عناصر الخطبة
1/ذم الدنيا وبعض أوصافها الحقيرة 2/خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته مِن بسط الدنيا وبعض الآثار السيئة لذلك 3/بعض مظاهر بسط الدنيا على الناس في هذا الزمن 4/خطر الفصل بين الدنيا والآخرة 5/المفهوم الصحيح للدنيا 6/تهافت الناس على الدنيا وتنافسهم عليها وغفلتهم عن الآخرة 7/حال السلف مع الدنيا 8/موت الفقراء والأغنياء وحالهم في قبورهماقتباس
إنها الدنيا؛ لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، إنها الدنيا؛ ظل زائل، وسراب راحل، غناها مصيره إلى فقر، وفرحها يؤول إلى ترح، وهيهات أن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[فاطر: 5 - 6].
لقد ذم الله -تبارك وتعالى- الدنيا في غير ما آية من كتابه، وذم جل وتعالى الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة، فقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ)[البقرة: 86].
وقال تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)[القيامة: 20 - 21].
وقال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 16 - 17].
وقال تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 37 - 39].
والآيات في هذا كثيرة.
الدّنيا -عبادَ الله- ليسَت دار مَقرّ، بل هيَ دارُ ممرّ، منذ أن تستقرّ قدمُ العبد في هذهِ الدّار فهو مسافِر إلى ربّه، ومدّةُ سفره هي عمرُه الذي كُتِبَ له، ثمّ قد جُعِلت الأيّام واللّيالي مراحلَ لسَفره، فكلّ يوم وليلةٍ مرحَلة من المَراحل، فلا يزال يطوِيها مرحلةً بعد مرحَلة حتّى ينتهِي السّفر، فالكيِّس الفطِنُ هو الذي يجعل كلَّ مرحلةٍ نصبَ عينيه، فيهتمّ بقطعها سالمًا غانمًا، فإذا قطَعهَا جعلَ الأخرى نصبَ عينيه.
هذه الحقائقُ عن الدّنيا تحجبُها عَن تأمُّل القلب، جواذبُ الأرض وفِتن الدّنيا، وفي الحديثِ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الدّنيا حُلوَة خَضِرة".
أي: حلوة المَذاق، خَضِرة المنظَر، فالشيء إذا كان حلوًا ومنظره طيّبًا، فإنّه يفتن الإنسان، وهكذا الدّنيا حلوَةٌ خضِرة.
ثمّ يقول صلى الله عليه وسلم: "وإنّ الله مستخلِفُكم فيها، فينظر كيفَ تعملون"[أخرجه مسلم].
لقد وصَف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تُزهِر بنضارَتها، تَسحَر الألباب، تستهوِي القلوبَ، ثمّ لا تلبَث إلا برهةً حتى تذبُل، فتتلاشَى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هَذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانَة غرّارة، تخدعُ وتُغري، فإذا أقبلَت عليها النفوسُ، وتعلّقت بها الألبابُ، ذوَت أيّامها، واستحَالت نضرتُها إلى هَشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدَق الله: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 45 - 46] .
إنّ هذا التصويرَ البليغَ يُجلِّي حقيقةَ الدّنيا في ميزانِ الإسلام، كي لا يصبِحَ الناس عبيدًا لها، تستهويهِم خضرتها، ويؤثِرونها على نعيمِ الآخرة، وليسَ مِن سَداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ، وجَمع الحُطام.
يتراكض الناس في طلبِ الدنيا خوفًا من فواتها، وطمَعًا في المزيد، ويبذُلون الأوقات النفيسةَ، ويقاسون شدّةَ الطلَب، بينما قد يفرّطون في الصّلاةِ، ويقعدون عن الجماعةِ، ويتساهلون في الطّاعة، ويتثاقلون في البذل والإنفاق.
لقد كانَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يتخَوّف مِن فتحِ الدّنيا على أمّته، يخافُ عليهم الافتتانَ بها؛ فعن عمرو بن عوفٍ أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصارِ لمّا جاءَه مالٌ من البَحرين: "أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كانَ قبلَكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، وتهلِككم كما أهلكتهم"[أخرجه البخاري].
وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الله بن عمرو: أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا فُتِحت عليكم فارسُ والرّوم أيُّ قومٍ أنتم؟" قال عبدُ الرحمن بن عوف: نقول كما أمَرنا الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسَدون، ثمّ تتدابَرون، ثمّ تتباغضون".
هذه -يا عبادَ الله- بعضُ آثارِ بسطِ الدّنيا: تنافسٌ، ثمّ تحاسدٌ، ثم تقاتل، وسفكٌ للدّماء.
ومِن آثارِها: الانغماس في التّرَف، ونسيانُ الله، والدّار الآخرة، والسّقوط في المعاصي والآثام.
قال مالك بن دينار: "بقدرِ ما تحزَن للدّنيا يخرُج همّ الآخرة من قلبك، وبقدرِ ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا مِن قلبك".
طغى حبُّ الدنيا على قلوبِ بعضِ النّاس، واستهوته خضرتها، يصرف لها همّه، يحرّك فيها همَّتَه، عبدوها من دون الله، آثروها على متعةِ الآخرة، وفيهم يقولُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعِسَ عبدُ الدّينار، وعبدُ الدّرهم، وعبدُ الخميصة، إن أعطِي رضِي، وإن لم يُعْط سخِط"[أخرجه البخاري].
إنها الدنيا؛ لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل.
إنها الدنيا؛ ظل زائل، وسراب راحل، غناها مصيره إلى فقر، وفرحها يؤول إلى ترح، وهيهات أن يدوم بها قرار، وتلك سنة الله -تعالى- في خلقه، أيامٌ يداولها بين الناس، ليعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، إنما هي منازل، فراحل ونازل، وهي بزينتها وبريقها ونعيمها إنما هي:
أحلامُ نومٍ أو كظل زائلٍ *** إن اللبيب بمثلها لا يخدع
إنها الدنيا؛ حلالُها حساب، وحرامها عقاب، المكدود فيها شقيٌّ إن ظفر، ومحروم إن خاب، إن أخذ مالها من حله حوسب عليه، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن أحبها أذلّته، ومن تبعها أعمته.
هي الدار دار الأذى والقذى *** ودار الفناء ودار الغِيَر
فلو نلتها بحذافيرها لمُتّ *** ولم تقض منها الوطر
إنها الدنيا؛ ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها فيها الظعن، فالركون إليها خطَر، والثقة بها غَرر، كثيرة التغيير، سريعة التنكير، شديدة المكر، دائمة الغدر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، عيشها نكَد، وصفوها كدَر، والمرء منها على خطَر، إما نعمة زائلة، أو بليةٌ نازلة، أو مصيبة موجعة، أو ميتةٌ قاضية، ما هي إلا أيام معدودة، وآجال مكتوبة، وأنفاس محدودة، وأعمال مشهودة، إن أضحكت قليلاً، أبكت كثيراً، وإن سرّت يوماً، ساءت أشهراً وأعواماً، وإن متعت قليلاً، منعت طويلاً، وما حَصَّلَت للعبد فيها سروراً، إلا خبّأت له شروراً، ولا ملأت بيتاً فرحاً، إلا ملأته ترحاً وحزناً: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)[غافر: 39].
إنها الدنيا؛ كم ذهب لأجلها من نفوس؟ وكم تطاير من رؤوس؟ وكم سُحق من جماجم؟ وكم أُريق من دماء؟ وكم شُرّد من أناس؟ وكم عُذب مـن أقوام؟ وما ارتقى المسلمون إلا حينما تجافوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة، وما خُفِضت رؤوسهم، ونُكّست أعلامهم، وذهبت عزتهم، إلا حينما رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فأقبلوا عليها، وتنافسوا فيها، وتركوا الجهاد، وأكلوا الربا، وأخذوا بأذناب البقر.
إنها الدنيا؛ ظل الغمام، وحلم النيام، من عرفها ثم طلبها فقد أخطأ الطريق، وحُرم التوفيق؛ قال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله -تعالى- وما والاه وعالماً ومتعلماً"[رواه الترمذي].
قيل لأحدهم: "ترك فلان بعد وفاته مائة ألف درهم، فقال: ولكنها لا تتركه".
فالسعيد من اعتبر بأمسه، واستظهر لنفسه، والشقي من جمع لغيره، وبَخَلَ على نفسه.
ليس لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت
. فالعاقل لا ينخدع بها، بل يعتبر بمن مضى من الأمم السابقة، والقرون الماضية، كيف عفَت آثارُهم، واضمحلت أنباؤهم.
عمرُ الدّنيا في جَنب الآخرة قَليل، قالَ الله -تعالى-: (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ)[الرعد: 26].
وعنِ المستورد بن شَدّاد -رضي الله عنه- قال: قالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا الدّنيا في الآخرة إلاّ مِثل ما يجعل أحدكم إصبعَه في اليمّ، فلينظر بماذا يرجِع"[أخرجه الترمذي].
وفي حديث ابنِ مسعود -رضي الله عنه-: اضطجَع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصيرٍ فأثّر في جَنبه، فقيل له: ألاَ نأتيكَ بشيء يقيكَ منه؟ فقال: "ما لي وللدّنيا؟! إنّما أنا والدّنيا كرَاكبٍ استظَلّ تحتَ شجرةٍ ثمّ راحَ وترَكها"[أخرجه البخاري].
لقد فُتح على الناس من زهرة الدنيا وزينتها في أيامنا المتأخرة مالم تر البشرية زينة ولا فتنة ولا بهرجاً قبلها، فتنٌ محدقة، وشهواتٌ مغرقة، وقنوات هابطة، وشاشات مدمرة، زُيّنت الشهوات، وقُرّبت الملذات، وأصبح الملتزم بدينه والمحافظ على نفسه وأهله، كالقابض على الجمر، فيا بشرى لمن صان نفسه، وحفظ دينه، وطهّر بيته، وصدَق في تربيته، قال الله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة: 45].
قال الإمام الشافعي رحمه الله -تعالى- عن الدنيا:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غروراً وباطلاً *** كما لاح في ظهر الغلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
إذا انسد باب عنك من دون حاجة *** فدعها لأخرى ينفتح لك بابها
فإن تراب البطن يكفيك ملؤه *** ويكفيك سوآت الأمور اجتنابها
فطوبى لنفس أوطنت قعر بيتها *** مغلقة الأبواب مرخي حجابها
فما تخرُب الدنيا بموت شرارها *** ولكن بموت الأكرمين خرابها
أيها المسلمون: ولا يُفهم ممّا سبَق تركُ السعيِ في عمران الدّنيا، وبنائها الحضاريّ، والانتفاع من خيراتها، بل المرادُ أن يأخذَ المرء من الدّنيا ضمنَ الحدودِ التي أذِن الله بها، وأن لا تكونَ متاعًا للغرور.
الدّنيا التي يذمّها الإسلامُ دنيَا الشهواتِ والملهِيات، دنيا تضييعِ الحقوقِ والواجبات، والتّساهلِ في المحرَّمات، الدنيا التي تشغل عن الله، وتلهِي عن الآخرة .
إنّ التفريقَ بين شؤون الدّنيا وشؤونِ الآخِرة كان سببَ التّخلُّف الذي أزرَى بأمّتنا، وأقعدها عن نشرِ رسالتِها، حين فهِم أقوامٌ مِن ذَمّ الدّنيا إهمالَ الحياة الدّنيا، وتركَ عِمارتها، والقعودَ عن إصلاحها وتنميتها، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ولّد فيهم ذلك سلبيةً مقيتَة، وانعزاليّة وضعفًا وخوَرًا، يأباه الدّين، والصّحابةُ هم القدوة والنموذجُ في فهمِ الإسلام، يأخذون بالأسبابِ في الكَسب من تجارةٍ وزراعة، ويطلبون العلمَ ويَبذلون في سبيل ذلك أوقاتهم وأنفسَهم وأموالهم، فيهم الأغنياءُ دونَ بطَر، والفقراء مع التعفُّف، ومع هذا كانوا أبعدَ النّاس عنِ التهالك على الدنيا، فتَحُوا البلدان، وأنشأوا المدُن، وأقاموا الدّوَلَ، ونشروا الإسلام.
كانَ بعضُ كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يدعُهم رسول الله إلى تَرك المالِ، وتركِ الاشتغالِ بالتّجارة، كما أنّ الدّنيا لم تكُن تساوي جناحَ بعوضَة في حياتهم، فالدّنيا في المفهومِ الإسلاميّ وسيلةٌ وذريعةٌ لتحصيل مقاصدِ الشريعةِ، ومطيّة للآخرة، فإنّها إذا فسَدت فربّما أدّى فسادُها إلى إنقاص الدّين، فلا شكّ أنّ الدينَ سيضعف إذا وصَل حالُ أهلها إلى قلّةِ الأمن، وقلّة الرزق والقتل، فلا يُقبَل أن يقولَ مسلم: أنا أحفَظ ديني وأدَع الدنيا يُعبَث بها ويُفسَد فيها؛ لأنّ من صلحت حاله مع فسادِ الدّنيا واختلالِ أمورِها لن يُعدَم أن يتعدّى إليه فسادُها، ويقدَح فيه اختلالها؛ لأنّه منها يستمدّ.
ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب فقال له: "الدنيا دار صدق لمن صَدَقها، ودار نجاح لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ومهبِط وحي الله، ومصلى ملائكتِه، ومسجد أنبيائِه، ومتجر أوليائه، ربحوا منها الرحمة، واحتسبوا فيها الجنة".
قال الله -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[القصص: 77].
فعمل الدنيا لا ينافي عمل الآخرة.
فلا يُقصد بذم الدنيا تركُها بالكلية، والتجافي عنها تماماً، وإنما القصد من ذلك تركُ بهرجها الزائف، وبريقها الخادع، وعدم الاغترار بها.
ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فالمؤمن يتخذها طريقاً للجنة، ومزرعة للآخرة، وتزوداً للتقوى.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد:
أيها المسلمون: الدنيا قنطرةٌ فاعبروها، ولا تنازعوا أهل الدنيا في دنياهم فينازعوكم في دينكم، فلا دنياهم أصبتم، ولا دينكم أبقيتم.
تلكم هي الدنيا -عباد الله- التي شُغل بها كثير من الناس، وغرّهم سرابها وبريقها وزينتها، فراحوا يتهافتون على جمعها، ويتنافسون في اكتنازها، ورضوا منها بالإقامة والتمتع بشهواتها وملاذها، وتركوا الاستعداد ليوم الرحيل، والعمل لدار القرار، ونسوا أنها في حقيقتها ما هي إلا معبر إلى الدار الآخرة، وميدان يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق فيه المتسابقون.
كم ودعنا من أب وأم؟ وكم نعينا من ولد وبنت؟ وكم دفنا من أخ وأخت؟ ولكن أين المعتبرون؟ فأكثر الناس إلا من عصم الله في هذه الحياة مهمومٌ مغمومٌ في أمور الدنيا، لكنه لا يتحرك له طرف ولا يهتز منه ساكن إذا فاتته مواسم الخيرات، أو ساعات تحرّي الإجابات، تراه لاهياً ساهياً غافلاً، يجمع ويطرح يزيد وينقص، وكأن يومه الذي يمر به سيعود إليه، أو شهره الذي مضى سيرجع عليه.
إن من أعظم الغفلة: أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لاهٍ غافلٍ لا يحسب ليوم الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، يؤمّل أن يُعَمّر عمر نوح، وأمر الله يطرقُ كل ليلةٍ، والواعظ يقول له:
يا راقد الليل مسروراً بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
كم رأينا في هذه الحياة من بنى وسكن غيره، وجمع ثم أكل وارثه، وتعب واستراح مَن بَعده.
ألم يأن للغافلين اللاهين في هذه الحياة: أن يدركوا حقيقتها، وأن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى، وملكها يفنى، ونحن مع ذلك غافلين كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب؟
أيها المسلمون: كان السلف -عليهم رحمة الله- كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه، فلا ينام من الليل إلا قليلاً، يصلي ويسبح ويستغفر، يستدرك ما مضى من عمره ويستعد لما أقبل من أيامه، حتى ليصدق فيهم قول القائل:
إن لله عباداً فطّنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحيّ وطنا
جعلوها لُجّةً واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا
فتزودوا -رحمكم الله- من الأعمال الصالحة، ولا تغتروا بهذه الدنيا الفانية، واعلموا أنكم راحلون عما قريب، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
كان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- كثيراً ما يتمثل قول الشاعر:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته *** يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغنِ عن هرمز يوماً خزائنه *** والخلد قد حاولت عادٌ فما خَلَدُوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له *** والإنس والجن فيما بينها تردُ
أين الملوك التي كانت لعزتها *** من كل أوبٍ إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذبٍ *** لابد من ورده يوماً كما وردوا
أيها المسلمون: لقد رأينا من يملك هذه الدنيا الفانية، وقد رحل منها بكفن، ورأينا من لا يملك منها شيئاً قد رحل بكفنٍ مثله، فالجميع لا شك متساوون في القبور، المعظّم والمحتقر، ولكن بواطن القبور مختلفة، إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران -عياذاً بالله-، فمن عمل في هذه الحياة صالحاً واستعد للقاء الله، واستثمر أوقاتها فيما يعود عليه بالنفع، فرح: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].
يوم تتطاير الصحف وترتجف القلوب، وتتقلب الأفئدة، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت *** أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه *** وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها *** ودورنا لخراب الدهر نبنيها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها *** فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها *** الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها *** والزعفران حشيش نابت فيها
اللهم إنا نسألك الجنة ...
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك اللهم خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم