عناصر الخطبة
1/ الكوارث والمصائب من قدر الله 2/ لكلٍّ حظه من البلاء 3/ إعصار جونو يهاجم الخليج 4/ الظواهر الكونية تتجلى فيها قدرة الله تعالى على خلقه 5/ عجز الإنسان وضعفه 6/ عقوبات على الفسوق والعصيان 7/ سنن الله لا تتبدل ولا تتخلف 8/ التحذير من نسبة هذه الظواهر إلى الطبيعة 9/ رغد العيش قد ينسي العاصي ما هو فيه من عصياناقتباس
الكوارث والمصائب من أقدار الله، وقد نبأنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكثرتها في آخر الزمان، كالزلازل والخسف والمسخ والقذف، والملاحظ في الآونة الأخيرة، أنه لا تكاد تخلو سنة أو شهر بل أسبوع من حوادث تهز العالم هزًّا؛ ففي كل يوم يمر بالعالم أحداث محلية ودولية، بعضها له تأثير محدود على بلد معين، وبعضها له تأثير على العالم بأسره أو جزء منه، وما زلنا بين كل آونة ...
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: الكوارث والمصائب من أقدار الله، وقد نبأنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكثرتها في آخر الزمان، كالزلازل والخسف والمسخ والقذف، والملاحظ في الآونة الأخيرة، أنه لا تكاد تخلو سنة أو شهر بل أسبوع من حوادث تهز العالم هزًّا؛ ففي كل يوم يمر بالعالم أحداث محلية ودولية، بعضها له تأثير محدود على بلد معين، وبعضها له تأثير على العالم بأسره أو جزء منه، وما زلنا بين كل آونة وأخرى نسمع من مصادر الأخبار العالمية أنباءً فيها عبرة لمن اعتبر، وذكرى (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد).
من فيضانات تغرق القرى، وتخرّب المدن، وتزهق الأرواح، وتتلف الأموال، ومن إعصارات جوية تنسف الجسور، وتدك الحصون، ومن براكين أرضية، ومن سيول وفياضات جارفة، تكتسح النخيل والزروع، ومن خسوف وكسوف، ومن كوارث أرضية، وفتن ومحن، ومن زلازل تدمر المنازل، وتقلب الأرض وتتلف النفوس والمتاع.
فيا أيها المؤمنون: لا يخلو زمن من الأزمان إلا وفيه من مصائب الزمان، ونوائب الحدثان، وليست أمة من الأمم مخصوصة بنوع من البلاء دون غيرها، حتى يأمن الآخرون فجائع الدهر:
فجائع الدهر ألوان منوعة *** وللزمان مسرات وأحزان
وكل ينال حظّه من هذا الابتلاء، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وقد تبتلى بعض الأمم بالسراء، ويبتلى غيرها بالضراء: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون)، وكل أمر بتقدير الله -جلّ وعلا- وتدبيره، ويعفو ربنا برحمته ويعفو عن كثير، وقد تكون المصائب مُرة، فتكون للجاهلين علمًا، وللغافلين عظة وعبرة، فهل من مدكر؟! نعم -يا عباد الله- تمر بنا عظيم العبر ونسمع شر الخبر، مما يحدث حول العالم في هذا العصر، وكان آخر ما حدث بنا من إعصار حلّ بمن حولنا فهل من معتبر؟! نمر بأيّامٍ عصيبَة وتداعيات أحداثٍ عاصِفة ومستجدّات قاصِفة، إعصار وعواصف أطبقَت غيومُها، فسالت الأرض شعابُها ووديانُها وشوارعها، طاف ببعض دول الخليج طائف الإعصار مبتدئًا ولازال بهم حتى الآن، مرورًا بجيرانها وهم منا ليسوا ببعيد، فعند هذا الحدث المهول -أيها الإخوة- نقف على ما فيه من عبر واعتبار، جعلنا الله وإياكم من الذين إذا ذُكّر تذكّر واعتبر وأناب.
نعم لقد تابع الكثير منا ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمقروءة منها عن هذا الإعصار الهائل الذي أطلق عليه اسم "إعصار جونو"، وتمت متابعة مداره وسيره لحظة بلحظة عبر الأقمار الصناعية، ونقل أحداثه وحوادثه على الهواء مباشرة للعالم أجمع، وهذا الإعصار هو عبارة عن رياح شديدة مصحوبة بغيوم وأمطار غزيرة كثيفة، تَأذّى منها الناس وتضرروا، وبان عجزهم عن ردها ودفع ضررها، ويعتبر هذا الإعصار من أشد العواصف ضررًا على المناطق الذي حلّ بها، بأمر العزيز الحكيم، والذي حاصر في أول حدوثه دولة عمان برياح سرعتها ما يقارب مائة وثمانون كيلوا مترًا في الساعة، مصحوبًا بأمطار غزيرة نتج عنها سيول جارفة وهائلة، ورياح هادرة، سحقت كل من في طريقها، وشلّت حركة الشوارع، وحاصرت جميع السكان في داخل منازلهم عدة أيام، حتى أصبحت جميع المدارس مأوى لكثير من المواطنين، وشلّت حركة النقل عندهم فأغلقت الموانئ والمطارات، وقل سير السيارات، وعطلت المدارس والجامعات، وأصبحوا غير قادرين على ممارسة أعمالهم اليومية المعتادة، فتقطعت بهم السبل بسبب المياه الجارفة والرياح العاتية والأمطار الحامية، وغمرت المياه الطرقات وسددتها الأشجار المتساقطة، وتهاوت كثير من أعمدة الكهرباء، وأصبحت الشوارع عبارة عن أنهار جارية بالمياه في بعض المناطق الساحلية وصل الماء إلى اليابسة ودخل إلى مساكنهم وإن كانوا لها محكِمِين، فأُعلنت الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، نسأل الله سبحانه أن يفرج كربة المسلمين، وأن يحفظهم من كل سوء ومكروه.
الله أكبر: ما أهون الخلق على الله!! وما أعظم قدرة الله، تختلّ برامجهم لأدنى حدث كوني، وتتأثّر حياتهم إذا هبّت ريح عاصف، إنها فيضانات قد أغرقت الشوارع بالماء، لقد أحدث هذا الإعصار دمارًا هائلاً على المنطقة التي يأتي عليها، ولنا عبرة في الأعاصير على الرغم من الاستعدادات وأخذ الاحتياطات اللازمة، يقول قائلهم: إنه أمر لا يُصدق، إنها قوة الله -عز وجل- فلا تصمد أمامها قوة، وتبقى قوة الله فوق كل قوة، وإذا أراد الله شيئًا، فلا راد لقضائه -سبحانه وتعالى-، إنها نذرٌ ولكن أين المعتبرون؟! وآياتٌ ولكن أين المؤمنون؟! قد طاف بهم طائف الإعصار فأحل الأمن خوفًا، والحياة موتًا، والعامر خرابًا، سائلين المولى أن يلهمهم الصبر ويكون عبرة لمن يعتبر، فلعلنا نتعظ ونعود إلى الله، متجردين من الذنوب تائبين مستغفرين الله.
نعم أيها المسلمون: لقد أراد الله أن يبين للعالم أنه مالك الملك، العزيز القهار الجبار، لا تقف قوة أمام قوته، ولا توازي عظمة عظمته، وهل يقدر غير الله أن يأمر الأرض فتهتز فتدك ما عليها؟!
لنا -يا عباد الله- مع هذا الحادث محطات تأمل ومنازل تفكر واعتبار؛ منها: بيان عجز الإنسان وضعفه وإحاطة قوة الله وقدرته به من كل الجهات: من فوقه، ومن تحته، وفي أرضه وسمائه وهوائه، بيانُ عظيمِ بطش الله وقهرِه وجبروته وشدّته وقوة مِحاله وعظمته: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج: 12]، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر: 67]، فإن الله سبحانه عزيز ذو انتقام، إنه سبحانه قوي عزيز، إنه سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير، إنه سبحانه شديد المِحال، إنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، إنه هو الرزّاق ذو القوة المتين.
ولا شك -يا عباد الله- أنّ هذه عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والفساد والفسوق والعصيان، وفيها لمن حولهم عبر وعظاتٌ لا يدركها إلا أولو الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة؛ حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك لبضع ثوان، فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك وهذا الرعب.
أيها المسلمون: إن تلك السنن الربانية التي قررها الله تعالى في الأمم السابقة لا تختلف زمانًا ولا مكانًا، فهي سنن مطردة في الأفراد والشعوب والمجتمعات والأمم والدول، فمتى ما بغت وكابرت واستكبرت وعاندت أمهلها الله واستدرجها بالنعم المتعددة المتلونة: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم: 44]، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، يقول الله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44]؛ قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "أي فتحنا عليهم أبواب الأرزاق من كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم عياذًا بالله من مَكْرِه، ولهذا قال: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا)، أي من الأموال والأولاد والأرزاق أخذهم على غفلة وغرّة منهم، فإذا هم آيسون من كل شيء".
لا إله إلا الله القوي الجبار العزيز القهار: (إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، لا إله إلا الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وإن الرياح -أيها المؤمنون- جند من جنود الله تعالى التي لا يقاومها شيء، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة بإذن ربها، دمرت المدن وهدمت المباني، واقتلعت الأشجار، وصارت عذابًا على من حلت بدارهم، فلما عتا قوم عاد وقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت: 15]، أرسل الله عليهم الريح العقيم، فقال -جل وعلا-: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات: 41، 42]، قال الإمام البغوي -رحمه الله-: "هي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شجرًا ولا تحمل مطرًا، ما تذر من شيء أتت عليه من أنفسهم وأنعامهم ومواشيهم وأموالهم إلا جعلته كالرميم، أي كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس".
الريح جند من جنود الله، ينصر بها من يشاء من عباده المؤمنين كما حصل في غزوة الخندق؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الأحزاب: 9]، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان يوم الريح والغيم، عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر. فإذا أمطرت، سُرّ به، وذهب عنه ذلك. قالت عائشة: فسألته، فقال: "إني خشيت أن يكون عذابًا سُلّط على أمتي". رواه مسلم.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به". رواه مسلم.
وقد قال الله عن قوم صالح عندما أرسل عليهم الريح: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف: 24]، فلم يظنوا في السحابة التي أظلتهم سوى أنها ظاهرة كونية قد تتسبب في نزول المطر، خاصة وأنهم كانوا محتاجين إلى المطر، ولكن، لم تكن هذه الغمامة سوى العذاب! ونقل ابن كثير في تفسيره: عن عبد الله بن عمرو قال: الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب. فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات. وأما العذاب: فالعقيم والصرصر -وهما في البر- والعاصف والقاصف -وهما في البحر- فإذا شاء -سبحانه وتعالى- حرّكه بحركة الرحمة، فجعله رُخاءً ورحمةً وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسحاب تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حرّكه بحركة العذاب، فجعله عقيمًا وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمة على من يشاء من عباده، فيجعله صرصرًا وعاتيًا ومفسدًا لما يمر عليه.
أيها المسلمون: إن كثيرًا من الدول والأمم والمجتمعات غالبًا ما تضرب لهذه الرياح والأعاصير ألف حساب، فتقرأ الأحوال الجوية وتتنبأ بوقت ومكان حدوثها، وتتخذ من أجلها الاحتياطات وتشغيل الإنذارات وتجهيز الملاجئ! ومع هذا كله إلا أنها لا تتجاوزهم إلا بخسائر فادحة في الأرواح والأموال، وتلفيات في الممتلكات!
أيها المسلمون: إن مما ينبغي الحذر منه: هو نسبة هذه الظواهر إلى الطبيعة! كما يسميها بعضهم: "غضب الطبيعة!"، وكما يقول بعضهم: إن هذه ظواهر طبيعية، لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم! كما يجرى ذلك على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها. ونحن لا ننكر أن يكون لها أسباب حسية، ولكن: من الذي أوجد هذه الأسباب الحسية؟!
إن الأسباب الحسية لا تكون إلا بأمر الله -عز وجل-، والله بحكمته جعل لكل شيء سببًا، إما سببًا شرعيًا، وإما سببًا حسيًا. هكذا جرت سنة الله -عز وجل-.
أيها المسلمون: لقد جرت سنة الله -عز وجل- في عباده أن يعاملهم بحسب أعمالهم، فإذا اتقى الناس ربهم الذي خلقهم ورزقهم، أنزل عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، كما قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96]، وقال تعالى:(وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجن: 16]، وإذا تمرّد العباد على شرع الله، وفسقوا عن أمره، أتاهم العذاب والنكال من الكبير المتعال، فإذا كان العباد مطيعين لله -عز وجل-، معظمين لشرعه، أغدق عليهم النعم، وأزاح عنهم النقم، وإذا تبدل حال العباد من الطاعة إلى المعصية، ومن الشكر إلى الكفر، حلت بهم النقم، وزالت عنهم النعم، فكل ما يحصل للعباد من محن وكوارث ومصائب (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير).
وإن ما نشاهده من هذه الآيات الكونية، لهي آية من آيات الله تجعل المؤمن متصلاً بالله، ذاكرًا له شاكرًا لنعمه، مستجيرًا به خائفًا من نقمته وسخطه؛ قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105]، فكم دعانا القرآن الكريم إلى الاعتبار بما حل بمن قبلنا وبمن حولنا لنتعظ ولنقف عند حدود الله فلا نتعداها!! (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 36]، وذلك رغبة منه أن نصحح أحوالنا ونغيّر حالنا، ونقلع عن ذنوبنا.
وقد علمتم -أيها الأحبة- أن مدار القرب من الله تقواه، علم ذلك ووعاه كل من تدبر كتاب الله تعالى، وعرف معناه، وتجرد للحق ولم يتبع هواه، وكل من نظر في قصص الأولين رأى فيها ما كانوا عليه من قوة في الأبدان، وسعة في السلطان، وكان بأسهم شديدًا، لكنهم لما عصوا ربهم، أخذهم بذنوبهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [غافر: 21]، فقطع الله دابرهم وأهلكهم عن آخرهم، (فتلك بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) [النمل: 52]، (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) [القصص: 58]، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُم ْيَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 96- 99]، وهذه موعظة وعبرة لنا -يا عباد الله- والله قادر أن يبعث البحر في أي لحظة ويطم على البلد، ولذلك لا بد من الرجوع إلى الله والتوبة، وأخذ العبرة والعظة، ولذلك فالقلب الحي يعيش مع هذه المشاهد بضوء القرآن والسنة.
فاستغفروا الله -عباد الله- وتوبوا إليه، فذلك أمان من العذاب بإذن الله، لا سيما وقد ذهب الأمان الأوّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].
نسأل الله -عز وجل- أن يجعلني وإياكم من الذين إذا وعظوا اتعظوا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا ابتلوا صبروا، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون) [العنكبوت: 40]. بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن الله الملك الحق المبين، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء وهو الحي الذي لا يموت وهو القوي العزيز، وهو على كل شيء قدير، لا راد لقضائه ولا مبطل لحكمه -سبحانه وتعالى-، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الرحمة المهداة البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا حسب: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 99]، هل تدعونا هذه الآيات والنذر لمراجعة أنفسنا وتصحيح أخطائنا؟! إنّ رغد العيش قد يُنسي، وإنّ الأمن من مكر الله قد يُطغي، انظروا ماذا عملنا لدين الله وقد أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وفي كلّ يوم يُنتقص الدين، ويسخر بأركانه وقيمه، وكيف حالنا في الدعوة، وغيرنا من أصحاب الديانات والمذاهب الباطلة ينشطون لباطلهم ويتقدّمون بدعوتهم، ما نصيبنا من الشعيرة العظمى وعلامة الخيريّة في الأمّة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كم من معروف يحتاج إلى أمر وإظهار، وكم من منكر يشيع ويحتاج منّا إلى ردّ وإنكار، ومدافعة بالتي هي أحسن.
وتعالوا نكن أكثر صراحة؛ فما حالنا مع الفرائض الأساسيّة للإسلام، وخذوا مثالاً للصلاة والزكاة، كم هم الذين هم عن صلاتهم ساهون؟! كم تشكو المساجد من ندرة المصلّين لا سيما صلاة الفجر؟! وإذا رأيت ثمّ رأيت وجدت رجالاً يتخلّفون وهم مكتملون في صحّتهم، آمنون في سربهم، لا عذر لهم في التخلّف إلاّ الكسل والسهر، أولئك ينامون حين ينامون على أنعم الله، ويستيقظون حين يستيقظون على أنعم الله، ما بالهم يتأخّرون عن المكتوبة، لا يشهدون صلاة الفجر إلا عددًا يسيرًا، ونزرًا قليلاً من الرجال، وبقيتهم يتقلبون في فرشهم غافلين عن دعاة الفلاح وأصوات المآذن، لا يجيبون داعي الله.
وصنف آخر من المسلمين هجروا الصلاة مع الجماعة، وبذلك عطلوا بيوت الله، وما حالهم وبم يفكّرون إذا رأوا نُذُر السماء؟! إنها مصائب ورزايا، والنذر صباح مساء، وآخرون قد أغناهم الله وأعطاهم من المال ما أعطاهم، فإذا بهم يتخوضون في مال الله، يتجاوزون الحلال إلى الحرام، يتثاقلون الزكاة ويتأخّرون في الصدقات، وينسون أو يتناسون أن في أموالهم حقًّا للسائل والمحروم، ولا يتحرّجون في أنواع من المعاملات والمساهمات، وإن داخلها الحرام والربا، وكثير من الناس لا يخشون الله ولا يراقبون في مكسبهم، وأكلوا بعض المال بالباطل، مستخدمين أصنافًا من الغش والخداع والاحتيال، ونقص المكيال.
ثم ألا تشهدون قطيعة الأرحام؟! ألا ترون عقوق الوالدين؟! ألا ترون قلة ذكر الله؟! ألا ترون إعراضًا عن طاعة الله وانتهاك كثيرٍ من الناس للمحرمات، تساهلوا بالزنا والمخدرات، فضلاً عن روَّاد القنوات، وأصحاب الفضائيات، فهم في عالم لا كالعالم، وفي خيالٍ لا كالخيال، إن سَلِمَ من فلمٍ ساقط، وقع على رقصٍ فاضح، أو سَلِمَ من طَعنٍ في الدين، وقع في شهواتٍ إلى الجبين، شباب قابعون وراء الفن الزائف، راقصون وراء الأغنية الماجنة، راكضون وراء الكرة الفارغة، أُمنيّة أحدهم أن يسجل هدفًا، أو أن يفوز ناديه في التصفية، إذا تحدث تحدث ففي أخبار اللاعبين أو الفنانين، وإذا خاصم خاصم من أجل هذا اللاعب أو هذا الفنان أو الفنانة، فإذا كبُر همُه قليلاً أخذ يجمع أشرطة الساقطين والساقطات من المغنين والمغنيات، أين هؤلاء الشباب عن دينهم؟!
أين شباب الإسلام عن المساجد؟! أين الشباب عن الذكر؟! أين الشباب عن القرآن؟! أين الشباب عن العفة والكرامة؟! أين الشباب عن قيام الليل؟! أين الشباب عن التنافس في الطاعات؟! أين الشباب عن إنكار المنكر؟! أين الشباب عن طاعة الوالدين؟! أين الشباب عن حسن التعامل مع المجتمع؟!
أيها المسلمون: إذا رأيتم هذه الأمور قد أقبلت، فباطن الأرض والله خير من ظهرها، وقمم الجبال خير من السهول، ومخاطبة الوحوش أسلم من مخالطة الناس، اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الفسقة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم، وكثرت الفواحش، وغلبت المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السيل بتوبة نصوح، ما دام بابها مفتوحًا، ألا فاتقوا الله عباد الله، وقفوا عند حدود الله وعظّموا حرماته: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
وإيّاكم أن تزيدوا فسوقًا كلما زادكم الله نعيمًا، وأنتم تقرؤون عن قوم قال الله فيهم: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 44، 45].
فلنتقِ الله -أيها المسلمون- ولنأخذ بأسباب النجاة، فإن هلاك الإنسان ونجاته مقيد بما كسبت يداه، ولنعتبر بمن حولنا، ولنتعظ بما يجري بالأقوام من غيرنا.
ثم اعلموا -أيها المسلمون- أن الأرض التي تحملكم، والسماء التي تظلكم، مطيعتان لربكم، فلا تمسكان بخلاً عليكم، ولا رجاء ما عندكم، ولا تجودان توجعًا لكم ولا زلفى لربكم، ولكن أُمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11]، فاتقوا الله واستقيموا على دين الله.
نسأل الله العلي القدير أن يحفظ بلادنا وجيراننا وكل بلاد المسلمين من كلّ سوء ومكروه، وأن يهدي ضالّ المسلمين، وأن يردهم إليه ردًا جميلاً، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم يا من أودع في الكون روعته، ونشر في الأرجاء رحمته، لا تجعلنا من أشقياء الدنيا والآخرة، واهد لنا شيبنا وشبابنا، إنك على كل شيء قدير.
ثم اعلموا -أيها المؤمنون- أن من خير الأعمال في هذا اليوم العظيم الصلاةَ على نبيكم محمدٍ، فصلوا وسلموا على رسول الله امتثالاً لأمر الله حيث أمركم ربكم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيما) [الأحزاب: 56]، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزّ الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك واخذل المشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعلنا ممن تعرّف إليك في حال الرخاء فتعرّفت إليه في حال الشدة، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك على ذلك قادر، الطف بنا فيما جرت به المقادير يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيرًا لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مظلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وسائر قراباتنا، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وعافِ المبتلين، واقض الدين عن المدينين، وفرج كرب المكروبين، اللهم اجعل لنا ولكل مسلم ومسلمة من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية، (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم