اقتباس
فلا يليق بالخطيب الذي يحمل الرسالة ويبتغي الإصلاح ويريد أن يكون مؤثرًا في مجتمعه أن يبحث في كل أسبوع عن موضوع لخطبته القادمة، فتأتي كل واحدة من خطبه مفردة منتثرة مبعثرة معزولة مقطوعة عن أخواتها؛ فواحدة تشرِّق وأخرى تُغرِّب؛ بل ينبغي أن تكون خطبه متكاملة متعاضدة تحمل نفس الوجهة والغاية...
أن تصعد المنبر فتلقي الخطبة التي أحسنت تحضيرها واستوفيت أركانها؛ فيتأثر السامعون وتدمع منهم العيون، ويعزموا على تغيير أحوالهم إلى الأفضل.. لهو شيء رائع جميل، وهو من علامات نجاح الخطيب، لكن هذا وحده لا يكفي؛ بل لابد أن تكون جميع خطب ذلك الخطيب مرتبة ومنظمة ومترابطة وفق خطة موضوعة مسبقًا، يحاول أن يصل من خلالها إلى هدف محدد ومخطط له.
أعني أن الخطيب الذي ينزل من على منبره فيصلي صلاة الجمعة، ثم يبدأ -بعد قليل أو كثير- التفكير في موضوع الخطبة القادمة، لهو في نظري "خطيب مقصر" مهما أبدع في خطبته تلك، لكن لماذا؟ لأن الخطيب الحصيف هو من يضع لنفسه "خطة خطابية" تشمل موضوعات خطب الجمعة لمدة عام كامل، أو نصف عام أو على الأقل ثلاثة أشهر قادمة؛ فينزل من على منبره وهو يعلم عما سيتحدث في الجمعة القادمة، ينزل وهو يدرك أن خطبته هذه ما كانت إلا خطوة واحدة في طريق الوصول إلى هدف ما يريد تحقيقه في مجتمه.
ولست مبالغًا حين أقول: إن كثيرًا من خطباء الجمعة في زماننا، مهما كانت براعتهم الخطابية وقدراتهم الإقناعية وفنونهم الإلقائية، يفتقدون هذا العنصر المهم من عناصر نجاح الخطيب؛ ذلك هو الترابط بين تلك الخطب التي يلقونها والتماسك بينها والنظر إليها كـ"وِحدة واحدة" منظومة في حلقات (؛ خطب) محددة تجمعها "خطة خطابية" مدروسة.
فلا يليق بالخطيب الذي يحمل الرسالة ويبتغي الإصلاح ويريد أن يكون مؤثرًا في مجتمعه أن يبحث في كل أسبوع عن موضوع لخطبته القادمة؛ فتأتي كل واحدة من خطبه مفردة منتثرة مبعثرة معزولة مقطوعة عن أخواتها؛ فواحدة تشرِّق وأخرى تُغرِّب، بل ينبغي أن تكون خطبه متكاملة متعاضدة تحمل نفس الوجهة والغاية.
وسؤالنا الآن: على أي أساس توضع هذه الخطة الخطابية؟ وكيف توضع؟ وما الذي يراعى فيها؟ وما موقع المناسبات منها؟... وللإجابة على هذه التساؤلات وغيرها قد وضعت هذه الاستراتيجية؛ "استراتيجية وضع الخطة الخطابية"، وصغتها في شكل خمسة أسئلة، لابد أن تكون إجاباتها واضحة في ذهنك وضوح الشمس قبل أن تضع عناوين ومواضيع خُطَبِك المستقبلية، وقبل أن تصعد منبرك.
السؤال الأول: ماذا يحتاجون؟ ماذا ينقصهم؟
لما تنزَّل القرآن الكريم في مكة تنزل بآيات التخويف والإنذار والجنة والنار والحديث عن اليوم الآخر... وهذا ما كانوا يحتاجونه ساعتها؛ آيات قصيرة المبنى شديدة الجرس تُزلزِل وتُحذِّر وتُنذِر وتُخوِّف... فلما استقر الإيمان في القلوب تنزَّل القرآن المدني طويل الآيات هادئ الأسلوب، يحمل "ما يحتاجونه" في حالهم الجديد من أصول الدين وأحكام الشريعة.
وهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي كل إنسان ما يحتاجه وما ينقصه وفقًا لما يرى من حاله، يتبين ذلك من إجاباته -صلى الله عليه وسلم- المختلفة على السؤال الواحد تبعًا لحال السائل؛ فقد سئل -صلى الله عليه وسلم- هذا السؤال عدة مرات: "أي الأعمال أفضل؟"، فلتقرأ هذه الأحاديث الصحيحة معي لتنظر بم أجاب -صلى الله عليه وسلم- على كل سائل:
فعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله"([1]).
وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تدخل على أخيك المسلم سرورًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تطعمه خبزًا"([2]).
وعن عبد الله بن يسر قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله"([3]).
وعن أم فروة قالت: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول وقتها"([4]).
وعن عبد الله بن حبشي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "طول القيام"([5]).
وعن أبي بكر الصديق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "العج والثج"([6]).
فهذه ست إجابات نبوية مختلفة على سؤال واحد؛ حسب حاجة السائل وحاله وما ينقصه وما يناسبه، ولولا الإطالة لأوردت نماذج عديدة لذلك.
فعليك -أخي الخطيب- أن تنظر قبل وضع خطتك الخطابية: ما الذي يحتاجه جمهورك؛
هل هم قساة القلوب فتُغَلِّب جانب التخويف والترقيق؟
هل هم مبالغون مغالون فتأمرهم بالترفق بأنفسهم وعدم تكليفها فوق طاقتها؟
هل يغلب عليهم الجهل بأصول الدين وثوابته فتجعل الدورة الأولى من خطبك تعليمية وتثقيفية حول مبادئ الدين؟
هل هم من المتأثرين بالثقافات الغريبة على الإسلام فتتخذ موقف تفنيد الشبهات وتحصين العقول والقلوب في مجموعتك الأولى من الخطب؟
هل تنشتر فيهم المنكرات والفسوق والفواحش فتسعى إلى بيان حرمتها وخطورة تفشيها وعاقبتها في الآخرة؟
ففي غاية الأهمية أن يكون ذلك نصب عينيك عند وضع خطتك الخطابية.
ومع التسليم أن لكل بلدٍ وحيٍ ومجتمعٍ احتياجاته الخاصة، إلا أننا نستطيع وضع الخطوط العريضة للاحتياجات المشتركة لأغلب مجتمعات المسلمين في زماننا هذا، في النقاط التالية:
أولًا: علاج المخالفات العقدية: ولكل قوم مخالفاتهم التي ينبغي لخطيبهم أن يعمل على تحديدها؛ لمعالجتها.
ثانيًا: معالجة تضييع الفرائض والتفريط في الواجبات: كترك الصلاة وتأخيرها عن وقتها وتضييع الجُمع والجماعات، والتهاون في أمر الحجاب، وعدم إخراج زكاة المال، والتفريط في أداء الحج مع القدرة عليه..
ثالثًا: علاج الآفات الاجتماعية: تلك التي يستهين بها الناس؛ كالاستماع للغناء واللهو المحرم والتساهل في الاختلاط والخلوة بين الرجال والنساء، وانتشار الرشوة والتدخين... وقَلَّ أن تجد مجتمعًا اليوم إلا وقد انتشرت فيه أمثال هذه الآفات وغيرها، ومهمة الخطيب هنا أن يستقصي ما استشرى منها في حيه ومجتمعه فيكافحه.
رابعًا: علاج الآفات السلوكية: كعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والكذب والخيانة والغدر والغيبة والنميمة والتخاصم والمشاحنة ومشاهدة المحرمات على الشاشات...
خامسًا: مستجدات المعاملات: خاصة في المعاملات الربوية التي اتخذت ألف صورة وصورة وعمت وطمت، وكذلك أشكال التربح السريع من خلال "اليوتيوب" والإعلانات، ووضع "الإعجابات" و"المشاركات" الوهمية..
سادسًا: تقديم القدوات الصالحة: في عصر صارت القدوة فيه في أغلب مجتمعاتنا: "فنان" وممثل وراقصة ومغنية ولاعب ومشهور .. وأول القدوات: رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ثم الصحابة فالتابعون فالصالحون، والعلماء الربانيون والقادة المظفرون...
سابعًا: تصحيح المفاهيم الخاطئة: فيحصر الخطيب المفاهيم المغلوطة التي يدركها من خلال حواراته وتعاملاته مع أهل حيه ورواد مسجده، والتي يلمس آثارها في مواقفهم من الأحداث وردود أفعالهم تجاه الوقائع، ثم يعمل على تصحيحها ومعالجتها من خلال خطته الخطابية.
السؤال الثاني: ما هي خلفياتهم؟
ففي الخطوة السابقة أدركنا احتياجاتهم، والآن نتساءل عن مستوياتهم وخلفياتهم؛ لنستطيع -في خطوة لاحقة- اختيار الأسلوب الذي يناسبهم فنقدِّم إليهم تلك الاحتياجات من خلاله.. فيعمل الخطيب على إدراك التالي:
الانتماء: هل أنت في مسجد يعتنق رواده إحدى الطرق الصوفية؟ أم تغلب عليهم السنية؟ أم أنهم متأثرون بتيارات علمانية وليبرالية؟ أم أنهم غافلون لا يعنيهم أمر الدين في قليل أو كثير، إلا شعائر يؤدونها من باب التعوُّد والألفة؟... ولكل من هؤلاء طريقة تناسبه ومنهج يصلح معه.
وندرك: المستوى الثقافي والتعليمي: فهل أغلبهم من حملة المؤهلات الدراسية العليا أم المتوسطة؟ أم أنهم من البسطاء والأميين؟ وهل فيهم من حملة الشهادات في التخصصات الشرعية؟ أم في مجالات عملية ودنيوية؟ وما هي اهتمامات أغلبهم؛ هل هي سياسية أم اقتصادية أم جل اهتمامهم بأحول المعيشة أم غير ذلك؟..
وندرك: المستوى المادي: فهل أغلب رواد مسجدك من الفقراء والعمال الكادحين؟ أم من الأغنياء المترفين؟ أم هم من المستورين بين هؤلاء وأولئك؟ وهل هم من المسرفين أم المقطرين أم المعتدلين؟ وما هي أولوياتهم في إنفاق أموالهم؛ هل على المظاهر أم لمساعدة المحتاجين؟
وندرك: العادات الاجتماعية السائدة بينهم: هل يتزاورون أم أنهم متقطعون؟ هل يحتفون بالمواسم والمناسبات الإسلامية، وكيف يحتفلون؟ هل يقدرون المصطلحات الشرعية مثل: بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار وكفالة الأيتام.. أم طغت عليهم العادات المتبعة والموروثات عن الآباء والأجداد؟
فإن معرفة هذه الخلفيات وغيرها عنصر مهم في تحديد وتغيير وتعديل الخطة الخطابية التي يضعها الخطيب؛ وقد راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفيات أهل مكة حين ترك هدم الكعبة وإعادتها إلى قواعد إبراهيم -عليه السلام-، قائلًا لعائشة -رضي الله عنها-: "لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم؛ فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابًا شرقيًا، وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم"([7]).
بل ولفت النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر معاذ بن جبل إلى خلفية القوم الذين يأتيهم داعيًا فقال له: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.."([8])؛ فطريقة دعوة أهل الكتاب والموضوعات التي تناسبهم هي بالتأكيد غير تلك التي تناسب عبدة الأوثان أو الملحدين..
([1]) البخاري (2518)، ومسلم (84).
([2]) البيهقي في شعب الإيمان (7273)، والطبراني في مكارم الأخلاق (91)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 1494).
([3]) الترمذي (3375)، ومسند ابن الجعد (3431) واللفظ له، وصححه الألباني (الصحيحة: 1836).
([4]) الترمذي (170)، وأبو داود (426)، وصححه الألباني (مشكاة المصابيح: 607).
([5]) أبو داود (1325)، والدارمي (1464)، وصححه الألباني (صحيح أبي داود: 1196 وقال: صحيح بلفظ: "أي الصلاة").
([6]) الترمذي (827)، وابن ماجه (2924) واللفظ له، وصححه الألباني (الصحيحة: 1500).
([7]) البخاري (1586) واللفظ له، ومسلم (1333).
([8]) مسلم (19).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم