عناصر الخطبة
1/ قرب رحيل رمضان 2/ فضل العشر الأواخر من رمضان 3/ هدي النبي في العشر الأواخر 4/ دعوة للتوبة والاستدراك 5/ فضل ليلة القدراقتباس
وبقيّةُ العشر الأواخر من رمضان معينٌ ثرٌّ للمتنافسين، ومنهلٌ بالتّقى عَذبٌ للمتسابِقين، كيف وقد كان هديُه فيها أعظمَ الهدي وأكملَه، وأزكاه للنفوس وأعظمَه، عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. مخرّج في الصحيحين. وفضلاً عن الجِدِّ في العبادة والاجتهاد واطِّراح التواني والإرواد يعتزل النساء، ويوقظ أهله ..
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فمن اتَّقى مولاه لم يزدَد منه إلا قربًا، وتزكّى بصيامه وأربى، وسما روحًا وقلبًا، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا).
أيها المسلمون: وإذ تنعَمُ أمّتنا الإسلامية بعَبَق شهرِها الخالد وأيامه الفيحاء التوالد، وتتفيَّأ خيرَه الوارِف المزدانَ بأسنى المطارِف، وترشُف رحيقَه وتنهَل ريّاه، وتجتلي أنوارَه وتتملّى بَديعَ مُحيّاه، لسرعان ما تبدَّى لنا ثلثُه الأخير وقد تصّرم جلّه ولم يبقَ إلا نزره وقُلُّه.
ترحَّل الشهر وا لهفاه وانصرمَا *** واختصَّ بالفوز بالجناتِ مَن خدمَا
بل أيامٌ على الكفِّ تُعَدّ، فحيَّ هلاً بمستزيدٍ لا يُردّ، نسأل الله قبول العمل وبلوغَ الأمل في المُفتَتح والمختتم.
عشرٌ وبـالحسنات كفُّكِ تزخرُ *** والكون في لألاءِ حُسنكِ مبحرُ
هتفت للقياكِ النفوسُ وأسرعت *** مـن حوبـها بدموعها تستغفرُ
فهلمّ -أيها الصائمون القائمون- نتنضّخُ من نهايات العشر بأزكى الطّيوب والنشر، هلمّ نمتح من بِرِّها وصيامِها وفضائلها وقيامِها أفاويقَ الإشراقات وريِيَّ البشائر والنفحات بمحكم الآيات ومجلُوِّ الصفحات؛ علَّها تكون لقلوبنا ترياقًا وشفاءً، ولأرواحنا صُبحًا وضَّاءً.
دمـعٌ تناثر بـل قُل مسـبلٌ هَطلُ *** والقلبُ من حسرةٍ مستوحشٌ خجلُ
ودّع حبيبكَ شهرَ الصومِ شهرَ تُقى *** وهـل تطـيقُ وداعـًا أيها الرجلُ؟!
إخوةَ الإيمان: وبقيّةُ العشر الأواخر من رمضان معينٌ ثرٌّ للمتنافسين، ومنهلٌ بالتّقى عَذبٌ للمتسابِقين، كيف وقد كان هديُه فيها أعظمَ الهدي وأكملَه، وأزكاه للنفوس وأعظمَه، عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. مخرّج في الصحيحين.
وفضلاً عن الجِدِّ في العبادة والاجتهاد واطِّراح التواني والإرواد يعتزل النساء، ويوقظ أهله؛ لشهودِ ليالي المغفرة والرحمة والعتق من النيران، ففي الصحيحين أنه كان إذا دخلت العشر شدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.
فشُدّوا المآزر وأحيوا لياليه *** ولتذرِف العين دمعَ الندَم
فـربي غفورٌ رحيمٌ ودودٌ *** حليـمٌ كريمٌ كثيرُ النِّعَم
أيها الذاكرون الحامدون الشاكرون المستغفرون القائمون الساجِدون المنفِقون والمعتَكفون: يا بُشراكم، ويا نُعماكم بهذه الأيام المباركة القلائل، فازدلفوا إلى ربكم بالفرائض والنوافل، واستدركوا ما فاتكم من الأعمال الجلائل، آسُوا فيها لواعِج التبريح بمفعَم الذكر ومزيد التسبيح، وارشُفوا شَهدَ الوصال بلذيذ القيام والاعتكاف والابتهال.
أما الذين استناخوا مطاياهم في حمأَة الإضاعة والصَّبَوات، وخَبّوا في مستنقَع الغفلات والفرَطات فلا تزال الفرصة سانحةً والتجارة رابحة لمن بدَّد أيام رمضان وفرّطها، وسلك بنفسه طرائق التفريطِ فأوبقها، وهذا دأب المؤمن الصادق الوجل؛ إن ونى واجترح، أو عن جواد الطاعة جنح تاب وآب، ورجع وأناب، وعَفّى حَوباته بالتوبة والاستغفار وحُسن المآب.
عشرٌ حباها إِله العرش مكرمةً *** فيرحم الله من ضاقت به السُبلُ
هو الرؤوف بنا هل خاب ذو أمل *** يدعو رحيمًا بقلب ذلَّه الخجلُ
معاشرَ الصائمين القائمين الباذِلين: لقَد كان لكم في رسولِ الله أسوةٌ حَسَنة، فقد كان من هديِه أنّه يكون في هذا الشهرِ الكريمِ أجودَ بالخير من الريحِ المرسَلَة، فأكثروا من البذلِ والجودِ في هذا الشهر المحمودِ، فنِعمتِ العبادةُ والزّلفى إخراج الزكاة المفروضة والصّدَقة، ويا حبذا الإكثارُ من العطاء والنفقة، (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ). فشدوا -يا عباد الله- رِحالَ الأعمال ما دُمتم في فُسحة الآجال مغتنمين بَقيّةَ دُرَرِ العَشر لأعظم الأجر.
أمّة القرآن والصيام في مشارق الأرض ومغاربها: وفي هذه العشر الأواخر اختصَّكم الباري -تبارك وتعالى- بليلةٍ عظيمة الشرف والقدر، مباركة الشأن والذكر، بالخير والرحمة والسلام اكتملت، وعلى تنزّلِ القرآن والملائكةِ الكرام اشتمَلت، هي منكم على طَرَف الثّمام بإذن الملِك العلام، إنها ليلة القدر، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ). يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه"، مخّرج الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
الله أكبر أيّ فضلٍ به تفوز؟! الله أكبر أيّ أجرٍ عظيمٌ تحوز؟!
عشرٌ تنزَّل أمـلاك السماء بها *** إلى صبيحَتها لم تَثنِها العللُ
فليلةُ القدر خيرٌ لو ظفِرت بها *** من ألف شهر وأجرٌ ما له مثل
أما عن وقتها فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "تحرَّوا ليلةَ القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه. وما أخفاها سبحانه إلا شَحذًا للعزائم في الطاعات، وبَعثًا للهمم في القُربات والعبادات. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلتُ: يا رسول الله: أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ هي ليلة القدر ما أقول فيها؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "قولي: اللهم إنك عفوٌ تحبّ العفوَ فاعفُ عني"، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عنا.
ألا فجِدّوا -يا رعاكم الله- في طلبها وتحرّيها، وشمّروا للظفرِ بفضائلها ومرامِيها، واستبقوا دقائقها وثوانيها، وليكن لكم فيها من أُنسكم بالله هادٍ لا يضلّ، ومن تنافسكم وجدّكم في الطاعات حادٍ لا يملّ، كيف وأنتم للآخرة تمهدون، وفي حبِّ الله تسهدون، وللَذيذ دُعائه وضَراعته تتهجَّدون، فتجتهدون، وتلك هي المرتبة العالية والمنقبة السانية التي لا ينالها إلا الذين صرفوا شريفَ أوقاتهم في تهذيبِ النفوس تخليهً وتحلية، ترقيةً وتزكية، (كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
ألا إنها نعمة الإيمان وأعظم بها من نعمة، ألا إنه برد اليقين وأكرم به من زادٍ مبين وإشراقٍ لا يَبين.
أمّةَ الإسلام: ولئن كان الحديث في ختام شهر الصيام بالأمجاد غَدِقًا، وبالبطولات عبِقًا، فإنه من تمام الإحسان أن نستخلِص الدروس والعبرَ، وأن لا يكون الحديث تقليديًّا نمطيًّا، بل على الأمّة المسلمة المباركة أن تنخلِع من حيِّز المقال والانفعال إلى التحقّق بالشّيَم والقيَم والفعال، لاسيما والسهام تَريشها من كلّ حدَبٍ وصوب. نعم جديرٌ بنا في ختام شهرنا الذي اكتنز ليلةً هي خيرٌ من ألف شهر، جديرٌ بنا أن نحدِّد الأهداف والدروب، ونوحِّد الأفكار والقلوب، وأن يُحرَّكَ من الأمم الهمَم والعزائم التي تروم العزةَ وتأبى الهزائم، فتأتلِف على حلّ قضاياها العالمية، وفي الذؤابَة منها قضيّةُ القُدس الأبيّة، ذلكم لكي نستأنِفَ منازلَ الرّيادة وعَلياءَ القيادة في أقصًى محرّر، وعراقٍ آمِن، ومآسٍ مطويّة، وانتصاراتٍ مرويّة، وكلمةٍ رُواء، وصفوفٍ سواء، وما ذلك على الله بعَزيز، متى ما صدَقتِ النوايا وأُخلِصت الطوايا، كيف ورائدُنا الشريعة الغرّاء والهداية والسناء، ذاك الرجاء والأمل، ومن الله نرجو التوفيق لصالح القول وسديد العمل، وإننا لمتفائلون.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيها من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان غفّارًا توابًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحفِد إليه بالصيام ونسعى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها دَفعَ السوء دفعًا، وأشهد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله أعظم البرية للعالمين نفعًا، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير من أرهف لهم الصيام خلُقًا وطبعًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما أجرى رمضانُ من التوابين دَمعًا، وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واغنموا آخر الشهر لمحو الذنوب بالتوبة، وبادروا زيادة الحسنات بالاستغفار والأوبة، وكثره الحمد والشكر وإخراج زكاةِ الفطر، فإن الأعمال بالخواتيم، وبسنيِّ الآثار يتَّضح الصحيحُ من السقيم، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
أمّةَ الصيام والقيام: إنَّ من فضل الله وجزيلِ آلائه ما نَعِم به الصائمون القائمون والمعتمرون والزائرون في رحابِ هذا البلدِ الحرام، من أمنٍ وأمان وراحَةٍ واطمِئنان وخدماتٍ جُلَّى حقَّقت القِدحَ المُعلَّى بفضلِ الله، ثم ما يوليه المؤتمنون على خِدمة الحرمين الشريفين -وفقهم الله وأيّدهم-، مع ما شَهِده هذا الشهرُ الكريم من قرارات تاريخيّة ومكرُماتٍ إسلاميّة وإنسانيّة، تستحقّ التنويهَ والإشادة، وتستوجِب الإبداء والإعادَة، يأتي في طليعتِها قرارُ تنظيمِ الفتوى التاريخي وما تضمَّنه من مقاصدَ عُظمى ومصالح كُبرى تهدِف إلى إعزاز هذا الدينِ، وحماية جنَابِ الشريعة، وحِفظ هيبة أهل العلم ومكانتهم، ثمّ تلك الحملة الإغاثيّة الرسميّة والشعبيّة لإخوَتِنا المتضرِّرين من الكوارث والفيضانات في باكستان، جعلها الله في موازين الأعمال الصالحات وصحائفِ الحسنات، إنه خيرُ مسؤولٍ وأكرم مأمول.
هذا، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي الخاتم خير معتكِف وصائم ومتهجِّدٍ وقائم، كما أمركم المولى العظيم في التنزيل الكريم، فقال -عزّ من قائل حكيم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
نعمَ الصلاة على خير البرية ما *** هبَّ النسيمُ قَضيبَ البان فانعطفا
وآله الغُرّ والصحب الكرام ومن *** تلا سبيلهمُ من بعدهم وقفَا
اللهم صلِّ وسلم وبارك على الرحمة المهداة والنعمة المسداة...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم