اقتباس
كيف نجعل الغلاء يعمل لصالح دين الله؟ كيف نُحوِّل محنة الغلاء إلى منحة؟ كيف نساهم -نحن معاشر الخطباء- في حل مشكلة الغلاء؟ كيف نخفف من وقع الغلاء على الناس؟ كيف نَحُوُل بين الناس وبين الوقوع في اليأس والقنوط بسببه؟... للرد على هذا الكم من "كيف" كانت هذه الاستراتيجية...
موجة غلاء قاسية متزايدة ضربت جميع أنحاء الكرة الأرضية، ومع الاعتراف الكامل أن لها أسبابها المحسوسة المعروفة، إلا أنها بلا شك ما وقعت إلا بإرادة الله -عز وجل- واختياره، ووفق تقديره وقضائه، وما وقعت إلا لحكمة إلهية سامية، قد تبلغها عقولنا وقد لا تبلغها، فلله في كل قضاء حكمة ورحمة ومنة... ولنا أن نتلمس هذه الحكمة الإلهية من إنزال الغلاء على الناس وما فيه من العطايا والهبات الخفيات، بما يليق بصفات الله العلى وأسمائه الحسنى.
وصدق أبو العتاهية حين قال:
كم نعمة لا يستقل بشكرها *** لله في طي المكاره كامنة
وقد أخذه أبو تمام وزاده وضوحًا فقال:
قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عظمت *** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم([1])
ومع ما في هذا الغلاء من بركات وعطايا جزيلات من رب الأرض والسموات، لكننا -معاشر الخطباء- نرى أغلب الناس في غفلة عن ملاحظتها، والانتفاع بها، وصدق الجليل -سبحانه وتعالى-: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)[يونس: 92].
لهذا السبب جاءت هذه السطور -لا لاستنباط الحِكم الإلهية من الغلاء؛ فلهذا مقام آخر- ولكن لمعرفة كيف نوصل هذه الحِكم والرحمات الكامنة في الغلاء إلى عباد الله؟ كيف ننبههم عليها، كيف نجعلهم ينتفعون بها؟ كيف نجعل الغلاء يقربهم إلى الله -تعالى-؟...
كيف نسخر الغلاء ليعمل لصالح دين الله؟ كيف نُحوِّل محنة الغلاء إلى منحة؟ كيف نساهم -نحن معاشر الخطباء- في حل مشكلة الغلاء؟ كيف نخفف من وقع الغلاء على الناس؟ كيف نَحُوُل بين الناس وبين الوقوع في اليأس والقنوط والكرب بسبب غلاء الأسعار؟
للرد على هذا الكم من "كيف" قد جاءت هذا الاستراتيجية، وسميتها: "استراتيجية الخطيباء لاستثمار الغلاء"، والتي جاءت بنودها على الصورة التالية:
البند الأول: استغلال الغلاء لتعليق القلوب بالله:
فهي فرصة -أخي الخطيب- أن تُعلِّمهم من خلال الغلاء أن الأمر كله لله، وأن الكون كون الله، وأنه -عز وجل- المتصرف الأوحد فيه، وأن الخزائن بيده، والمطر والجدب بيده، والعطاء والمنع بيده، وأنه لا شريك له في ملكه... فتتعلق قلوبهم في مسألة توسعة الرزق ورخاء المعيشة وخفض الأسعار بالله -عز وجل- وحده، وليس بأحد ولا بشيء سواه.
لكن: كيف نصنع ذلك؟ والجواب: من خلال العمل على زيادة إيمان الناس بأسماء الله -تعالى- التالية: المسعر والرزاق والقابض والباسط والمعطي والمانع والخافض والرافع والمدبر...
ولعل هذا ما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسخه في قلوب الصحابة؛ فلما طلبوا منه -صلى الله عليه وسلم- أن يُسعِّر السلع لترخص الأسعار، امتنع عن فعل ذلك، وأوكل الأمر لله -تعالى- وحده، وأكده بذكر أربعة من أسماء الله الحسنى المتعلقة بالأمر؛ فعن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: "إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"([2]).
ومن حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- لما طُلب منه أن يُسعِّر، أوضح لهم أن ما يملكه هو: "الدعاء"؛ دعاء الله بتوسعة الرزق، أما خفض الأسعار ورفعها فبيد الله -عز وجل- وحده، فعن أبي هريرة أن رجلًا جاء، فقال: يا رسول الله، سَعِّرْ، فقال: "بل أدعو"، ثم جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، سَعِّرْ، فقال: "بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة"([3])،([4]).
فليكن هذا هو منهجك -أيها الخطيب اللبيب-؛ أن تنحي جانبًا كل الأسباب التي أدت إلى الغلاء -كالحرب القائمة هناك، وكاحتكار التجار، وكتكالب الناس على شراء أكثر مما يحتاجون خوفًا من الغد- أن تنحيها قليلًا "إلى حين"؛ فتجعلها أسبابًا فرعية ثانوية، وتبرز أمام أعينهم شيئًا واحدًا فقط:
هو أن كل ذلك بأمر الله -تعالى- وبمقتضى حكمته، وتخاطبهم فتقول: "فإذا لجأتم فالجئوا إليه؛ فإنه لا يكشف الضر ويجلب النفع إلا هو -سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ)[يونس: 107]، وتعيد: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)[فاطر: 2]".
وتؤكد على أن كل شيء يحدث الآن مكتوب في اللوح منذ الأزل، فعن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"([5]).
ثم لا يفوتك أن تُذكِّرهم -إذا جحفهم الغلاء- بأن يتوجهوا إلى الله -تعالى- بالدعاء؛ فإن ذلك من وسائل تعليق قلوبهم به -جل وعلا-.
فإذا فقهوا هذا وعقلوه، فلتبدأ بعدها في معالجة الأسباب التي تفاقم الغلاء؛ كالاستغلال والاحتكار وشراء ما لا يحتاجون، وغيرها.
فإن نجحت -أخي الخطيب- في هذا فقد حققت أول المكاسب من أزمة الغلاء، ويا له من مكسب.
البند الثاني: صد الناس بالغلاء عن الذنوب والمعاصي:
وطريقة فعل ذلك هي: إشعارهم -بحق- أن كل معصية يفعلونها تُنقِص الأرزاق وتزيد الغلاء وتؤخر الفرج... ثم تستشهد بقوله -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)[الشورى: 30]، وبقوله -سبحانه-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)[الروم: 41].
وبقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم"([6])، وقوله: "وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
وإذا كانت التقوى سبيلا للرزق والسعة كما في قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)؛ فإن المعصية سبب للفقر والقلة.
وبقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "..وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق"([7])، والشواهد على ذلك كثيرة معلومة، أنت أدرى بها.
والمقصد أن تجعل هذه الحقيقة حاضرة جلية ظاهرة محسوسة في قلوب وعقول جمهورك؛ بحيث يخاف أحدهم أن يُقدِم على ذنب فيُحرم بسببه من توسعةٍ في رزقه كانت على وشك الحصول له، خاصة في الغلاء الذي يحياه... فإن حصل ذلك كان المكسب الثاني من بلية الغلاء.
البند الثالث: دلالتهم على طرق استدرار الرزق من الرزاق عز وجل:
التي من أغربها: الإنفاق؛ تقول للناس: "إذا أردت أن يزيد مالك، فأنفق منه"، لكن في سبيل الله، وتستدل: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)[سبأ: 39]، وبالحديث القدسي: "أنفق أنفق عليك"([8]).
ومنها: فعل الطاعات؛ مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، والتوكل على الله، والاستغفار والتوبة، والمتابعة بين الحج والعمرة، وشكر النعم، والسماحة والمواساة... إلى غير ذلك من أسباب أنت بها خبير.
فإن استطعت -أيها الخطيب- حثهم على صنع ذلك، فقد جمعت فيهم جملة من الفضائل والمحاسن والخيرات والأعمال الصالحات والقربات، لعلك ما كنت تستطيع جمعها فيهم لولا محنة الغلاء... فهذه ثلة من المكاسب، وليست مكسبًا واحدًا.
البند الرابع: تقديم النصائح والتبصيريات:
وأكثر وقت يتقبل فيه الإنسان النصيحة: حينما تقع عليه شدة كشِدة الغلاء، ويشعر أنه في حاجة لمن يوجهه ويأخذ بيده ويدله، وليس أحد أجدر بالقيام بهذه المهمة ولا أقدر من خطيب مسجده الذي هو أنت، فاحرص -أيها الزميل- أن تضيف نصائحك إليهم فضيلة أو تبعدهم عن رذيلة أو تدلهم على خير.
وفي نظري أن تكون أول نصائحك لهم فيما يخص الغلاء اثنتان:
الأولى: شراء الضروريات والإعراض عن الترفيهيات: فاستغل الوضع لتعلمهم "فقه الأولويات" في حياتهم كلها، علِّمهم أن يبدؤوا بالأهم ثم بالمهم، وأن يستغنوا عما ليس بضروري، حدَّثهم عن الإسراف، وعن إلقاء فواضل الطعام في القمامة، وحدَّثهم عن الاقتصاد في المعيشة... مستخدمًا في إقناعهم بذلك كله: "أزمة الغلاء".
والثانية: الفرار من فخ التقسيط، والحذر من خداع البنوك؛ لأنها تُزيِّن القروض، وتيسر للناس أمر الشراء بالتقسيط، حتى يقعوا فريسة الديون لسنوات طويلة! وقد يسقطون بسبب ذلك في معاملات ربوية! ولو سلم الأمر من الربا فإنه لن يسلم من إغراء الناس بشراء ما لا يلزمهم.
ولك أن تزيد على هذه البنود ما شئتَ، وما فعلتُ أنا إلا أن فتحت لك الباب، ونبهتك على استغلال حالة الغلاء، وتحويلها إلى منحة...
([1]) ينظر: الصناعتين، لأبي هلال العسكري (ص: 226-227).
([2]) الترمذي (1314)، وأبو داود (3451)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن ابن ماجه: 2200).
([3]) أبو داود (3450)، والطبراني في الأوسط (427)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن أبي داود: 3450).
([4]) يقول الشيخ عبد المحسن العباد شارحًا: "وهذا يفيد بأن التسعير من الظلم؛ فقد يكون صاحب البضاعة اشتراها بثمن غال ثم يُلزم بأن يبيعها بسعر رخيص، فيكون في ذلك ظلم عليه... ولكن إذا تواطأ التجار على رفع الأسعار فإنهم لا يمكنون من ذلك؛ لأن هذا تعاون على الإثم والعدوان وتعاون على الظلم، فحينئذٍ تتدخل الدولة فتسعر دفعاً للظلم"، نقلًا عن: موقع الشبكة الإسلامية.
([5]) مسلم (2653).
([6]) ابن ماجه (4019)، والبيهقي في شعب الإيمان (3042)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 106).
([7]) مدارج السالكين، لابن القيم (1/423)، ط: دار الكتاب العربي - بيروت.
([8]) البخاري (4684)، ومسلم (993).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم