عناصر الخطبة
1/التحذير من التبذيرِ في المال 2/من أضرار التبذير والإسراف 3/من صور الإسراف 4/التصرف السليم في ما زاد عن الحاجةاقتباس
لقد فشَا في المجتمعِ صورٌ كثيرةٌ من الإسرافِ المنهيِّ عنه شرعًا, والذي يُوقعُ صاحبَه في الإثمِ، ومن ذلك: غلاءُ المهورِ، واستئجارُ قصورِ أفراحٍ عاليةِ التكْلُفةِ، وكذلك شراءُ ألبسةٍ وفساتينَ بأغلى الأسعارِ؛ لارتدائِها في ليلةِ الزَّفافِ, سواءٌ من جهةِ العروسِ أو الحاضراتِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنّ الحمدَ للهِ, نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا, مَنْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ, ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ, بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعدُ: فاتقوا الله حقَّ التقوى؛ فهي سبيلُ المؤمنين، وزادُ الصالحين، وبها النجاةُ من كُرباتِ يومِ الدِّينِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18].
عبادُ اللهِ: مِنْ حُسْنِ تدبيرِ العبدِ اقتصادُه في إنفاقِ مالِه، من غيرِ بُخْلٍ ولا إسرافٍ، فلا يَبخلْ على نفسِه وأهلِه، ولا يُبذِّرْ فيفقدُه ويزولُ عنه, ويبقى بعدَه متحسرًا, فالمالُ هبةٌ من اللهِ، وهو عَصَبُ الحياةِ، وسببٌ من أسبابِ إعفافِ النفسِ والأهلِ، والسعيِ في وجوهِ الخيرِ، وتفريجِ الكرباتِ، وقضاءِ الحاجاتِ، وجمعِ الشتاتِ.
وعلى عكسِ ذلكَ فَقدْ حذَّر ربُّنا -جلَّ وعلا- من التبذيرِ في المالِ ونفَّرَ منه، ووَصَفَه في كتابِه بأقبحِ الصفاتِ، وَجَعلَ المبذرَ أخًا للشيطانِ؛ لأن أضرارَه كثيرةٌ وخطيرةٌ, فهو يَذْهبُ بالمالِ، ويُهلكَ التجارةَ، ويُضْعفُ رأسَ المالِ، ويجعلُ الواحدَ معدومًا، والآمنَ خائفًا، والمستقرَّ مشرَّدًا، وبسببِه تتوالى الهمومُ والنكباتُ على المبذِّرِ، ويكونُ عُرْضةً للمصائبِ، وتراكِم الديونِ، وهذا أمرٌ مشاهدٌ ومجربٌ.
والإسرافُ والتبذيرُ مرضانِ من الأمراضِ الفتَّاكةِ التي تنخرُ في قوِّةِ المجتمعِ وصلابتِه، فمنْ لا يجدُ شيئًا يتقوَّى به على أمورِ دينِه ودنياهُ، وشَاهَدَ مَنْ يُسرفُ ويُبذِّر ويرمي نعمَ اللهِ -تعالى- هنا وهناكَ، فإنَّه يضيقُ صدرُه، ويصيبُه الحُزنُ والضَّجرُ، ويمتلأ قلبُه كُرهًا وبغضًا، وحقدًا وحسدًا.
أيُّها المؤمنونَ: ولقد جاءتْ نصوصُ كثيرةٌ تُحذِّرُ من الإسرافِ والتبذيرِ، وتأمرُ بالتوسُّطِ في النَّفقةِ والاعتدالِ فيهَا، ومِنْ ذلكَ: قَولُه -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26، 27]، وقَولُه -تعالى-: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)[الإسراء:29]، وقَولُه -جلَّ وعلا-: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف:31]، وقَولُه -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان:67],
وقالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضاعَةَ المالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤالِ"(رواه البخاري ومسلم)، وقالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ"(رواه النسائي وابن ماجه واللفظ له، وأحمد، وحسنه الألباني).
قال ابنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه-: "التبذيرُ هو الانفاقُ في غيرِ حقٍّ، أمَّا الانفاقُ في الحقِّ فلا يُعدُّ تبذيرًا", وقال مجاهدُ -رحمه اللهُ-: "لو أنْفقَ إنسانٌ مالَه كلَّه في الحقِّ لم يكنْ مبذراً، ولو انْفقَ مُدًّاً في غيرِ الحقِّ كانَ مُبذِّراً".
فالتَّوسطُ والاعتدالُ في الإنفاقِ خُلقٌ فاضلٌ بين خُلقينِ مذمومينِ متطرِّفينِ، والمسلمُ الحقُّ هو الذي يُدركُ الغَايةَ مِنْ خَلْقهِ في هذهِ الدُّنيَا، فلا يكونُ همُّه الاستجابةَ لملذَّاتِ النَّفسِ والجَسَدِ فقط، بلْ يَستعملُ ما أعطاهُ اللهُ من هذِه النِّعمِ في تحقيقِ العبوديةِ الخالصةِ لربّه -جلَّ وعلا-، والتقرِّبِّ إليه بما يُرضيْه, فَمنْ شُكْرِ النِّعمِ صَرفُها في وجوهِها المشروعةِ؛ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم:7]، ومن أعظمِ الكفرانِ للنِّعمِ صرفُها في غيرِ وجوهِها الشرعيةِ؛ (وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد)[إبراهيم:7].
أيُّها المؤمنونَ: لقد فشَا في المجتمعِ صورٌ كثيرةٌ من الإسرافِ المنهيِّ عنه شرعًا, والذي يُوقعُ صاحبَه في الإثمِ، ومن ذلك: غلاءُ المهورِ، واستئجارُ قصورِ أفراحٍ عاليةِ التكْلُفةِ، وكذلك شراءُ ألبسةٍ وفساتينَ بأغلى الأسعارِ؛ لارتدائِها في ليلةِ الزَّفافِ, سواءٌ من جهةِ العروسِ أو الحاضراتِ, والتَّكلُّفُ في عَمَلِ وليمةِ العُرسِ بأشكالٍ متنوعةٍ من الطَّعامِ والشَّرابِ والفواكهِ والحلوى، والتي يُهدرُ منها الكثيرُ، بلْ وربَّما تُلقَى في الزبالاتِ, والعياذُ باللهِ!.
وكذلكَ الإسرافُ في شراءِ الكمالياتِ، من أثاثٍ وفُرُشٍ وأمتعةٍ زائدةٍ, ممَّا لا فائدةَ منه إلا التَّباهي والظهورُ.
وكذا الإسرافُ في شراءِ المراكبِ الفارهةِ, والملابسِ والأثوابِ والمساكنِ الفاخرةِ، ممَّا يَجْعلُ بعضَ النَّاسِ يتحمَّلُ الديونَ العظيمةَ، تَكثُّرًا وتَفَاخُرًا، وَسَفَهًا في العقلِ.
وكذا الإسرافُ في تملُّكِ أفضلِ الجوالاتِ مِنْ أغلَى وأحدثِ الماركاتِ.
وكذلك الإسرافُ في شراءِ الأزياءِ والملابسِ الحديثةِ والاكسسواراتِ والأصباغِ والدهونِ وغيرِها من أدواتِ التجميلِ, والتي تكونُ من أفخرِ الأصنافِ والأنواعِ غاليةِ الثَّمنِ.
فاتَّقوا اللهَ -تعالى- واحْفظُوا نعمَ اللهِ عليكُم؛ فالنعمةُ بالشُّكرِ تدومُ وتبقَى، وبكفرِها تزولُ وَتمضِيْ.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31].
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ, أقولُ ما سمعتمْ, فاستغفروا اللهَ إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ, محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ: فاتُّقوا الله -أيُّها المؤمنونَ-.
وإذا أردنَا أنْ تَدومَ نعمُ اللهِ علينا فينبغي أن لا نستهينَ بقليلِ الطعامِ ولو كانَ لقمةً واحدةً، فلقد كانَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أحرصَ النَّاسِ على نعمِ اللهِ، قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا, فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا, وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَان,ِ وَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ؛ لاَ يَدْرِى فِي أَي طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ"(رواه مسلم).
عبادَ اللهِ: تعلمونَ أنَّ جمعيةَ البرِّ الخيريةَ بالزلفي فيها مستودعٌ خيريٌ يحتوي على ثلاجاتٍ كبيرةٍ؛ لحفظِ التُّمورِ الزائدةِ، وتقومُ بصرفِها لمن يستحقُّ ويستفيدُ منها، أو يُرسلونَها لبعضِ الجمعياتِ الخيريةِ الأخرى, ممن لا يجدونَ هذه التمورَ لتوزيعِها على الفقراءِ عندهُم.
وجمعيةُ حفظِ النعمةِ تستقبلُ الفائضَ من الأطعمةِ، فاحرصوا على تسليمِ الفائضِ لديكم من التمورِ والطعامِ لهذهِ الجمعياتِ؛ إكرامًا للنعمةِ؛ وصيانةً لها عن الزوالِ وأداءً لشكرِهَا.
أيُّها المؤمنونَ: كَشَفَ مديرُ برنامجِ الحدِّ من الهدْرِ في الغذاءِ، أنَّ قيمةَ الهدْرِ الغذائي في المملكةِ تجاوز 40 مليار ريال سنويًّا، ويَتصدَّرُ قائمةِ الأطعمةِ المهدرة الأَرزُّ، وتصلُ نسبتُه إلى ثلاثينَ بالمئةِ من قيمةِ الطعامِ المُهدرِ، ويليه الدَّقيقِ والخُبزُ، وتصلُ نسبتُه إلى 25% من قيمةِ الطعامِ المُهدْرِ.
فاتَّقوا اللهَ -تعالى- في نِعَمِه، وحافظوا عليها قَبْلَ أن تذهبَ عنَّا ولا ترجعُ، واقتصدوا في معاشِكم وجميعِ أمورِكم فما عالَ مَنْ اقْتصَدَ، وما خَسِرَ مَنْ شَكَرَ.
هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى, محمدِ بنِ عبدِ اللهِ؛ فقد أمركم اللهُ بذلك, فقال -جلَّ من قائلٍ عليمًا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم