عناصر الخطبة
1/وجوب إخلاص الأعمال لله تعالى 2/شروط قبول العمل الصالح 3/أسباب بطلان العمل وحبوطه 4/التحذير من الرياء وطلب ثناء الناس 5/الفرق بين الرياء والسمعة 6/أحوال تداخل الرياء مع العبادة.اقتباس
علينا أن نتقي الله -تعالى- في جميع أقوالنا وأفعالنا ونياتنا، بالإخلاص لوجه الله الكريم، ولنحذر من الرياء والسمعة.. أخلصوا له الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ولتكن محبته هي الباعثة إلى ذلك، والرغبة فيما عنده والخوف من عقابه، واحذروا من العمل لغيره.
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله مُوفِّق مَن شاء مِن عباده للإخلاص في عبادته وطاعته، رغبةً فيما عنده وطلبًا لمرضاته، كما وفَّقهم وأعانهم على الابتعاد عمَّا نهى عنه احترامًا لنهيه، وخوفًا من أليم عقابه؛ أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي طاعته ومحبته من طاعة الله ومحبته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- بإخلاص الأعمال له -تعالى-، فلا تَشُوبوها بشائبة من الشرك، ولا يخفى عليكم أن الشرك في النية قلَّ مَن ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى شيئًا غير التقرُّب إلى الله وطلب الجزاء منه؛ فقد أشرك في نيته وإرادته، فالإخلاص أن يُخْلِص لله في أقواله وأفعاله وإيراداته ونيَّاته؛ قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[سورة الكهف:110].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: "(فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا)؛ أي: ما كان موافقًا لشرع الله، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا): وهو الذي يُراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصًا لله، صوابًا على شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال ابن القيم -رحمه الله- في هذه الآية: "أي: كما أن الله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرَّد بالإلهية يجب أن يُفرَد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء، المُقيَّد بالسُّنَّة".
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله-: "ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة؛ كما قال الفضيل بن مسعود التيمي -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[سورة الملك:2] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا دون اتباع السُّنة لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة".
أيها المسلمون: ومما يدل على بطلان العمل إذا لم يكن خالصًا لوجه الله، ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "قال الله -تعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال"؛ قَالَوا: بلى يا رسول الله؛ قَالَ: "الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل".
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيها الناس إياكم وشرك السرائر"؛ قَالَوا: يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال: "يقوم الرجل فيصلي فيُزيّن صلاته لما يرى من نظر رجل إليه، فذلك شرك السرائر".
وعن شداد بن أوس -رضي الله عنه- قال: "كنا نَعُدّ الرياء على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشرك الأصغر"، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتَّصنُّع للخلق، والحلف بغير الله"، وذكر أمثلة أخرى.
فعلينا -معشر المسلمين- أن نتقي الله -تعالى- في جميع أقوالنا وأفعالنا ونياتنا، بالإخلاص لوجه الله الكريم، ولنحذر من الرياء والسمعة غاية الحذر، وقد قيل في تعريف الرياء: "أن يُرِي الناس أنه يعمل عملاً على صفة وهو يُضْمِر في قلبه صفة أخرى، وحُكِمَ عليه بأنه مستحقّ للذم والعقاب، ولا ثواب له إلا فيما خلصت فيه النية لله -تعالى-، وقال الحافظ: "الرياء إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدونه عليها".
والفرق بين الرياء والسمعة، أن الرياء لما يُرَى من العمل، كالصلاة، والصدقة. والسمعة: لما يُسْمَع كالقراءة، والوعظ، والذِّكْر، ويدخل في ذلك التحدُّث به.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[سورة النساء: 114-115].
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله مكرم عباده المخلصين بقبول أعمالهم الصالحة، ومضاعف الثواب لهم عليها، المتجاوز عن زلات عباده المؤمنين بمحوها وغفرانها، فسبحانه من إله عظيم وملك كريم، أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي مع غفران الله له وبشارته بالرضا عنه فقد قام لله حتى تفطرت قدماه، وجاهَد في سبيله حتى شُجّ رأسه وكُسِرَت رباعيته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وتوبوا إليه، وأخلصوا له الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ولتكن محبته -تعالى- هي الباعثة إلى ذلك، والرغبة فيما عنده والخوف من عقابه، واحذروا من العمل لغيره، ذكر ابن رجب -رحمه الله- -تعالى-: أن العمل لغير الله أقسام، فتارة يكون رياءً محضًا، كحال المنافقين؛ قَالَ -تعالى-: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[سورة النساء:142].
وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدَّى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز.
وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، وإن كان أصله لله، ثم طرأ عليه نية الرياء فإن كان خاطرًا ثم دفَعه فلا يضره، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا؟ رجَّح أحمد وغيره أنه لا يبطل بذلك، وأنه يُجازَى بنيته الأولى، وقيل: إن عمل المرائي باطل لا ثواب له ويأثم به.
ولا يظن الظانّ أنه يُكتفى فيه بحبوط عمله، فلا له ولا عليه؛ قَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "بل هو مستحقّ للذم والعقاب، وقد دلَّ الكتاب والسنة على حبوط العمل بالرياء، وجاء الوعيد عليه".
وأما إذا عمل العمل لله خالصًا، ثم ألقى الله الثناء الحسن في قلوب المؤمنين ففرح بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك؛ لم يضره، وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سُئِلَ عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه؟ فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن"(رواه مسلم).
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: دخل عليَّ الرجل في بيتي وأنا أصلي فسرَّني ذلك، فقال: "يرحمك الله! لك أجران أجر السر، وأجر العلانية"؛ وذلك لأنه لم يقصد رؤية أحد عند الشروع، ولا قام بقلبه أن يراه أحد.
اللهم ارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم في أقوالنا وأعمالنا ونياتنا، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام؛ امتثالاً لقولك: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[سورة الأنعام:162-163].
هذا وصلوا على نبينا محمد؛ امتثالاً لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم