عناصر الخطبة
1/ فضائل محبة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ سمات المحبة الحقيقية النبي صلى الله عليه وسلم 3/ محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم 4/ شتان بين المحبة الصادقة والمحبة الكاذبة 5/ كيف نحب النبي صلى الله عليه وسلم؟اقتباس
إنَّه واللهِ الاختبارُ الصَّعبُ.. يسيرٌ باللِّسانِ، عسيرٌ على الإنسانِ.. يستطيعُ أحدُنا أن يُعبِّرَ عن حبِّه لرسولِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يومَه كُلَّه.. ولكن أينَ نحنُ من سُنَّتِه؟، أينَ نحنُ من هديِه؟، أخبرني عن قلبِكَ حين تسمعُ: قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، هل القلبُ يخشعُ؟، هل الأُذنُ تسمعُ؟، هل الجوارحُ تخضعُ؟، هل شمسُ القَبولِ والاستجابةِ على حياتِنا تسطعُ؟.. أم إنَّها محبةٌ كاذبةٌ.. وادِّعاءاتٌ خادعةٌ.. وهل تنفعُ الأقوالُ إذا كانتْ خاليةً من الأفعالِ؟
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي افترضَ على العبادِ طاعةَ النَّبيِّ محمدٍ ومحبتَه وتوقيرَه والقيامَ بحقوقِه، أحمدُه سبحانَه حمدَ الشَّاكرينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، بعثَ محمداً رحمةً للعالمينَ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، نَبيٌّ شرحَ اللهُ له صدرَه، ووضعَ عنه وزرَه، ورفعَ له ذكرَه، وجعلَ الذِّلةَ والصَّغارَ لمن خالفَ أمرَه، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أَمَّا بَعْدُ: كانَ في بيتِه، يُحادِثُ زوجتَه الحنونَ.. ويُلاعبُ البناتَ والبنونَ.. جاءَ إليهم يحدوه الحبُّ والأشواقُ.. ليرتاحَ بعدَ عناءِ يومٍ شاقٍّ.. قد ملأوا عليه قلبَه وحياتَه.. كيفَ لا، وهم زينةُ الحياةِ الدُّنيا.. وهو في قمَّةِ السَّعادةِ والهناءِ.. تذكَّرَ شخصاً لم يكنْ قد نساهُ.. وأخذَ بتلابيبِ قلبِه الشَّوقُ لرؤياهُ.. فتركَ الأحبابَ.. وقصدَ البابَ.. فها هو يمشي في شوارعِ المدينةِ.. تتسابقُ أمامَه الخُطواتُ.. قد ألهبتْ مشاعرَه الذِّكرياتُ.. نَفدَ صبرُه عن غيابِه وقد كانَ عندَه قبلَ قليلٍ.. فذهبَ إليه لتقُرَّ عينُه بمشاهدةِ الخليلِ.. فلما دخلَ المسجدَ ورآه مكانَه..
قالَ له والحبُّ يملأُ أركانَه: "يَا رَسُولَ الله، إِنَّكَ لأَحَبّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ولدِي، وَإِنِّي لأَكُونُ فِي البَيْتِ فَأَذْكُرَكَ، فَمَا أَصْبِر حَتَّى آتِيكَ فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتكَ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الجَنَّةَ، رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لا أَرَاكَ؟.. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام بِهَذِهِ الآيَةِ: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69].
لا إلهَ إلا اللهُ.. هل رأيتُم حبَّاً مثلَ هذا؟.. وهل سمعتُم شوقاً مثلَ هذا؟.. ولا عجبَ في هذا من الصَّحابةِ الذينَ آمنوا باللهِ تعالى وحدَه، وعلِموا أن الإيمانَ لا يكتملَ إلا بمحبةِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فوقَ كلِّ أحدٍ من البشرِ.. كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".
إنَّه واللهِ الاختبارُ الصَّعبُ.. يسيرٌ باللِّسانِ، عسيرٌ على الإنسانِ.. يستطيعُ أحدُنا أن يُعبِّرَ عن حبِّه لرسولِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يومَه كُلَّه.. ولكن أينَ نحنُ من سُنَّتِه؟، أينَ نحنُ من هديِه؟، أخبرني عن قلبِكَ حين تسمعُ: قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، هل القلبُ يخشعُ؟، هل الأُذنُ تسمعُ؟، هل الجوارحُ تخضعُ؟، هل شمسُ القَبولِ والاستجابةِ على حياتِنا تسطعُ؟.. أم إنَّها محبةٌ كاذبةٌ.. وادِّعاءاتٌ خادعةٌ.. وهل تنفعُ الأقوالُ إذا كانتْ خاليةً من الأفعالِ؟
اسمعْ إلى موقفٍ من مواقفِ الحبِّ العظيمةِ التي تُكتبُ بدمعِ العينينِ.. عن عبدِ اللهِ بنِ هِشامٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضيَ اللهُ عنه-، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاّ مِنْ نَفْسِي".. قالَ له الحقيقةَ، وهل يُحبُّ الإنسانُ أحداً أكثرَ من نفسِه؟.. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ"..
فأخبرَه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بشرعِ اللهِ تعالى وما ينبغي على المؤمنِ، وهو أن يكونَ الرَّسولُ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أحبَّ إليكَ حتى من نفسِك.. فرجعَ عمرُ إلى نفسِه وعلمَ أن رسولَ اللهِ هو من أخرجَه من الظُّلماتِ إلى النُّورِ، ومن الضَّلالِ إلى الهِدايةِ، وأنقذَه من طريقِ الغوايةِ، ولو تركَ الأمرَ لنفسِه فإنه لا يزالُ في الجاهليَّةِ الجهلاءِ، وفي مهاوي الشِّركِ الظَّلماءِ، فجدَّدَ النِّيةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: "فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "الآنَ يَا عُمَرُ".
أيُّها المؤمنُ.. اختبرْ إيمانَكَ عندَ سماعِكَ لهذه الآيةِ: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
عندما يقرأُ المؤمنُ هذه الآيةَ بتدبُّرٍ.. يعرفُ أثرَ الحبِّ في إيمانِ العبدِ.. وأن من أحبَّ أطاعَ واتَّبعَ وضحَّى، كما قالَ تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 31]. ولذلكَ فعلامةُ محبَّةِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- هي اتِّباعُه.. فالمحبُّ الصَّادقُ مُتَّبِعٌ مُطيعٌ.. ولذلكَ نشعرُ بالفرقِ بيننا وبينَ الصَّحابةِ، الذين ضَحَّوا بالأهلِ والأموالِ والأوطانِ من أجلِ اللهِ تعالى ورسولِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.. لا لشيءٍ إلا لأنَّهم أحبُّوا اللهَ ورسولَه محبَّةً صادقةً.
وكانتْ هذه المحبَّةُ الخالصةُ واقعاً في حياتِهم، فلا يُقدِّمونَ عليها أهلاً ولا مالاً، ولا زوجةً ولا عيالاً، عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-: أن أعْمَى كانتْ له أمُّ ولدٍ تَشْتُمُ النَّبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وتَقَعُ فيه؛ فَيَنْهَاها فلا تَنْتَهِي، و يزجرُها فلا تنزجرُ، فلما كانَ ذاتَ ليلةٍ، جَعَلَتْ تقعُ في النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وتشتمُه؛ فأخَذَ المِغْولَ فوضَعَه في بطنِها واتَّكَأَ عليها فقتلَها، فلما أصْبَحَ ذُكِرَ ذلك للنَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فجمعَ الناسَ فقالَ: "أُنْشدُ اللهَ رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌ إِلاَّ قَامَ".
فقامَ الأعْمَى يتخطَّى الناسَ وهو يتَدلدلُ، حتى قَعَدَ بين يَدَي النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فقالَ: يا رسولَ اللهِ أنا صَاحِبُهَا، كانتْ تشتمُكَ وتَقَعُ فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجُرُها فلا تَنزَجرُ، ولي منها ابْنَانِ مِثْلُ اللؤلؤتينِ، وكانتْ بي رفيقةٌ، فلما كانَ البارحةُ جعلتْ تشتمُك وتقعُ فيك، فأخذتُ المِغْولَ فوضعتُه في بطنِها واتَّكَأْتُ عليه حتى قتلتُهَا، فقالَ النبيُ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "ألا اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ".
هل رأيتُم مرَّةً امرأةً ماتَ لها أبٌ أو أخُ أو زوجٌ أو ابنٌ.. هل رأيتُم جَزعَها وبكاءَها وذهولَها وحُزنَها.. فكيف لو ماتَ هؤلاءِ جميعاً في يومٍ واحدٍ؟.. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم أُحد حاص أهل المدينة حيصة وقالوا: قُتِل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة.
فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاُستقبِلتْ بأبيها وقد ماتَ، قالت: من هذا؟، قالوا: أبوك، قالتْ: ما فعل رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، قالوا: أمامكِ، ثمَّ اُستقبِلتْ بابنِها وقد ماتَ، قالت: من هذا؟، قالوا: ابنُكِ، قالتْ: ما فعل رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، قالوا: أمامكِ، ثمَّ اُستقبِلتْ بزوجِها وقد ماتَ، قالت: من هذا؟، قالوا: زوجُك، قالتْ: ما فعل رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، قالوا: أمامكِ، ثمَّ اُستقبِلتْ بأخيها وقد ماتَ، قالت: من هذا؟، قالوا: أخوكِ، قالتْ: ما فعل رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، قالوا: أمامكِ، حتى دُفِعتْ إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فأخذتْ بناحيةِ ثوبِه، ثُمَّ قالتْ: بأبي أنتَ وأمي يا رسولَ اللهِ، لا أُبالي إذا سَلِمتْ من عَطبٍ، كلُ مُصيبةٍ بعدَكَ جَلَلٌ –أي: هيِّنةٌ-.
سبحانَ اللهِ.. إنَّكَ ليصيبُكَ الذُّهولُ أمامَ هذه المواقفِ.. وترجعُ إلى نفسِكَ بسؤالٍ صريحٍ: هل نحنُ نحبُّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- حقَّاً؟.. سُئلَ عليٌ بنُ أبي طالبٍ -رضيَ اللهُ عنه-: كيفَ كانَ حبُّكم لرسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، قالَ: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ".
لقد أدَّى الصحابةُ الحقَّ تجاهَ حبِّ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.. حتى إن أحدَهم كانَ يفديه بروحِه ولا يُصابُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بشوكةٍ.. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: "وَأَمّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَّةِ، فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَبَعَثَ بِهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ مَعَ مَوْلى لَهُ يُقَالُ لَهُ نِسْطَاسُ إلَى التّنْعِيمِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ -وذلكَ قبلَ إسلامِه رضيَ اللهُ عنه-، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللهَ يَا زَيْدُ: أَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا عِنْدَنَا الآنَ فِي مَكَانِك نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَأَنّك فِي أَهْلِك؟، قَالَ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنّ مُحَمّدًا -صلى اللهُ عليه وسلمَ- الآنَ فِي مَكَانِهِ الّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ النّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا.. ثمَّ قُتِلَ زيدٌ -رضيَ اللهُ عنه- شَهيداً، ولسانُ حالِه يقولُ:
إني لأُرْخِصُ دونَ عَرضِكَ مُهجتي *** روحٌ تروحُ ولا يُمسُّ حِماكا
روحي وأبنائي وأهلي كلُّهم *** وجميعُ ما حَوَتْ الحياةُ فِداكَ"
هكذا كانوا يُحبونَه.. وهكذا كانوا يتَّبعونَه.. وكانوا من أشدِّ النَّاسِ تمسُّكاً بسنَّتِه.. حتى إنَّ أحدُهم لا يتصوَّرُ فِراقَه.. لما بعثَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- معاذَ بنَ جبلٍ -رضيَ اللهُ عنه- إلى اليمنِ، خرجَ معَه رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يُوصيه ومعاذٌ راكبٌ ورسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يمشي تحتَ راحلتِه، فلما فرغَ قالَ: "يا معاذُ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلكَ أن تَمرَّ بمسجدي هذا وقبري"، فبكى معاذٌ لفراقِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، ونفعنا بهديِ سيدِ المرسلينِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كل ِّذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي هدانا بالبشيرِ النذيرِ إلى الصراطِ المستقيمِ، وجعلَ محبتَه علامةَ المؤمنينَ الصادقينَ، وتفضَّلَ علينا أن جعلَه شفيعَ المذنبينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلمْ وباركْ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، وعنَّا معهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.
عبادَ اللهِ.. ويكفي شرفاً وفخراً وتعظيماً وأجراً في هذا البابِ.. أن يكونَ لكَ في الآخرةِ مقامٌ قريبٌ من الأحبابِ.. عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضيَ اللهُ عنه- أن رجلاً سألَ النَّبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عن السَّاعةِ، فقالَ: متى الساعة؟، قالَ: "وماذا أعددتَ لها؟"، قالَ: لا شيءَ إلا أَنِّي أُحبُّ اللهَ ورسولَه، فقالَ: "أنتَ معَ من أحببتَ"، قالَ أنسٌ: فما فَرحنا بشيءٍ فرَحَنا بقولِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "أنتَ معَ من أحببتَ"، قالَ أنسٌ: "فأنا أُحبُّ النَّبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وأبا بكرٍ وعمرَ، وأرجو أن أكونَ معهم بحبي إياهم، وإن لم أعملْ بمثلِ أعمالِهم". وأنا أُشهدُكم أنِّي أحبُّ النَّبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وأبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليَّاً والصَّحابةَ أجمعينَ"، وأرجو أن أكونَ معهم بحبي إياهم، وإن لم أعملْ بمثلِ أعمالِهم.
فمن أحبَّ قوماً صادقاً من قلبِه.. مُخلِصاً في قصدِه.. مُجتهداً باللَّحاقِ بهم.. كانَ معهم وإن لم يعملْ عملَهم.. جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فقالَ: يا رسولَ اللهِ، كيفَ تقولُ في رجلٍ أحبَّ قومًا ولم يلحقْ بهم؟، فقالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "المرءُ مع من أحبَّ".
فأينَ نحنُ من محبتِه واتِّباعِه والاقتداءِ به؟.. أينَ سنَّتَه في ظاهرِنا وباطنِنا وأخلاقِنا وعبادتِنا؟.. هل اشتقنا له كما اشتاقَ لنا.. قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا، قَالُوا: أَوَ لَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، الذين آمنوا بي ولم يروني.. هل تَعرفونَ من أكثرِ النَّاسِ حُبَّاً لرسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.. اسمع صفتَهم، قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ".
فالذي ينفقُ مالَه كلَّه ويُضَحِّي بأهلِه كُلِهم في نظرةٍ لوجِهِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.. فهذا حياتُه وأعمالُه وأقوالُه وأنفاسُه كلُّها على هديِه وسُنَّتِه.. وإياكم ممن يُمنعُ عن الوصولِ إليه.. وممنْ يُصدَّ من الورودِ إليه.. كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَلا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا".. فيا حسرةَ المُبدِّلَ المطرودَ الغريبَ.. ويا ندامةَ من لم يُحشر مع الحبيبِ.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، اللهم ارزقنا محبتَه واتِّباعَه ظاهراً وباطناً، اللهم توفنا على ملتِه، واحشرنا في زمرتِه، واسقنا من حوضِه، وأدخلنا في شفاعتِه، واجمعنا به في دارِ النعيمِ المقيمِ يا ربَّ العالمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم