:
فمثلًا عندما يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخا"([2])، فإن الناس اليوم لا يعلمون ما هو الفرسخ، فحدِّثهم بـ"الكيلو متر" ليفهموك.
ومثله قول الزركشي: "العقيق قبل ذات عرق بمرحلة أو مرحلتين"([3])، فوضِّح لهم أن المرحلة التي يقصدها الزركشي هنا هي مقياس للمسافة أيضًا، وليس لها أي معنى آخر، ثم حددها لهم كذلك بالكيلو متر، وبيِّن لهم أن "العقيق" و"ذات عرق" اسمين لمكانين، إن لم يكونوا يعلموهما.
وقل عن الموازين والمكاييل مثلما قلنا عن المسافات، فلا تقل: المد والصاع والوسق والرطل والإردب والكيلة... إلا أن تكون معلومة لجمهورك أو أن تبين المراد بها بالكيلو جرام أو بغيره.
وفي أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ستجد ما يحتاج إلى شرح وتفسير؛ لقصور مدارك الناس اللغوية اليوم، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا"([4])، وقوله -صلى الله عليه وسلم- عن الأمانة: "فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا"([5])، فوضح المقصود بمرباد ومجخي وبالوكت والمجل وبنفط ومنتبر...
بل إن من ألفاظ القرآن ما لا بد أن تفسره في خطبتك ولو بكلمة واحدة أو اثنتين؛ ليفهم الناس مراد الله -عز وجل- منهم، كقوله -تعالى-: (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ)[فاطر: 27]، وقوله -سبحانه-: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)[العاديات: 1-6]، ففي كل آية من هذه الآيات كلمة أو أكثر تحتاج إلى شرح وبيان.
وإن من الجمل سهلة الألفاظ ما يحتاج أيضًا إلى توضيح؛ فربما كانت كل ألفاظ الجملة بسيطة واضحة لكن المراد منها غير مفهوم، فمثل هذه الجمل والتعبيرات أحوج إلى التبيين من الألفاظ والكلمات، ومثال ذلك قول ابن الجوزي: "حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة"([6])، فهو يقصد بـ"مزاح العلة" هنا: متفرغ من هموم الدنيا ومشاغلها التي تمنعه من التأثر بالموعظة، وليست العلة هنا المرض أو السبب أو أي شيء آخر.
وكذلك قوله في نفس الكتاب: "ورب نظرة لم تناظر"([7])، فالمراد -إن شاء الله-: لم تمهل صاحبها بل أردته الهاوية.
ومثله قوله: "وربما قال العالم المحض لنفسه..." ([8])، فيقصد بـ"العالم المحض" هنا: العالم الذي لا يعمل بعلمه.
أخي الخطيب: إن فكرك لا بد أن يواكب عصرك، وإن مصطلحاتك لا بد أن تقتبس من قاموس يومك، وإن أسلوبك لا بد أن يتطور بتعاقب الليل والنهار... وإلا ستظل مكانك والعالم كله يجري.
يتبع إن شاء الله.
-------------------
([1]) في معجم اللغة العربية المعاصرة، لدكتور أحمد مختار عبد الحميد (3/1737) ط: عالم الكتب: "كان فلْتة زمانه: كان حاذقًا موهوبًا متمّيزًا".
([2]) القواعد النورانية، لابن تيمية (ص: 147)، ط: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
([3]) شرح الزركشي على مختضر الخرقي (3/58)، ط: دار العبيكان.
([4]) البخاري (525)، ومسلم واللفظ له (144).
([5]) البخاري (6497)، ومسلم واللفظ له (143).
([6]) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 24)، ط: دار القلم - دمشق.
([7]) صيد الخاطر (ص: 62).
([8]) صيد الخاطر (ص: 92).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم