عناصر الخطبة
1/ تنسُّم عبير الهجرة والذِّكرُ بذكراها 2/ ملحمة التعلُّق بالله في الغار 3/ ذِكر الرِّعاية وتنزُّل السكينة والعناية 4/ ثمرات الذكر 5/ الله معنا: أنوار وأسرار 6/ صيام المحرم وعاشوراءاقتباس
أبو بكر -رضي الله عنه- يرتجف خوفًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: "يا رسول الله: لو نظر أحدهم إلى رجليه لأبصرنا"! حينها تتفجر أنهار العظَمة، وتتفتق أنوار اليقين، وتعبق روائح الإيمان تضمخ جبين الزمان، ينطق الرسول صلى الله عليه وسلم في موقع المحنة، وهي محنة عظيمة تعجز الكلمات عن وصفها والإتيان بحقها ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
كلمة المنبر مع مطلع هذا الشهر الأغرّ، والعام الهجري الأزهر، ترى من الواجب أن تجعل كلمتها المتواضعة حول الحدث العظيم الذي أنار الدنيا وقطع معه عهود الظلام والظلم، والضلال والوهم، الحدث الذي كان نقطة تحول كبرى في تاريخ الإسلام، حيث كان حدثًا ناقلاً من ماضي الانتصار إلى واقع الانتصار، ومن حالة الشَّفَى إلى واقع الشِّفا، ومن عالم الاختفاء والضمور إلى عالم السطوع والظهور.
إنه حدث عظيم، ومنبع عذب نَمِيرٌ، يجد فيه كل طالبٍ بُغْيَتَهُ، وكل راغب طلبته، ولا يمكن أبدًا لأي مسلم معتز بدينه، محب لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يترك هذه الذكرى تمر دون أن يوليها ما تستحق من الاعتناء، ودون أن يقف عندها وقفة اعتبار واستذكار واستشفاء، واستجلاب للعبر العظيمة التي تفيض بها هذه الذكرى.
نعم أيها الأحباب، إن التعاطي مع هذه الذكريات المجيدة مطلب ديني يقتضيه واقع الانتماء، قال -تعالى-: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ) [إبراهيم:5]، أيام مننه المؤيدة، ومنحه المسددة.
ونحن في هذه الأزمنة، أزمنة الوهن والضعف والفتن، أشد حاجة إلى إحياء هذه الذكريات، والتعاطي معها على نحو يُجَلِّي معانيها، ويدفع النفوس دفعًا نحو الاغتراف من مَعينها؛ أما التعاطي السطحي مع هذه الذكريات فيجعلها ذكرياتٍ تُرْوَى لتُطْوَى، وتذكر لتضمر، ومن ثم لم يعد يظهر لهذه الذكريات المجيدة أثر على السلوك والأخلاق، ما أثّر على حرارة الانتماء.
نعم أيها الأحباب، نتتلمذ اليوم على أنوار هذه الذكرى المجيدة، ولن أسلك في ذلك سبيل السرد والحكاية، مع ما في ذلك من الفوائد العظيمة؛ ولكن سأحاول أن أقف عند درسٍ من دروسها، وما أعظم دروسها! وما أكثر عبرها! وكنا قد أشرنا إلى معالم هذا الدرس في الجمعة الماضية عند حديثنا عن بعض الأعمال التي تبلغ بأصحاب الأعذار درجة الحجاج والعمار.
إنه الذكر، ذكر الله -جل وعلا-، ومجرد حديثنا اليوم عن حدث الهجرة هو ذِكْرٌ في حد ذاته؛ لأن كل ما تعلق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو ذكر لله، قال -تعالى-: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) [الطلاق:10-11].
نذكره -صلى الله عليه وسلم- في مولده وشبابه وجهاده وجلاده وهجرته ووفاته، وما ذكرنا لهذه الفصول العطرة من سيرته إلا محاولة منا للاقتراب من نوريته وسراجيته، وذلك من أجل تعميق محبته، وترسيخ مودته؛ وتلكم طريق الفلاح والنجاح.
لقد كان في حدث الهجرة وقفة تُجلي بكل وضوح صلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بربه، وتعلقه به، وعدم غفلته عنه في أحلك الظروف وأشد المواقف التي يهتز عندها الكبار، ويتزعزع فيها أصحاب الهمم، وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موقف العظمة والتفرد والجمال والجلال ليعطي أمته صورة من أعظم صور التعلق بالله.
لقد خرج -صلى الله عليه وسلم- مطاردًا من قومه يقتفون أثره، يُغْرون الناس بالجوائز إن هم قبضوا عليه أو عرفوا مكانه، يخرج -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر لينزلا في غار ثور، ويصل المشركون عند باب الغار لتبدأ القصة، وتسطر الملحمة، ملحمة التعلق بالله.
أبو بكر -رضي الله عنه- يرتجف خوفًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "يا رسول الله: لو نظر أحدهم إلى رجليه لأبصرنا"! حينها تتفجر أنهار العظَمة، وتتفتق أنوار اليقين، وتعبق روائح الإيمان تضمخ جبين الزمان، ينطق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في موقع المحنة، وهي محنة عظيمة تعجز الكلمات عن وصفها والإتيان بحقها: "يا أبا بكر: ما ظنك باثنين، الله ثالثهما؟!".
وينقل الوحي هذه اللقطة الرائعة، والوقفة الماتعة، ينقلها ليقتنصها عشاق الكمال، ومحبو الجمال؛ في قلب الغار، وللغار أسرار، نزلت أول كلمات الوحي: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق:1]، وفي الغار، غار ثور، تجلّى معنى الوحي إيمانًا وثقة ويقينًا وثباتًا: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
إنه ذكر من أعظم أنواع الذكر، ويسمى هذا اللون من ألوان الذكر: ذكر الرعاية، قال ابن القيم -رحمه الله- عندما تكلم عن درجات الذكر: "الدرجة الأولى: الذكر الظاهر، ثناء أو دعاء أو رعاية، فأما ذكر الثناء فنحو: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر؛ وأما ذكر الدعاء: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين؛ وأما ذكر الرعاية فمثل قول الذاكر: الله معي، الله ناظر إليّ، الله شاهدي". انتهى كلامه -رحمه الله-.
إنه عنوان عظيم، ومشهد كريم، لو عملت الأمة بمقتضاه ولو جعلته عنوانًا لارتقت وتألّقت، ولما كانت على ما هي عليه من التراجع والاندحار والتردي في جميع مناحي الحياة.
"إن الله معنا"؛ هذا هو الشعار الذي يجب على كل واحد منا أن يلتزم به، وأن يعيش على مقتضاه، إن هو أراد السكينة في دنيا الضوضاء، والتأييد في عالم الخذلان، فبعد أن ذكر القرآن قول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله معنا" ذكر بعده مباشرة: (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40].
فتنزُّل السكينة أمر ناتج عن الذكر، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهما- أنهما شهدا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل- إلا حفّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده". رواه مسلم.
إنها منح عظيمة، كل واحدة منها خير من الدنيا، "إلا حفتهم الملائكة"، المنحة الأولى، ولا يخفى ما في مخالطة عالم النور من السرور، والارتقاء والطهور، "وغشيتهم الرحمة"، ما أحوج القلوب اليوم إلى رحمة في عالم القسوة، في عالم القتل، في عالم الظلم، في عالم الفتنة! رحمة تهدي القلوب، وتلم الشعث، "ونزلت عليهم السكينة"، فالسكينة تنفي وتطرد الاضطراب، ولا شك أننا في عالم يُنتج ويورّد الاضطراب، عالم يموج بالفتن كموج البحر، عالم داسته المتناقضات، واحتوته الفتن والمحن والأمواج العاتيات، حتى أصبح الواحد منا ينكر نفسه من كل ما يرى ويسمع.
يأتي الذكر ليجلب السكينة؛ لتهدأ الأنفس، وترتاح الأرواح، وتستكين الجوارح، ويسترد العبد عافيته من سَكْرَةِ ما عرّاه ودهاه وشغله.
أما المنحة الأخيرة الواردة في الحديث فهي منحة عظيمة تسترخص في سبيلها الأرواح، وتعطى المهج، ويُجاد بالغالي والنفيس؛ منحة لو عاينّاها حقًّا لطارت رؤوسنا شوقًا إلى الله، واطمئنانًا بما عنده من المنح والمواهب، ولزال عنا بذلك العناء والضنى، إنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وذَكَرهم الله فيمن عنده".
الله العظيم الكريم الجليل الذي يهتز الكون كله من إجلاله وهيبته يذكرك إن ذكرته! إنه شرف ما بعده من شرف! إنها منزلة ما بعدها من منزلة! إنها غاية الغايات، وأمنية الأمنيات.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -عز وجل-: عَبْدِي عِنْدَ ظَنِّهِ بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي وَحْدَهُ ذَكَرْتُهُ وَحْدِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً". رواه البخاري ومسلم.
والله إنه حديث يجعل العبد يستحي ويذوب خجلاً من مولاه! "إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي"، لا إله إلا الله! أي شرف هذا؟! أي منزلة هذه؟! أي عَرض هذا؟! أي فخر هذا؟! أي زاد هذا؟!
لو تأمّلنا هذا الكلام بقلوب المشتاقين المحبين لفاضت منا العبرات، وما ارتضينا منزلة دون هذه المنزلة، يقول ربنا: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، ويقول بعدها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة:153].
يقول الإمام المهائمي -رحمه الله- في تفسيره: "أشار إلى أن الذكر والشكر وترك الكفران إنما يتم بالصبر والصلاة اللذين هما مقتضى الإيمان، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ) لتحصيل تلك الأمور (بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى الطاعات (وَالصَّلاَةِ) الجامعة لطاعة القلب واللسان والجوارح والناهية عن الفحشاء والمنكر". اهـ.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يذكر من ذكره، ويجيب من دعاه، ويعطي من قصده، ولا يحرم من رجاه، أحمده على ما وفّق لذكره، وأعان على شكره، والصلاة والسلام على إمام الذاكرين، وسيد الشاكرين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: إن الله معنا: شعار تقوله في كل حال، وعلى كل حال، شعار يجعلك واثقًا بالله، مستشرفًا عطاءه، مستشعرًا معيته؛ شعار تقوله في الرخاء فيجعلك تستحضر نعمة ربك عليك فتجود لله، وتعطي لله، وتدمن شكر الله.
إن الله معنا: شعار تقوله وأنت في السلطة فيحملك على مراقبة الله وعدم ظلم العباد.
إن الله معنا: شعار تقوله وأنت في أية مسؤولية؛ فيجعلك تراقب الله وتقف عند حدوده.
إن الله معنا: شعار تقوله وأنت في الضراء؛ فيحملك على تذكر رحمة الله.
إذا نزل بك المرض وصرت ممددًا على السرير الأبيض فقل: إن الله معنا؛ فستنزل سكينة الله عليك.
إذا ضاقت بك الحال وكثرت عليك الهموم فقل: إن الله معنا، والجأْ إليه -سبحانه- مستحضرًا قدرته على كشف ضرك.
إذا استشعرت قرب نهايتك وبدت لك معالم رحيلك فقل: إن الله معنا؛ فسيحملك ذلك على حب لقاء ربك: (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ) [العنكبوت:5].
إذا خدعك القريب، وتخلى عنك الحبيب، ومكر بك، فقل: إن الله معنا؛ فإنها ترياق المهموم، وسلوة المحزون.
إذا دعتك نفسك إلى المعصية وزينت لك المخالفة فقل: إن الله معنا؛ فسينشرح صدرك، وتهدأ جوارحك، وعندها ستحضرك العناية، وستحفك الرعاية، وسيصرف عنك البلاء: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].
إذا تلبَّسْتَ بالخطيئة، وغلبتك شهوتك، وغرّك ستر الله المرخي عليك، فقل: إن الله معنا، والجأ إليه مستغفرًا باكيًا متضرعًا راجيًا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ)، أي: تذكروا الله، (فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
هذا رجل ألمّ بالذنب وأصاب الخطيئة فاستحضر جلال الله وذكر عظمته فندم واستغفر، قال الإمام الألوسي في تفسيره المسمى روح المعاني: (ذَكَرُواْ اللّهَ) أي: تذكروا حقه العظيم ووعيده، أو ذكروا العرض عليه، أو سؤاله عن الذنب يوم القيامة، أو نهيه أو غفرانه، وقيل: (ذَكَرُواْ) جماله فاستحيوا، وجلاله فهابوا، وقيل: (ذَكَرُواْ) ذاته المقدسة عن جميع القبائح، وأحبوا التقرب إليه بالمناسبة له بالتطهير من الذمائم، وعلى كل تقدير: ليس المراد مجرد ذكر اسمه -عَز اسمه-، (فَاسْتَغفروا) أي: طلبوا المغفرة منه -تعالى-، (لِذُنُوبِهِمْ) كيفما كانت، ومفعول (فَاسْتَغْفَرُوا) محذوف؛ لفهم المعنى، أي: استغفروه، وليس المراد مجرد طلب المغفرة؛ بل مع التوبة، وإلا فطلب المغفرة مع الإصرار كالاستهزاء بالرب -جل شأنه-، ومن هنا قالت رابعة العدوية: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار". انتهى كلامه -رحمه الله-.
إنه الذكر -يا عباد الله- ديدن الصالحين، به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، وهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتَّجرون، يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا، ويوصل الذاكر إلى المذكور ويجعله ذاكرًا مذكورًا.
قال ذو النون المصري -رحمه الله-: "ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته".
إليكَ وإلَّا لا تُشَدُّ الرَّكائبُ *** ومِنْكَ وإلَّا فالْمُؤَمِّلُ خَائبُ
وفيـكَ وإِلَّا فالغرامُ مُضيّعٌ *** وعنْك وإلَّا فالمحدّث كاذب
فهذه الدنيا -أيها الأحباب- بمتاعها، بزخرفها، بشهواتها، بمتعها، بأموالها، بقصورها، ملعونة إلا ما كان فيها من ذكر الله، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالمًا أو متعلمًا". رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "تفقد الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن؛ فإن وجدتُّم وإلا فاعلموا أن الباب مُغْلَق".
إن تركك الذكر وغفلتك عنه علامة على الغباء، يقول سيدنا -صلى الله عليه وسلم- في حديثٍ عجيب: "مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقَى شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلا سَبَّحَ اللَّهَ بِحَمْدِهِ، إِلا مَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَأَغْبِيَاءِ بَنِي آدَمَ". رواه ابن السني وحسنه الألباني.
إنه غباء ما بعده من غباء، لا يغفل عن ذكر حبيبه وربه وخالقه وسيده وموجده إلا غبي، ومع الأسف! قد اختلت موازين الذكاء والغباء في عالمنا اليوم، فأصبح الذكي هو الذي يحوز المناصب ويملك الأموال، ويُحسن التحايل؛ أما الذكاء الحقيقي في ميزان القرآن وعند النبي العدنان -صلى الله عليه وسلم- فهو الانتصار لله، والتذلل له، ومحاسبة النفس، والاستعداد للرحيل.
يقول -صلى الله عليه وسلم- "الْكَيِّسُ -الفطن الذكي- مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ".
أما سيد الأذكياء، وإمام العارفين الأتقياء، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس"، يعني من الكون كله.
إن الذكر -يا عباد الله- هو الظل الذي تأوي إليه الأرواح لتستظل من شعاع الفتن وبريق الشهوات، وكما كان الذكر في الدنيا ظلاًّ لأهله يستظلون به؛ فإنه يكون يوم القيامة ظلاًّ يستظلون به تحت العرش من شمس وحَرّ يوم القيامة في المشهد العظيم، والموقف الجسيم، موقف حشر الخلائق، موقف الفزع والهول الأكبر، الموقف الذي ينادي فيه كل واحد: نفسي نفسي! الموقف الذي يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، بينما المرء في هذا الموقف فإذا به يرى مَن استظلوا بعرش الرحمن، حيث الظل والأمان.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدّق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفقه يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه". رواه البخاري ومسلم.
وإذا ما أمعنّا الفكر في هذه النماذج السبعة المرضية نجد أن القاسم المشترك بينها هو ذكر الله، فالإمام العادل ما عدل إلا لاستحضاره قوة الله وجلاله وبطشه وأخذه للظالمين، والشاب الناشئ في العبادة ما فعل ذلك إلا لرجائه الثواب من الله وإحساسه بلذة العبادة، ورجل معلق قلبه بالمساجد التي هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه، والرجلان المتحابان يجتمعان ويتفرقان على ذكره، والرجل الذي طلبته المرأة الجميلة ذات المنصب دعته إلى الفاحشة ما تركها إلا مستحضرًا رقابة الله ومعيته، والرجل المتصدق أخفى صدقته حتى عن نفسه لعلمه أنها عند الله ظاهرة معلومة، والرجل الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، فاضت حبًّا وشوقًا وخوفًا من الله.
ولذلكم؛ نقل عن بعض السلف أنهم قالوا: "الذكر على سبعة أنحاء: فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضا".
ومن ذكر الله -أيها الأحباب- معرفة ما أودعه الله في هذه الشهور الكريمة من أنوار وأسرار، من تلكم شهر محرم، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
ومن خصائص هذا الشهر أن فيه فضيلة صيام عاشوراء، وهو العاشر من محرم، عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صيام عاشوراء فقال: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". رواه مسلم.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لئن بقيت إلى قابل -يعني لئن بقيت إلى العام المقبل- لأصومنّ التاسع والعاشر". رواه مسلم. وذلك مخالفة لليهود.
فاجتهِدْ -رحمك الله- في هذا الشهر، وأكثِرْ فيه من الصيام؛ فإن الصيام فيه أفضل من الصيام في غيره ما عدا رمضان، وقد نصّ أهل العلم -رحمهم الله- أنه لم تثبت عبادة من العبادات في يوم عاشوراء إلا الصيام، ولم يثبت في قيام ليلته أو الاحتفال بها أو التطيب أو التوسعة على العيال أو غير ذلك، لم يثبت في ذلك دليل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ والمراد لم يثبت عنه تخصيص لهذا اليوم بهذه الأمور، وإلا فهذه الأمور محمودة في كل زمان ومكان.
اللهم أصلح أحوالنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم