اقتباس
وإن من أعظم ما يُتقرب به إلى الله -عز وجل- في أيام التشريق: الأضاحي، فهي سنة الخليلين إبراهيم ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-، جاء في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر من عملٍ أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها...
ما أحرانا أن نفهم أعيادنا الإسلامية وأثرها الكبير على النفوس والمشاعر، إن هذا الدين الذي جعل لأبنائه في كل عام مناسبتين يفرحون بهما ويمرحون ويغيرون فيهما ويجددون؛ فيتزودون منهم بشحنة قوية من الإيمان والإحسان - فينطلقون فيهما من جهد جديد وعالم جديد فلا يرون أمامهم إلا كل جديد ولا يسمعون فيهما إلا كل جديد.
شحنة إيمانية تجعل المرء ينظر في هذا اليوم إلى نفسه فيلمح فيها السعادة والسرور. وينظر إلى أهله فيحس بالإعزاز. وإلى داره فيرى ويدرك فيه الجمال والضياء، إلى الناس فيرى فيهم الصداقة والمحبة والإخاء والعطف والحنان. إنها دنيا جديدة وعالم سعيد وملابس جديدة، إنه عالم الطهر في الأثواب والملابس. وليكن كذلك يا عباد الله في القلب والروح. لتكون الفرحة في التصور، والرؤيا، في المنظر والجوهر.
إن أعيادنا الإسلامية يا عباد الله تأتي لتكون رمزًا للبشر والسرور في محيا الناس والضحك والفرح في القلوب البريئة، والإخاء لكل مسلم والمساعدة لكل محتاج، والتطهير من كل غل وحسد والترفع فوق الأحقاد والبغضاء. إنها أعياد متوازنة تتفق مع الفطرة السليمة والذوق الرفيع. تتفق مع مقياس التوازن في سلوك الإنسان الخير ومشاعره الكريمة وإحساسه الطيب ووجدانه الروحي النقي. مناسبتان في كل عام يا عباد الله... فلو كانت أكثر من ذلك لأخرجت الناس إلى دائرة الإزعاج والملل وتعطيل المصالح العامة وكلفتهم عناء ومشقة وصارت فوق الطاقة.
ومن هنا يا عباد الله لاحظوا أنه ما تكاد تحل هذه المناسبة السعيدة على العالم الإسلامي حتى ترى الناس الطيبين وقد انبعث فيهم روح البشر الوديع والابتسام النقي والوفاء الأخوي، وتبادل الهدايا والتحف واللقاءات والزيارات والعناق الروحي والمصافحة الكريمة التي تنقل قبض الراحتين إلى حنان القلوب.
إن العيد في نظر الإسلام موسم يعبّر فيه المسلمون عن شكرهم لله الذي وفّقهم لأداء العبادة, وهذا ما أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قدم المدينة, ولهم يومان يلعبون فيهما, فقال:" قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر".
ويأخذ العيد في نظر الإسلام خصائصه المتميزة بأنه موسم عبادي كريم، حافل بالقيم الروحية, ومظاهر العبادة, والمعاني الإنسانية, والآداب الاجتماعية الكفيلة ببناء جيل صالح ومجتمع كريم، وأمة راشدة, فيكثر فيه المسلمون من تكبير الله بدءًا من ليلة العيد حتى عصر آخر أيام التشريق, وتكبيرهم تعبير صادق عن مدى شكرهم لله الذي وفقهم إلى طاعته وحسن عبادته في رمضان وفي الحج.
وعيد الأضحى خمسة أيام؛ العاشر من ذي الحجة، وقبله يوم عرفة، وهو كذلك من العيد وبعده أيام التشريق الثلاثة، وهي عيدٌ أيضًا؛ كما في حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب"(أخرجه أبو داود في الصوم (2419)، والترمذي في الصوم (773) والنسائي في المناسك (5/252).
وهذا العيد أعظم من عيد الفطر، قال ابن رجب -رحمه الله -تعالى--: "وهو أكبر العيدين وأفضلهما وهو مرتب على إكمال الحج"(لطائف المعارف، ص482). وقال شيخ الإسلام بعد ذكره قول الله -تعالى-: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)[المائدة : 3]: "ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية؛ فإنه لا عيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان وهو عيد النحر، ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعامة المسلمين"(اقتضاء الصراط المستقيم، 1/482).
وقال أيضاً: "أفضل أيام العام هو يوم النحر، وقد قال بعضهم: يوم عرفة، والأول هو القول الصحيح ؛ لأنّ في السنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرّ"(أخرجه أحمد (4/350)، وأبو داود في المناسك (1765)، وابن خزيمة (4/294)، وصححه ابن حبان (2800). وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 25/288). ويومُ القَرِّ: هوَ اليومُ الحادِي عَشَرَ سُمِّي بذلك؛ لأنَّ الناسَ يستقِرُّونَ فيِه بِمنَى.
إن شهر ذي الحجة قد تنوعت فيه الفضائل والخيرات التي أعظمها إيقاع الحج فيه إلى بيت الله الحرام، ومما جاء في أيام التشريق قوله تعالى: (وَأَذّن فِي النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأْنْعَامِ)[الحج: 27، 28]. قال ابن عباس عن الأيام المعلومات: "أيام العشر"(أخرجه البخاري معلقًا: 2/582).
قال ابن جرير -رحمه الله-: "يقول تعالى ذكره: كي يذكروا اسم الله على ما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها من الإبل والبقر والغنم، في أيام معلومات، وهن أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل، وفي قول بعضهم: أيام العشر، وفي قول بعضهم: يوم النحر وأيام التشريق"(جامع البيان: 9/138). قال ابن رجب -رحمه الله-: "وجمهور العلماء على أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس والحسن، وعطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والنخعي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه"(لطائف المعارف، ص 471).
إن أيام التشريق أيام شريفة، وذلك لمجاورتها العشر، ولأنها محل وقوع عبادات من عبادات الحج، وليست الأيام بأيام أكل وشرب فقط، وإنما هي أيام ذكر لله أيضاً، فعن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيام التشريق أيام أكل وشرب"، وفي رواية: "وذكر لله"(رواه مسلم: 1141).
وقد دل هذا الحديث على أمرين: الأول: أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وإظهار للفرح والسرور والتوسعة على الأهل والأولاد بما يحصل لهم من ترويح البدن وبسط النفس مما ليس بمحظور ولا شاغل عن طاعة الله -تعالى-، ولا مانع من التوسع في الأكل والشرب ولاسيما اللحم، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفها بأنها أيام أكل وشرب، ما لم يصل ذلك إلى حد الإسراف والتبذير، أو التهاون بنعم الله -تعالى-. الأمر الثاني: أن هذه الأيام أيام ذكر لله تعالى، وذلك بالتكبير عقب الصلوات وفي كل الأوقات والأحوال الصالحة لذكر الله -تعالى-، ومن ذلك ذكر الله -تعالى- على الأكل والشرب بتسمية الله في أوله، وتحميده في أخره، وإن كان هذا عاما في كل وقت لكنه متأكد فيها.
فعلى المسلم أن يحذر الغفلة عن ذكر الله -تعالى-، فيكون قد أخذ أول الحديث وترك أخره، وعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بالطاعة وفعل الخير، ولا يُضيعها باللهو واللعب، كما عليه كثير من الناس في زماننا هذا، من السهر وتفويت الصلاة المفروضة عن وقتها، وقتل الوقت، والاستعانة بنعم الله على معاصيه، والعكوف على آلات اللهو والطرب.
ومن شكر الله ذكره في هذه الأيام المفضلة: عدم تجاوز حدود الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام عن أيام التشريق: "أيام أكل وشرب وذكر لله"، وهنا فائدتان: الأولى كما قال ابن رجب -رحمه الله-: "وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الأكل والشرب في أيام العيد إنما يستعان بها على ذكر الله وطاعته، وذلك من تمام شكر النعمة.. فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله، وبدلها كفراً وهو جدير أن يسلبها، كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله *** فشكر الإله يزيل النقم.
(لطائف المعارف لابن رجب ص332).
وعن كعب بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فنادى: "أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب"(رواه مسلم: 1142)، فمن أعظم أعمال أيام التشريق: ذكر الله -عز وجل- والأكل والشرب، فأيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله، فإنه يسمي الله عند بداية أكله وشربه، ويحمده عند نهايتهما. وقال ابن عبد البر: "وأما صيام أيام التشريق فلا خلاف بين فقهاء الأمصار فيما علمت أنه لا يجوز لأحد صومها تطوعاً، وقد روي عن الزبير وابن عمر والأسود بن يزيد وأبي طلحة ما يدل على أنهم كانوا يصومون أيام التشريق تطوعاً، وفي أسانيد أخبارهم تلك ضعفٌ. وجمهور العلماء من الفقهاء وأهل الحديث على كراهية ذلك...."(التمهيد: 14/127).
قال الحافظ ابن رجب: "إنما نهى عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد المسلمين مع يوم النحر، فلا تصام بمنى ولا غيرها عند جمهور العلماء"(لطائف المعارف، ص304-305).
فما أجمل أن يحرص العبد على التكبير في هذه الأيام وحتى عصر آخر أيام التشريق، وأن يجمع مع ذلك التآلف والتصافي مع المسلمين، فصل أقاربك وجيرانك وإخوانك في أيام العيد فهي من الأعمال الصالحة وهي سبب للألفة والمحبة، واعطف على المساكين، وتصدق على المحتاجين. ومن أعمال أيام التشريق: الأضحية، وأجرها عظيم، وهي سنة أبينا إبراهيم، ونبينا محمد عليهم الصلاة والسلام، ومشروعيتها في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الكوثر: من الآية 1-3]، وقال تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْر)(الحج: 36].
وإن من أعظم ما يتقرب به من الله -عز وجل- في هذه الأيام: الأضاحي، فهي سنة الخليلين إبراهيم ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-، جاء في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر من عملٍ أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً". أما الذين لا يفهموا المعاني الفاضلة في الأعياد الإسلامية فيحولونها إلى مادة وإباحية وانزواء وانطواء وتحديد الفراغ في المضايقة والمعاكسة والمطاردة وفرصة للسفر إلى الخارج لقضائها على موائد العربدة وتدهور القيم فهؤلاء هم الذين لا يدركون ولا يتذوقون طعم هذه الأعياد الكريمة بكل ما فيها من معاني سامية وقيم فاضلة. هؤلاء لا تزيدهم فرحة العيد إلا شقاء فوق شقائهم وبؤسا في نفوسهم ومرضا في قلوبهم لأنهم يتذوقون ما لا يتذوقه المسلم المستقيم صاحب العقل السليم. إن الواجب على المسلمين تقوى الله -تعالى-, وعمارة أوقاتهم بذكره تعالى وشكره وطاعته. فكما تنقضي هذه الأيام الفاضلة على المفرط والمحسن معاً مع الفارق الكبير بين عملهما فكذلك الدنيا تنقضي على الجميع لا تقدم المحسن قبل حلول أجله, ولا تؤخر العاصي ليتوب, بل إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون, ولكن الطائع ينسى مشقة الطاعة, وصبره عليها, وصبره عن الشهوات, ويجد حلاوة الأجر والثواب. وكذلك العاصي ينسى حلاوة الشهوات ويجد مرارة السيئات التي كتبت عليه من أجر تضييعه للفرائض وارتكابه للنواهي. وفقنا الله -تعالى- لهداه, وجعل عملنا في رضاه.
ومن أجل بيان فضائل أيام التشريق، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضح خصائص هذه الأيام وأهم الأعمال المستحبة فيها، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم