عناصر الخطبة
1/ ما قدروا الله حق قدره 2/مقتضيات عظمة الخالق 3/ثمرات تعظيم الله تعالى 4/العوامل التي تزيد في القلب تعظيم الله تعالى 5/نماذج من تعظيم الله عند الأولين 6/صور عملية لتعظيم الله تعالىاقتباس
إنّ استشعارَ عظمةِ الله ومعيّته تبعَث في النفس معنى الثبات والعزّة, وتقوّي العزائم حتى في أشدّ حالات الضّنك، وقد كانت هذه الحقائق جليّة عند الصحابة حتى مع الحصار الاقتصاديّ والاجتماعيّ في شِعب أبي طالب، ولم تمضِ سِوى أعوام حتى فتَح الله على أبي بكر وعمر وغيرهم أعظمَ الانتصارات...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أتته السماء والأرض طائعة، وتطامنت الجبال لعظمته خاشعة، ووكفت العيون عند ذكره دامعة، عبادته شرف، والذلّ له عزّة، والافتقار إليه غنى، والتمسْكن له قوة، كل يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، يحيِ ميتاً، ويميت حياً، ويجيب داعياً، ويشفي مريضاً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، سبحانه كل يوم هو في شأن.
سبحانه سمع نداء يونس في الظلمات، فنجاه من الغم والكربات، واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحيى سيداً ونبياً، وأزال الضر عن أيوب، وألان الحديد لداود، وسخر الريح لسليمان، وفلق البحر لموسى، ونجى هوداً وأهلك قومه، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وشق القمر لمحمد -عليهم الصلاة والسلام-.
سبحانه علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، الورقة تسقط بعلمه، والهمسة تُنبَس بعلمه، والكلمة تُقال بعلمه، والنية تُعقَد بعلمه، والقطرة لا تنزل إلا بعلمه (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [ الأنعام 59] (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ يونس 61].
النجوى عنده جهر، والسرّ عنده علانية، (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) [الرعد10]، ربنا العظيم أحاط علمه بالكائنات، واطّلع على النيات، عالمٌ بنهايات الأمور، يعلم ما في الضمير، ولا يغيب عنه الفتيل والقطمير، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، يبدئ ويعيد، وينشئ ويبيد، وهو فعّال لما يريد، لم يخلق الخلق سُدى، ولم يتخذ من المضلين عضدًا, وأصلي وأسلم على إمام العابدين، وخاتم المرسلين، المؤيد بالمعجزات، والسائر بالكرامات، الذي أضاء به المولى الظلمات، وأزال به عن الأمة الجهالات، صلاة وسلاما ما دامت الأرض والسماوات.
عباد الله: نحن اليوم أمام حقيقة مريرة أصابت كثيرا من الناس، وعم خطرها وانتشر أمرها حتى دخلت في قلوب كثير من المسلمين، فلقد ضعف تعظيم الله في نفوس كثير من المسلمين اليومَ، وعظُمت في نفوسهم قوى الأرض البشريّة، حين رأوا مُنجزاتِ الحضارة المادّية ونتاجها، من العلوم الدنيوية، إلى القدرات العسكرية، من الصواريخ العابِرة للقارّات، إلى الأسلحة النووية، إلى حرب النّجوم والفضاء، حتى أصيب بعض الناس بالخور والانبهار، وتسرّب إلى نفوسهم الوهن والانكسار، والهزيمة النفسيّة من أنكى الهزائم وأشدِّها خطرًا على الأمة، وحريٌّ بالمسلمين حينَ تهزّهم عظمة البشر استحضارُ عظمة خالقِ البشر -سبحانه-، الذي يدبّر الممالك, يأمر وينهى، يخلق ويرزُق، يميت ويحيِي، يداوِل الأيّام بين النّاس، يقلب الدّول فيذهب بدولةٍ ويأتي بأخرى.
عباد الله: إن الواجب المحتّم على المسلم ألاّ يعظّم أحدا من الخلق أكثر من قدره, فلا يستحق التعظيم الكامل إلا الله وحده، فهو مطالب بالإيمان باسم الله "العظيم"، وبصفته: صفة العظمة ؛ فهو العظيم الذي خضع كل شيء لأمره، ودان لحكمه، والكل تحت سلطانه وقهره، وهو ذو العظمة الذي كل شيء دونه فلا شيء أعظم منه (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة:255], وكرسيه الذي وسع السموات والأرض, ما السماوات السبع فيه إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وعظمة العرش بالنسبة للكرسي كعظمة تلك الفلاة على تلك الحلقة، والله تعالى مستو على عرشه.
إن عظماء الدنيا مهما علو وبلغوا فإنهم لا يعلمون إلا ما يشاهدون أو ينقل إليهم؛ ولذلك احتاجوا إلى خدمة رعاياهم، وما يخفى عليهم من أمور ممالكهم أكثر مما يظهر لهم وقد يخدعهم بعض المقربين إليهم، ولا تخافهم رعيتهم في السر ولو أظهروا الخضوع لهم في العلن، والربّ العظيم -جل جلاله- كلف الملائكة وهو غني عنهم، ولا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه ولو لم ينقل إليه, بل إن الملائكة يخبرونه الخبر وهو -عز وجل- أعلم منهم بما أخبروا، وهذا من عظمته -جل في علاه-.
والخلق يفرون من عظماء الخلق فيطلبونهم ولا يجدونهم، ويسخرون ما يملكون فيعجزون في طلبهم، وأما ذو العظمة فلا فرار للخلق منه إلا إليه، ولا معاذ منه إلا به: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [ التوبة:118].
فالعظمة صفة من صفات الله تعالى، والله تعالى خلق بين الخلق عظمة يعظم بها بعضهم بعضا، فمن الناس من يعظم لمال، ومنهم من يعظم لفضل، ومنهم من يعظم لعلم، ومنهم من يعظم لسلطان، ومنهم من يعظم لغير ذلك، وكل واحد من الخلق إنما يعظم بمعنى دون معنى، والله -عز وجل- يعظم في الأحوال كلها, فينبغي لمن عرف حق عظمة الله تعالى أن لا يتكلم بكلمة يكرهها الله -عز وجل-، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله -عز وجل-؛ إذ هو القائم على كل نفس بما كسبت.
ومن عظمته -عز وجل- أنه لا قيام للموجودات إلا به -تبارك وتعالى- (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [ الروم:25], وما يجري في القيامة من أهوال وأحوال، وأوصاف الجنة والنار، كل ذلك من دلائل عظمة الكبير المتعال، فعَنْ سَلْمَانَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُوضَعُ الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَوْ وُزِنَ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لَوَسِعَتْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ لِمَنْ يَزِنُ هَذَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ مِثْلَ حَدَّ الْمُوسَى فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: مَنْ تُجِيزُ عَلَى هَذَا؟ فَيَقُولُ: مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِي، فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ" [الحاكم(8739)], وقال: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ".
أيها المسلمون: إن تعظيم الله صمّام أمان في النفوس، وهو وازع خيرٍ ومانع شرٍ إذا غُرس في قلب العبد، وهو داعٍ إلى مراقبة الله، والخوف منه، والعمل بمرضاته، والبعد عن معصيته، فإنه ما جاهر مجاهر بمعصية إلا لما ضعف تعظيم الله في قلبه وقلّ خوفه منه، وما ترك الصلاة ولا تخلّف عنها متخلّف إلا لضعف تعظيمه وخوفه من الله، وما غشّ غاشٌّ أخاه المسلم، ولا اعتدى على حقّه، ولا خان خائن، ولا زنى زانٍ، ولا سرق سارق، إلا لما ضعف تعظيم الله في نفسه، وما خرجت امرأة متبرجة سافرة إلا لقلة تعظيم الله الذي أمرها بالستر والحجاب والبعد عن الرجال.
لذلك فقد توجب على كل مسلم أن يجتهد في معرفة الوسائل والعوامل التي تزيد في قلبه تعظيم الله -عز وجل-، وتعمق الإيمان بهذه العظمة:
أولها وأعظمها: قراءة القرآن وتدبر معانيه, فعندما تقرأ -يا عبد الله- قوله: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً)، وقوله: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ), وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ), وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ), تجد فيها صفات الرب -سبحانه-؛ ملك له الملك كله، أزمة الأمر كلها بيده، مستوٍ على عرشه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالم بما في نفوس عبيده، مطلع على أسرارهم وعلانيتهم، يثني على نفسه، ويتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه، ويحذرهم من نقمه.
وكذلك من تأمل أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي علم أنها قد جمعت أوجه العظمة للخالق -سبحانه- فاستحقت أن تكون أعظم آية في كلامه -عز وجل- كما استحقت الفاتحة أن تكون أعظم سورة؛ لأنها دلت المؤمنين على عظمة العلي العظيم.
ومن الوسائل كذلك: طلب العلم النافع، فإنه على قدر العلم والمعرفةِ بالرب، يكون تعظيمه وإجلاله في القلب، وأعرف النّاس بالله تعالى، أشدّهم له تعظيمًا وإجلالاً، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[ فاطر 28)، فالعلم هو الضوء الذي ينير ظلمات العقل والقلب، ويرشد إلى سواء السبيل، بدونه يضل الناس في أودية التيه والضلال.
ومنها أيضا: ذكر الله تعالى، والمحافظة على الأذكار اليومية والباقياتِ الصالحات، والإكثارُ منها، فإن الذكر باللسان يورث تعظيم المذكور بالقلب.
ومن الوسائل المفيدة أيضا في تعظيم الله تعالى في القلوب والصدور: التأمل في آيات الله تعالى في هذا الكون، في الآفاق وفي الأنفس، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53]، هذا الكون الفسيح كتاب مفتوح ينطق بعظمة خالقه -جل جلاله-.
تجدُ أمامَك نافذة واسعةً سعةَ الكون كلِّه، إعجازٌ باهر, وآيات ناطقة، قد كتِبت بحروفٍ كبيرة واضحة على صفحاتِ الكون كله، (اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شيء وَهُوَ عَلَى كُلّ شيء وَكِيلٌ * لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ). انظر إلى الشّمس والقمَر يدوران، والليلِ والنهار يتقلّبان, بل انظُر إلى تكوين نفسِك وتركيبِ جسمك، من ذا الذي جعله بهذا التركيب وهذا النظام العجيب، فكِّر في النبات والشجر, والفاكهة والثمر، وفي البَحر والنّهَر، إذا طاف عقلك في الكائنات ونظرك في الأرض والسموات رأيتَ على صفحاتها قدرةَ الله, وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلقَ لسانك بــ"لا إله إلا الله"، وخضعت مشاعرُك لسلطانِ الله، يقول -عز وجل-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ اله غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ اله غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ) [القصص 7172].
عباد الله: ماذا نفعَل لو لم تطلعِ الشمس؟! ماذا نفعل إذا غابَ القمَر ولم يظهر؟! كيفَ نعيش؟! كيف نزرع؟! كيف نأكل؟! بل كيف نتعلّم ونعلِّم غيرَنا؟! (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس: 5]. إنَّ مَن تفكّر في ذلك خافَ اللهَ تعالى لا محالة؛ لأنّ الفكرَ يوقعه على صفاتِ جلال الله وكبريائه، فهو -سبحانه- العزيز الكريم المتعال الواحدُ القهار. هو -سبحانه- القهار الذي قهَر كلَّ شيء وغلبه، والذي لا يطاق انتقامُه، مذلُّ الجبابرة, قاسم ظهور الملوك والأكاسرة. هو -سبحانه- القويّ الذي تتصاغر كلّ قوّة أمام قوّته، ويتضاءل كلّ عظيم أمام ذِكر عظمتِه.
سل الواحة الخضراء والماء جاريا *** وهذه الصحاري والجبال الرواسيا
سل الروض مزداناً سل الزهر والندى *** سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما *** وسل كل شيءٍ تسمع الحمد ساريا
فلو جم هذا الليل وامتد سرمداً *** فمن غير ربي يُرجع الصبح ثانيا
وكما أن أعظم الثواب في معرفة الله -سبحانه-, فكذلك أعظم المعاصي الجهل بالله -عز وجل-، وسوء الظن به، فالمسيء به الظن؛ قد ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، فأي ضلال وجهل وسوء فوق هذا؟. ولهذا توعد الله -سبحانه- هؤلاء بما لم يتوعد به غيرهم: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [الفتح: 6].
وقال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لقومه: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 85-87].أي فما ظنكم بربكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره؟. وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟. وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبادة غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله -سبحانه- من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، لما عبدتم معه غيره, وكل خير ونفع صادر منه، ولو علمتم أن الله قائم بالقسط على خلقه وحده، وأنه المتفرد بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور كلها فلا يخفى عليه خافية من خلقه، لما عبدتم معه غيره، فإن الله -تبارك وتعالى- وحده هو الرب العظيم، الذي يستحق لذاته كمال التعظيم والإجلال، وكمال التأله والخضوع، وهذا خالص حقه -سبحانه-.
ومن أقبح الظلم أن يُعطى حقه لغيره، أو يُشرك معه فيه غيره، لا سيما إذا كان الذي جُعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه كما قال -سبحانه-: (هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [الروم: 28]. فما قدر الله حق قدره من جهل عظمته وقدرته وكبرياءه، وأشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه.
وما قدر القوي العزيز حق قدره, ولا عظّمه حق تعظيمه, من أشرك معه الضعيف الذليل الذي لا يقدر على خلق شيء، ولا خَلْق أضعف شيء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 73، 74].
وما قدر الله حق قدره من قال إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل عليهم كتاباً، بل نسبه إلى ما لا يليق به، ولا يحسن به، من إهمال خلقه، وإضاعتهم وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً وعبثاً: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) [الأنعام: 91].
ولا قدر الله حق قدره من جعل له صاحبةً وولداً، أو جعله -سبحانه- يحل في مخلوقاته، أو نسب له الفقر، أو البخل, أو جعله ثالث ثلاثة, وهو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ) [المائدة: 73].
ولم يقدر الله حق قدره, من هان عليه أمره فعصاه، وهان عليه نهيه فارتكبه، وهان عليه حقه فضيعه، وهان عليه ذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه فلم يذكره، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق عنده أهم من طاعته، يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه وهو في قبضته، وناصيته بيده, ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل جوارحه وقلبه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً*وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً) [نوح: 13- 16].
وما قدر الله حق قدره من استحى من الناس، ولم يستحيي من الله، فيسكن في أرضه، ويأكل من رزقه، ويبارزه بالمعاصي ليلاً ونهاراً, فيعصيه بنعمه, ويسيء له على مملكته ويتمرد عليه وهو تحت سطوته وسلطانه: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) [النساء:108].
ولا قدر الله حق قدره من يخشى الناس ولا يخشى الله، فيخاف من العاجز الذليل، ولا يبالي بالقوي العزيز الذي له ملك السموات والأرض قال -عز وجل-: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 13]. ولا قدر الله حق قدره من يعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، ويعامل الله بأهون ما عنده، إن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد والإتقان، وإن قام في حق ربه قام قياماً لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحي أن يعطيه مخلوقاً مثله, يوفون مكيال أنفسهم وإخوانهم ويطففون ويخسرون مكيال ربهم وهو أحق وأولى, ويحب غيره أعظم من حبه لله.
وهل قدر الله حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه، من الإجلال والتعظيم، والطاعة والمحبة، والخضوع والذل، والرجاء والخوف؟. فلو جعل لله من أقرب الخلق إليه شريكاً في ذلك؛ لكان ذلك جرأةً وتوثباً على محض حقه، واستهانةً به، وتشريكاً بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له -سبحانه-، فكيف إذا أشرك بينه وبين أبغض الخلق إليه، وأهونهم عليه، وأمقتهم عنده، وهو الشيطان الذي حذرنا الله منه بقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يس: 60، 61].
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الغني عما سواه, وسبحان العظيم الذي خلق العظمة والقوة في جميع المخلوقات، فكل عظمة وقوة في المخلوقات كالعرش والكرسي والسموات والأرض، والجبال والبحار، والإنسان والحيوان، وكافة المخلوقات من عظمته وقوته -سبحانه-، وعظمة جميع الكائنات بالنسبة لعظمته كالذرة بالنسبة للجبل وخزائنه مملوءة بكل شيء لا تنقص مع كثرة الإنفاق. قال تعالى: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون: 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفَى, وسلام على عبادِه الذين اصطفى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له العليّ الأعلى, وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله, صاحب النّهج السوي والخلق الأسنى, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد:
معاشر المسلمين: إنّ امتلاءَ القلب بعظمة الله يولّد ثقةً مطلقة بالله، ويجعل المسلمَ هاديَ البالِ ساكنَ النفس مهما ادلهمّت الخطوب. إنّ معرفتَنا بعظمةِ الله تورث القلبَ الشعورَ الحيّ بمعيّته -سبحانه-، التي تُفيض السكينةَ في المحن والبَصيرة في الفتن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار, واقترب الأعداء حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى, شاهرين سيوفَهم، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "يا رسول الله، لو أنّ أحدَهم رفع قدَمه رآنا"، فردّ عليه رسولنا ردّ الواثق بربّه: "ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟!" [البخاري (3652)مسلم(2381)].
إنّ استشعارَ عظمةِ الله ومعيّته تبعَث في النفس معنى الثبات والعزّة, وتقوّي العزائم حتى في أشدّ حالات الضّنك، وقد كانت هذه الحقائق جليّة عند الصحابة حتى مع الحصار الاقتصاديّ والاجتماعيّ في شِعب أبي طالب، ولم تمضِ سِوى أعوام حتى فتَح الله على أبي بكر وعمر وغيرهم أعظمَ الانتصارات.
ومِن قبل يقِف موسى واتباعه عند شاطئ البَحر فيقول بعضهم: إنّ فرعون من ورائنا والبحرَ من أمامنا, فأين الخلاص؟! (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:61]، فيردّ نبيّ الله موسى عليه السلام باستشعارٍ لعظمة الله وثِقة كاملةٍ بموعود الله: (إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62]، فكان بعدَها النّصر والتّمكين.
عباد الله: إن هذا الجيل بحاجةٍ ماسّة إلى أن يعرف ربّه حقًّا، ويعظمه صدقًا، بتدبّر أسماء الله وصفاته، والتأمّلِ في آياته، والتفكّر في عظاته، فمَن استقرت عظمة الله في قلبه لم يخف غير الله، ولم يرجُ عداه، ولم يتحاكم إلاّ له، ولم يذلّ إلا لعظمتِه، ولم يحبّ سواه، كما قال مولاه: (والذين آمنوا أشد حباً لله ) [ البقرة 165] .
والله -تبارك وتعالى- هو العظيم وحده، والعظيم هو الموصوف بكل صفة كمال، ولا يستحق ذلك إلا الله وحده, ومن عظمته -سبحانه- أن السموات السبع والأرضين السبع في يده أصغر من الخردلة، ومن هذه عظمته يستحق من عباده أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، وذلك لا يكون إلا بعد معرفته بأسمائه وصفاته فمن كان به أعرف كان له أخوف.
ومن تعظيم الله معرفة عظمته وجلاله، وجبروته وكبريائه، وآلائه وإحسانه قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ -سبحانه- وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].
ومن تعظيمه -سبحانه- حرصك ألا يراك على معصية, ولا يسمع منك خطيئة, خوفا ألا يغضب عليك, وخشية ألا يسخط عليك.
ومن تعظيمه -سبحانه- تعظيم كل ما شرعه من زمان ومكان وأقوال وأعمال: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]. فتعظيمك للشرع وما فيه تعظيم للمشرع العظيم.
ومن تعظيمه -سبحانه- أن يُتقى حق تقاته، فيُطاع ولا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر. ومن تعظيمه -سبحانه- ألا يعترض على شيء مما خلقه وشرعه، ولا على شيء مما قضاه وقدره، ولا على شيء مما أحله وحرمه, بل يسلّم العبد ويرضى لأن فيما شرعه الخير كله وفيما قضاه النفع جميعه.
ومن تعظيمه -سبحانه- تعظيم حرماته: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)[الحج: 30]. ومن تعظيمه -سبحانه- توقير رسله، والعمل بما جاءوا به, وما دعوا إليه. ومن تعظيمه -سبحانه- أن يفرّغ القلب إلا من حبه, ويخلى الفكر إلا من قدره, ويصفى العقل إلا من فكره.
ما عنك يشغلني مال ولا ولد *** نسيت باسمك ذكر المال والولد
فلو سفكت دمي في الترب لانكتبت *** به حروفك لم تنقص ولم تزد
أحبتي في الله: من عظم الله تعالى؛ خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولم يرض بدونه عوضا، ولم ينازع له اختيارا، ولم يرد عليه حقا، وتحمل في طاعته كل مقدور، وبذل في مرضاته كل ميسور. وكلما قوي تعظيم الله تعالى في قلب العبد استصغر العبد نفسه، واستقل عمله؛ لأن الله -عز وجل- إذا تجلى لشيء خشع له، و من عظم الله تعالى عظم شريعته، وأجل أهلها وحملتها والعاملين بها؛ إذ إن إجلالهم من إجلال الله تعالى وتعظيمه.
اللهم اٍنا نسألك من خير ما سألك منه محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة اٍلا بالله.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم