إسماعيل أحمد محمد
كنتُ أركب الحافلة الفخمة (سوبر جيت) إلى القاهرة، وقد استغرق معظمُ الركَّاب في نومٍ قلِق حين مررْنا بقرية صغيرة ناعِسة في الهزيع الأخير مِن اللَّيل، فخرج من أحدِ دروبها كلبٌ صغير يعوي بحُرقة وغضَب، ولا يكاد أحدٌ في الحافلة يشعُر به، ولم يكمل عَدْوَه اللاهث خلفَ السيَّارة، لكنَّه عوى ثم استدار راجعًا، فتعجبتُ من جهالته، لكنَّني عذرتُه؛ لأنَّه في النهاية حيوان يؤدِّي ما خُلِق لأجله، تذكرت ذاك الكلب المهين حين تابعتُ عبرَ قناة صفا حكايةَ الاحتفال بذِكْرى وفاة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كما قيل عن ذاك العواء، لكنَّني فوجئتُ بحاقدٍ يسبُّ امرأةً ماتت قبل أن يعرف لطائفته أصْلٌ أو فصل، فمَن ذا الذي يتطاول اليومَ على أمِّ المؤمنين المبرَّأة من فوق سبعِ سماوات حين رماها رأسُ المنافقين بالفُحْش، فشهِد الله ببراءتها بقرآن يُتْلى إلى يوم القيامة؟! وكيف لمعتقده الذي يتغذَّى على الحقْد الغبي أن ينتشرَ بين عقلاء؟! إنَّه أشبه ما يكون بالوعِل الذي يناطح بقرنه الضعيفِ جَبلاً أشمَّ:
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا
فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
ربَّما يتعلَّل الشيعةُ في بغضهم للأُمويِّين، وخصوصًا سيِّدنا معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ومَن خلفه في حُكم الدولة الإسلامية بمواقفَ تاريخيَّةٍ أوَّلوها بما يُوطئ لمذهبهم الضالِّ، كالخلافِ بيْنه وبين علي - رضي الله عنه - لكن أن يَحقدوا على الصِّدِّيق والفاروق وابنتيهما، فهذا غباءٌ وجهْل بالتاريخ؛ لأنَّ عليًّا - رضي الله عنه - كان رفيقًا ووزيرًا لكلٍّ مِن الصِّدِّيق والفاروق، وخصوصًا الفاروق الذي ردَّد مِرارًا: "لولا عليٌّ لهلك عمر"، ثم ما الذي يُثير حقدَ الشِّيعة على أمِّ المؤمنين عائشة؟ أهي وقعةُ الجمل؟ لقدِ انهزمتْ فيها رغم أنَّها لم تخرج إلا للصُّلْح بين فريقين من الصحابة، ورجعتْ تحتَ حراسة فرسان من جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبتكريمٍ منه - رضي الله عنه.
وقد راجعتُ معتقداتي وأنا أسمع المناظرة التي انعقدتْ طوالَ شهر رمضان الماضي والذي قَبْله بين السُّنَّة والشِّيعة، فلم أجدْ أنَّ الإيمان لا ينعقد إلا بسبِّ أحدٍ بعينه، لكن هؤلاء يعتبرون أساسَ عقيدتهم في سبِّ وكراهية أعلام الأمَّة المقرَّبين مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومَن أقربُ إليه من زوجِه التي مات في حجْرِها، وقد باشَر ريقُه ريقَها ودُفِن في حجرتها، ومَن أبوها صاحبُه الذي اقترن به طِيلةَ حياته، وفيهما قال الله - جلَّ وعلا -: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33]؟!
ثم كيف كانتْ هذه السيِّدة في عصرها ومجتمعها؟ لقدْ كان أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا أَشْكل عليهم أمرٌ من الدِّين، أو اختلفوا في شيءٍ، استفتوها، فوجدوا عِلمَه عندها، كيف لا، وقد قال فيها زوجُها - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنَّ عندها نصفَ العلم، وإنَّها أحبُّ الناس إليه هي وأبوها؟! فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - استعملَه على جيشِ ذات السلاسل، قال: فأتيتُه فقلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: ((عائشة))، قال: فمِن الرجال؟ قال: ((أبوها))؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ألم تَكُنْ هي نفسها التي أراها اللهُ لرسولِه في منامه على قِطعة مِنَ القماش، ثم تزوَّجها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدَ وفاة السيِّدة خديجة - رضي الله عنها - وكانت الزوجةَ الوحيدة التي بنَى بها بِكْرًا من نِسائه، وكان أزواج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَغِرْن منها؛ لمكانتها عند الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فطلَبْن مِن أمِّ سلمة أن تُكلِّم رسولَ الله فكلَّمتْه، فقال لها: ((لا تُؤذيني في عائشة؛ فإنَّ الوحي لم يأتِني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة))؟!
وقد صبَرتْ مع الرسول الكريم وشاركتْه مواقفَ عديدة، وبيَّنتْ ما خفِي من صفات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذكرتْ لنا ظروفَ بيت النبوَّة، حيث كانت تمرُّ الأسابيع الطويلة وما يُوقَد في بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نارٌ لخبز أو طبيخ، وإنَّما كانَا يَعيشان على الأَسودَين: التمر والماء.
وقدَّر الله لها أن تكونَ سببًا في تشريعِ التيمُّم، ورتَّب القرآن على حديثِ الإفك أحكامًا شرعيَّة لا تزال في الدِّين، وكان أشْهر تطبيق لحدِّ القذف فيمَن لاكوا حديث الإفك.
وظلَّتْ بعدَ وفاة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تَنقُل للأجيال أخبارَه وخصوصياتِه مع أهله، وروتْ عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - 2210حديث، منِ بينها 316 في صحيحي البخاري ومسلم، وكانتْ كما قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تحوز نِصفَ العلم؛ فعن هِشام بن عُروةَ بن الزُّبير عن أبيه، قال: "لقد صحبتُ عائشة، فما رأيتُ أحدًا قطُّ كان أعلمَ بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسُنَّة، ولا بشِعر، ولا أَرْوَى له، ولا بيوم من أيَّام العرب، ولا بنسب ولا بكذا ولا بكذا، ولا بقضاء ولا طب منها، فقلت لها: يا خالة، الطب مِن أين عَلمتِه؟، فقالت: كنتُ أَمْرَض فيُنعت لي الشيء، ويَمْرَض المريضُ فيُنعت له، وأسمع الناس بعضَهم لبعضٍ فأحفظَه"، وعن مسروق قال: قُلنا له - أي: لعُروة -: هل كانتْ عائشةُ تُحسِن الفرائض؟ قال: "والله لقد رأيتُ أصحابَ محمَّد الأكابرَ يسألونها عن الفرائض".
وعندما مرِض رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد عودته من حجَّة الوداع، طابتْ نفوس أمَّهات المؤمنين - رضي الله عنهنَّ - جميعًا: بأن يُمرَّض رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث أحبَّ، وقُلْنَ جميعًا: يا رسولَ الله، قد وهبْنا أيامَنا لعائشة، وانتقل حبيبُ الله إلى بيتِ الحبيبة، وحانتْ لحظةُ الرحيل ورأسه الشريفة على حجْرِها؛ قالت أم المؤمنين تَصِف اللحظة الرهيبة: تُوفِّي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بيتي، وفي يومي وفي ليلتي، وبيْن سَحْري ونَحْري، ودخَل عبدُالرحمن بن أبي بكر ومعه سواك رطب، فنَظَر إليه حتى ظننتُ أنَّه يريده، فأخذتُه فمضغتُه، ونفضتُه وطيبتُه، ثم دفعتُه إليه، فاستنَّ به كأحسن ما رأيتُه مستنًّا قط، فالحمدُ لله الذي جمَع بين رِيقي وريقه في آخرِ يومٍ من الدنيا.
ودُفِن - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث قُبِض في بيتها، وعاشتْ بعده تُعلِّم الرِّجال والنساء، وتَضرِب المَثلَ الحي للأمَّة في العلم والعمل، والزهد والصبر، فقد أُتِيتْ مرَّة بمائة ألف درهم وكانتْ صائمة، ففرَّقَتْها كلَّها، وليس في بيتها شيء، فقالتْ لها مولاتها: أما استطعتَ أن تشتري بدرهم لحمًا تُفطرين عليه؟ قالت: لو كنتِ ذَكَّرتِني لفعلت، لقد ظلَّتْ أمُّ المؤمنين موضِعَ ثقة الأمَّة، تَستقي منها العلمَ وتتعلَّم أحكامَ الشَّرْع، إلى أنْ وافتْها المنية ليلةَ الثلاثاء لسبْع عشرة مضَيْن من رمضان سَنَة سبع وخمسين، وهي في السادسة والستِّين من عمرها.
لكنَّني لستُ مِن الذين يتملَّكهم الغضبُ كلما تطاول قِزمٌ واستنسَر بُغاثٌ على بعض رموزِ الإسلام؛ ليس لأنَّني فقدتُ ولائي - والعياذ بالله - ولكن لأنَّ ذلك السابَّ أو الهازئَ لا يعْدو في نظري مقامَ الكلب الذي يَعْوِي لا في إثر قافلة تَسير، بل في إثر سيَّارة مكيَّفة (سوبر جيت) تَنطلِق ما بين القاهرة ومدن الصعيد، فالأَوْلى براكبيها أن يَتجاهلوا الجنادبَ التي تنقُّ على الطريق.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم