اقتباس
فإن الملحد لو اكتشف عندك قصورًا في العلم أو الفكر أو الثقافة، وأحس خلال حواره معك أنه قد انتصر وأنك لم تستطع مجاراته وجوابه، فسيزيده هذا ثقة بما هو عليه من خبال وضلال، وسيعمق في داخله أزمته التي يحياها!...
منذ أكثر من عقدين وبضع سنين من الزمان وأنا أعتلي المنابر خطيبًا، وتلك منة الله -تعالى- وفضله، فجعلني الله وإياكم -أيها الخطباء الأجلاء- كفؤًا لها... ولعل من أصعب ما مَرَّ عليَّ طوال تلك الأعوام الطوال: ثلاثة مواقف، أولها: حين استغاث بي أحد القائمين على مراكز تثقيف الشباب وتأهيلهم، قائلًا: أدرك شابًا كاد أن يُفقِدنا عقولنا! فقلتُ: ما له؟! قال: تعال فاجلس معه فحاوره لتنظر ماله! وقد كان وجلست معه ويالهول ما سمعت منه؛ إنه ينكر وجود الخالق -عز وجل- صراحة، أنه يعلنها: "هذا الكون وليد الصدفة المحضة"، إنه يكفر بكل نص شرعي وبكل تراث إسلامي! وكانت هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها ملحدًا.
وكان الموقف الثاني: حين نزلت من على المنبر يوم جمعة فصليت بالناس، ثم وجدت في انتظاري أبًا وأمًا مع ابنهما، يشكوان ما يشكوان من شكوكه وإلحاده وجحوده لخالقه -عز وجل-! فجلست أجيب شبهاته وأحاوره وأناقشه حتى أُذِّن لصلاة العصر وما وصلنا إلى شيء إلا القليل!
وأما ثالث المواقف، وكان أكثرها إثارة لتعجبي: فإنه شيخ عجوز ربما تجاوز الستين أو السبعين وقد دخل عليَّ خلوتي في المسجد متوكأً على عصاه متمايلًا يمنة ويسرة لا تكاد تحمله رجلاه، فما أن استقر أمامي إلا وفاجأتني كلماته وشكوكه وأفكاره البائسة التعيسة؛ فإنه وقد أوشك أن يخرج من الدنيا، يحمل شكوك العالم بين جوانحه، يقول: هل الإسلام هو الدين الحق؟! هل خلف هذا الكون إله خالق؟! وهل بعد هذه الحياة حياة؟!... فنعوذ بالله من البلاء والفتن والخذلان.
ثم توالت أمثال تلك المواقف، لكن بعد أن فارقني كثير من الدهشة والتفاجؤ، توالت وقد أدركت أن الإلحاد -بكل الأسف- أصبح ظاهرة في العديد من بلاد المسلمين، ظاهرة تحتاج إلى تصدي العلماء والدعاة والفضلاء والعقلاء وكل من له غيرة على هذا الدين وفي مقدمتهم خطباء المساجد؛ فإن الناس تسمع لهم أكثر ما تسمع، بل إن الإنصات لما يقولون من فرائض الدين: "ومن مس الحصى فقد لغا"([1])... كذلك فإن الخطباء هم من أكثر من يتعرض لهم الملحدون، وأكثر من يتعرضون لمواجهة الملحدين.
وسنخالف اليوم عادتنا؛ فلن نبدأ بسرد الخطوات والبنود لاستراتيجيتنا؛ "استراتيجية التعامل مع الملحدين" مباشرة، لكننا سنقدِّم لك -أيها الخطيب اللبيب-:
نصائح قبل البداية:
فقبل أن تحاور ملحدًا أو تجالسه لابد أن تكون مستعدًا متحضرًا متهيئًا متجهزًا؛ كي تُصلِح ولا تُفسد، وأذكِّرك بهذه المبادئ التي أصوغها في صورة نصائح:
النصيحة الأولى: حنانيك على نفسك:
بداية: كن على يقين أن الهداية بيد الله -تعالى-، وأن الله لو شاء أن يهدي الملحد لهداه، ولو أركسه لظل في بلواه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)[يونس: 99-100]، فلا تبتأس ولا تأسى لحالهم كثيرًا فتقعد وتيأس، أو تقتلك الحسرة عليهم: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف: 6]؛ بل سدد وقارب وابذل الوسع والطاقة، ودع الهداية لمن هي بيده -سبحانه وتعالى-؛ (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)[فاطر: 8].
النصيحة الثانية: لا تستهن بهداية نفس:
فليس معنى كلامي هذا ألا نعمل ونجهد بكل طاقتنا لنأخذ بيد الملحد إلى ربه -عز وجل-، وإنما قصدت به أن نربع على أنفسنا كي لا نكِلَّ ونمل فننقطع عن محاورتهم.
وكيف لا نبذل كل ما أُوتينا للأخذ بأيديهم وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم"([2])، وها هو -صلى الله عليه وسلم- يقعد عند رأس غلام يهودي كان يخدمه وقد مرض، فيقول له: "أسلم"، فلما أسلم، فخرج -صلى الله عليه وسلم- فرحًا مستبشرًا وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"([3])،
ويقف -صلى الله عليه وسلم- بين يدي أبي طالب وقد حضره الموت حريصًا على هدايته يكرر عليه قائلًا: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله"، وهو يأبى، فيخرج -صلى الله عليه وسلم- من عنده وهو يقول: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"...([4])... فلا تستهن بهداية نفس.
النصيحة الثالثة: اشفق على الملحد المبتلى، ولا تقسو:
فأنت ما هديت نفسك، بل الهداية منةٌ عليك من ربك أعطاك إياها وحرمه منها، فليكن لسان حالك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف: 43]، وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول وهم ينقلون التراب يوم الخندق: "والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا..."([5])... فإياك ثم إياك أن ترفع نفسك فوقه، أو أن تحتقره لضلاله، أو أن تستقل بعقله أو أن تُظهر الاستخفاف به، وتذكر قولة سعيد بن العاص: "إني لأكره أن يمر الذباب بجليسي مخافة أن يؤذيه"([6]).
النصيحة الرابعة: كن واعيًا بطبيعة الإلحاد:
فالإلحاد جحود وإنكار للخالق -عز وجل-، وطغيان بالعقل واعتداد بالنفس وإكبار للطبيعة وعبادة للعلم التجريبي، فإذا تعاملت مع ملحد فإنك تتعامل مع من لا يؤمن بالقرآن ولا بالسنة... تتعامل مع من يقدِّس الجدال والتفلسف، فلن تستطيع -أخي الخطيب- أن تقول له -كما تعودت- "قال الله" أو "قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-"!... فمشكلته الأولى هي: "تقديم العقل على النقل"!
وليس ببعيد أبدًا أن تسمع منه الاستخفاف بـ"فكرة" الخالق -سبحانه وتعالى- أو الكفر بجميع الإنبياء كلهم! فهو ينكر كل الثوابت!... فهيئ نفسك أن تسمع منه في دينك ما يسوؤك!
النصيحة الخامسة: تسلح قبل البدء، كي لا تكون له فتنة:
فهي سمة مشتركة بين كثير من الملحدين؛ أنهم يتبنَّون دائمًا روح التحدي ويعتمدون مبدأ الهجوم، لذلك فإن الملحد لو اكتشف عندك قصورًا في العلم أو الفكر أو الثقافة، وأحس خلال حواره معك أنه قد انتصر وأنك لم تستطع مجاراته وجوابه، فسيزيده هذا ثقة بما هو عليه من خبال وضلال، وسيعمق في داخله أزمته التي يحياها!
لكن بماذا تتسلح قبل الحوار مع ملحد؟.. هل أقول: بالعلم الشرعي المؤصل؟ أنا لا أشك أن ذلك عندك -أخي الخطيب-، لكنه وحده لا يكفي، بل لابد معه من الآتي:
أولًا: أن تستعرض شبهاتهم وتشكيكاتهم، وتتقن ردودها وتفنيدها... وما هي بجديدة، بل هي محفوظة مكررة يرددونها ويتوارثونها، وأجوبتها معلومة قد ألفت فيها الكتب([7]).
ثانيًا: أن تتعلم أساليب الحِجاج والاقناع وإلزام الخصم: لكن لا تخض في ضلالات الفلاسفة والمتكلمين فإنها لجة قليل من خاضها ثم نجا منها، يقول فخر الدين الرازي، وهو أحد من اكتووا بنارها: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن... ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"([8]).
نعم؛ "أقرب الطرق طريقة القرآن"، فانظر إلى القرآن الكريم كيف يلزم الخصوم، ويفحم المعاندين، ويقنع من يطلبون الحق... ومن الكتب المفيدة في ذلك كتاب: "أساليب الدعوة إلى الله في القرآن الكريم"([9]).
***
والآن؛ وقد اتقفنا والتزمنا وأدركنا هذه الأمور والمبادئ، فهيا بنا نحاور الملحد ونحاول دلالته وهدايته من خلال هذه الخطوات المحددة المعالم:
الخطوة الأولى: حدد نوع الملحد الذي تحاوره:
فإن "الإلحاد فِرَق كثيرة، ومذاهب متنوعة؛ فهناك:
الملحد: وهو الذي يُنكِر وجود الغيبيات التي تقول بها الأديان.
وهناك "الرُّبوبيُّ": وهو الشخص الذي يؤمن بوجود خالقٍ لهذا العالم لكنه يكفر بالأديان.
وهناك "اللاأدري": وهو الشخص الذي لا يستطيع أن يجزم بصحة وجود الخالق، ولا يستطيع أن يجزم بعدم وجوده، فهو شخص متوقف!
وهناك "اللااكتراثي": وهو الشخص الذي لا يُبالي بالقضية الدينية، وقضية وجود الخالق.
وكل أتباع هذه التقسيمات يمكن أن نطلق عليهم: اللادينيين، فالملحد والربوبي واللاأدري واللااكتراثي كلهم لادينيون.
وهناك الشخص "الهيوماني": شخص يهتمُّ بالإنسان فحسب، وقد يكون الهيومانيُّ غير ملحد.
هذه أشهر تقسيمات المذاهب الإلحادية المعاصرة"([10]).
وزد على ذلك أن كل واحد من هؤلاء إما ألحد عن جهل أو عن عناد أو لأزمة نفسية وجدانية مرت به... كما سنفصَّل في الخطوة الثانية -إن شاء الله-.
ونحن وإن كنا نطلق على أغلب هؤلاء "ملحدين"، إلا أن بينهم اختلافات تستدعي تنوعًا في أساليب التعامل معهم، وما يصلح لأحدهم قد لا يصلح للآخر؛ فمحاورتك مع الربوبي الذي يُسَلِّم بوجود خالق للكون سينحصر في إقناعه بأنه لا طريق لمعرفة الإله الخالق الحق إلا من خلال الدين الحق وهو دين الإسلام... أما اللاأدري الحائر المتشكك المتردد فمهمتك تبدأ معه -أيها الخطيب- بإزالة شكه وتردده والأخذ بيده إلى اليقين، وإنك ستجده أقل عنادًا كلما شعر منك بالثقة فيما تحمل والتدليل على صحته بالأدلة العقلية الدامغة الواضحة... وستكون نقطة انطلاقك ومحور حديثك مع "اللااكتراثي" أن تخلق له غاية وهدفًا، وتقنعه أن لا قيمة للحياة بغير غاية، وأننا ما أُوجدنا فقط لنأكل ونعبث ونتكاثر، فما الفرق بيننا وبين البهائم إذن؟!...
فالخطوة الأولى -أخي الخطيب- تقتصر على أن تحدد وتتأكد -من خلال كلامه وأسئلته- بأي نوع من الإلحاد قد ابتُلي، فإن لم يتضح ذلك من كلامه فعليك أن تسأله أسئلة تتبين منها حاله؛ من مثل: هل تؤمن بوجود خالق للكون؟ ما رأيك في أديان الأرض؟ هل تتوقع بعد هذه الحياة أن يكون نشور وحساب وجزاء؟... فما أجاب فيه الإيجاب فتجاوزه، وما أنكره فهيا؛ فهذا أوان العمل، فابدأ.
([1]) رواه مسلم (857).
([2]) رواه البخاري (3701)، ومسلم (2406).
([3]) رواه البخاري (1356)، والنسائي واللفظ له (8534).
([4]) رواه البخاري (1360)، ومسلم (24).
([5]) رواه البخاري (4104)، ومسلم (1803).
([6]) العقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي (2-266)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.
([7]) هناك موسوعة مكونة من (24) مجلدًا، تقع في أكثر من عشرة آلاف صفحة للرد على الشبهات، تحت عنوان: "موسوعة بـيان الإســلام للرد على الافتراءات والشبهات"، وهي موجودة على موقع: المكتبة الوقفية.
ومن أفضل المواقع التي وقفت عليها في الرد على الشبهات: موقع "بيان الإسلام"، وموقع "بينات"، وموقع "المحاورون للرد على الشبهات"...
([8]) سير أعلام النبلاء، لذهبي (16/52)، ط: دار الحديث، القاهرة.
([9]) هو كتاب: "أساليب الدعوة إلى الله في القرآن الكريم"، لمؤلفه: د. أبو المجد سيد نوفل، الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
([10]) ينظر: كتاب "بصائر" في نقد الإلحاد، للدكتور: طـلـعـت هـيـثـم (1/14).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم