عناصر الخطبة
1/ فضل العشر الأواخر 2/الحث على الاجتهاد في العشر 3/ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين 4/ القرآن نور يستضيء به الصالحون 5/ لماذا يعرض كثير من الخلق عن نور القرآن وهداه؟! 6/ أهمية الانقطاع للعمل الصالح في العشر الأواخراقتباس
في هذه الليالي الشريفة هبات وعطايا، يسعد بها من تعرض لها، وأخذ حظه منها، ويتعس من صُدَّ عنها فحرمها، فاللهم لا تحرمنا فضلك، واجعلنا من أتقى خلقك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان إذا دخلت العشر الأخيرة من رمضان شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وجد واجتهد في العبادة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين..
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ بَاسِطِ الْخَيْرَاتِ، كَاشِفِ الْكُرُبَاتِ، مُقِيلِ الْعَثَرَاتِ، مُجِيبِ الدَّعَوَاتِ؛ يُعْطِي النَّاسَ أَرْزَاقَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهَا، وَلَا يَرُدُّ أَكُفَّهُمْ إِذَا رَفَعُوهَا، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ الْجَوَّادُ الْكَرِيمُ، الْبَرُّ الرَّحِيمُ، الْعَفُوُّ الْقَدِيرُ، لَهُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الشَّرِيفَةِ هِبَاتٌ وَعَطَايَا، يَسْعَدُ بِهَا مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا، وَأَخَذَ حَظَّهُ مِنْهَا، وَيَتْعَسُ مَنْ صُدَّ عَنْهَا فَحُرِمَهَا، فَاللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا فَضْلَكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَتْقَى خَلْقِكَ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ الْأَخِيرَةُ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَتَزَوَّدُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا يَبْقَى؛ فَإِنَّكُمْ فِي عَشْرِ لَيَالٍ فُضْلَى، فُضِّلَتْ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرِ، وَهِيَ فِي الْحِسَابِ قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
فَيَا لَفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ: أَنْ يُعْطِيَنَا لَيْلَةً وَاحِدَةً بِمَا يَقْرُبُ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ لَيْلَةٍ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْطِي شَيْئًا وَاحِدًا بِثَلَاثِينَ أَلْفَ شَيْءٍ إِلَّا رَبُّنَا الْجَوَّادُ الْكَرِيمُ، فَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَأَضَاعَ الْعَشْرَ فِي مَجَالِسِ اللَّهْوِ وَالزُّورِ وَالْبَاطِلِ، وَتَرَكَ إِحْيَاءَهَا بِالْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، وَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ الْمَوَاسِمَ الْفَاضِلَةَ.
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْعَظِيمَةِ تُضَاءُ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَيُجْهَرُ فِيهَا بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى تُتْلَى، وَهُوَ أَعْظَمُ الْكَلَامِ وَأَطْيَبُهُ وَأَصْدَقُهُ وَأَحْكَمُهُ وَأَنْفَعُهُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ طَيِّبَ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]، فَيَا للهِ الْعَظِيمِ كَمْ مِنْ كَلِمٍّ طَيِّبٍ سَيُرْفَعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ اللَّيَالِي مِنْ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ؟! فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي، وَاْرْفَعُوهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الْمَسَاجِدِ كُلَّ اللَّيْلِ أَوْ أَكْثَرَهُ.
وَفِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْعَظِيمَةِ تَسْتَنِيرُ الْقُلُوبُ بِنُورِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ أَنْزَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- لِيُضِيءَ لِلنَّاسِ مَا أَظْلَمَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى، وَيُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ وَالِاسْتِكْبَارِ.
وَكُلُّ وَحْيٍّ أَوْحَاهُ اللهُ -تَعَالَى- لِرُسُلِهِ فَهُوَ نُورٌ، وَفِيهِ نُورٌ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ كِتَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ) [الأنعام: 91]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) [المائدة: 44]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ كِتَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) [المائدة: 46].
وَلَكِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَعْرَضُوا عَمَّا فِيهِمَا مِنَ النُّورِ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِمَا ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى، فَنَقَلَ اللهُ -تَعَالَى- نُورَ وَحْيِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَضَاءَ بِهِ الْقُلُوبَ مِنْ ظُلُمَاتِهَا، وَانْتَشَلَهَا مِنْ جَهْلِهَا وَهَوَاهَا.
إِنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ اسْتَضَاءَ بِهِ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَحَمَلَ هَذَا النُّورَ الرَّبَّانِيَّ وَنَقَلَهُ لِيُضِيءَ بِهِ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَلَا زَالَ الْمُوَفَّقُونَ مِنْ أُمَّتِهِ يَحْمِلُونَ هَذَا النُّورَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشْرَ قَرْنًا، وَسَيَظَلُّونَ كَذَلِكَ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ -تَعَالَى-. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) [النساء: 174].
إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ نُورٌ (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [النور: 35] وَحِجَابُهُ سُبْحَانَهُ النُّورُ، وَكَلَامُهُ عَزَّ وَجَلَّ نُورٌ. وَمَا أَحْوَجَ الْبَشَرَ الْجُهَلَاءَ، الْمُتَخَبِّطِينَ فِي الظَّلْمَاءِ إِلَى نُورٍ يُنِيرُ لَهُمْ طَرِيقَ الْعَلْيَاءِ، فَيَرْتَفِعُونَ بِهِ عَنْ دَنَايَا الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ إِلَى دَارِ الْخُلْدِ وَالنَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ!
إِنَّنَا نَتْلُو فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ نُورًا أَنَارَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ بَصَائِرَنَا، وَفَتَحَ بِهِ عَلَى قُلُوبِنَا، فَأَبْصَرْنَا طَرِيقَنَا، وَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ يَنْفَعُنَا، وَأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي تَضُرُّنَا.
إِنَّهُ نُورٌ بِكُلِّ مَا حَوَاهُ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ منَ الْآيَاتِ.. نُورٌ فِيمَا قَرَّرَهُ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَمَا فَرَضَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ قَبْلَهُ تَائِهِينَ فِي دَيَاجِيرِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَسَرَادِيبِ الْأَوْثَانِ الْبَائِدَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْجَائِرَةِ، فَتُسَعَّرُ حُرُوبٌ، وَتَفْنَى قَبَائِلُ فِي نَاقَةٍ عُقِرَتْ، أَوْ خَيْلٍ سُبِقَتْ.
وَهُوَ نُورٌ بِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَصْلِ الْخَلْقِ وَالنَّشْأَةِ، وَالْمَآلِ وَالْمَصِيرِ. فَيَهْتَدِي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ قَضِيَّةٍ تُؤَرِّقُ الْإِنْسَانَ وَتُقْلِقُهُ، وَيَعْمَلُونَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيُوقِنُونَ بِمَصِيرِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، بَيْنَمَا يَتَخَبَّطُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شُكُوكٍ مُرْدِيَةٍ، وَآرَاءٍ مُهْلِكَةٍ.
وَهُوَ نُورٌ فِي أَلْفَاظِهِ وَتَرَاكِيبِهِ، وَفِي جُمَلِهِ وَمَعَانِيهِ، يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَتَهْفُو إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ السَّوِيَّةُ، وَتَنْجَبِذُ لَهُ أَسْمَاعُ أَهْلِ الْبَيَانِ وَالْبَلَاغَةِ وَلَوْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيُكَذِّبُونَهُ وَيُحَارِبُونَ أَتْبَاعَهُ، كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِسَادَةِ قُرَيْشٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ "الصَّلَاةَ نُورٌ"، وَالصَّلَاةُ عِمَادُهَا الْقُرْآنُ، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَسُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهَا، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّهُ يُقْرَأُ فِيهَا قَدْرٌ كَثِيرٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ.
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ نُورًا كَانَ مَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ فِي الدُّنْيَا رُزِقَ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ تَخَبَّطَ فِي ظُلْمَةِ الْآخِرَةِ، عَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَاجًا مِنْ نُورٍ، ضَوْءُهُ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ...» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَأَهْلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ نُورِ الْقُرْآنِ يُحَارِبُونَهُ، وَيَسْعَوْنَ جُهْدَهُمْ لِإِطْفَائِهِ؛ حِرْمَانًا لِلنَّاسِ مِنْ نُورِهِ لمَّا حُرِمُوا هُمْ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللهَ -تَعَالَى- كَتَبَ أَنْ يَبْقَى هَذَا النُّورُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ؛ لِيَسْتَضِيءَ بِهِ مَنْ قَبِلَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32].
وَيُحَاوِلُونَ حَجْبَ هَذَا النُّورِ عَنِ النَّاسِ بِتَشْوِيهِهِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنْهُ؛ كَقَوْلِ الْكُفَّارِ الْقُدَمَاءِ: إِنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ قَوْلُ بَشَرٍ، وَكَقَوْلِ كُفَّارِ الْعَصْرِ بِأَنَّهُ كِتَابٌ يُرَسِّخُ الْعُنْصُرِيَّةَ وَالْفَاشِيَّةَ وَالنَّازِيَّةَ، وَيَدْعُو إِلَى التَّطَرُّفِ وَالْعُنْفِ وَالْإِرْهَابِ. وَهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُ دِعَايَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَمَا يَنْتَهُونَ مِنْ دِعَايَاتِهِمْ وَأَكَاذِيبِهِمِ إِلَّا وَيُقْبِلُ كَثِيرٌ مِمَّنْ عَاشُوا فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالتِّيهِ وَالضَّيَاعِ لِيَرَوْا مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَوْصَافٍ سَيِّئَةٍ وُصِفَ بِهَا، فَيَجِدُوهُ خِلَافَ مَا يَذْكُرُهُ أَعْدَاؤُهُ، وَيَجِدُوا فِيهِ نُورًا يُضِيءُ قُلُوبَهُمْ، فَيَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ -تَعَالَى- أَفْوَاجًا. وَالْقُرْآنُ غَالِبٌ بِنُورِهِ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْجَهْلِ وَالْهَوَى.
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ الْأَوَائِلُ يُشَوِّشُونَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْمَعَهُ الْآخَرُونَ حَتَّى لَا يَتَأَثَّرُوا بِهِ، وَلَكِنَّ نُورَ الْقُرْآنِ غَلَبَ ظُلُمَاتِ جَهْلِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَانْتَشَرَ نُورُهُ فِي الْآفَاقِ رَغْمَ أُنُوفِهِمْ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26]، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: "إِذَا قَرَأَ مُحَمَّدٌ فَصِيحُوا فِي وَجْهِهِ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ". فَهَلَكَ أَبُو جَهْلٍ بِظُلُمَاتِ شِرْكِهِ وَجَهْلِهِ، وَبَقِيَ نُورُ الْقُرْآنِ مُشِعًّا فِي الْأَرْضِ، يَهْدِي الْمُؤْمِنِينَ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.
وَوَاعَجَبًا مِمَّنْ يُعْرِضُونَ عَنْ نُورِ اللهِ -تَعَالَى- وَيُيَمِّمُونَ وُجُوهَهُمْ شَطْرَ نَظَرِيَّاتِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِيمَا يُسَمَّى بِالْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَدَخَائِلِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعُلُومِ الِاجْتِمَاعِ وَالْحَضَارَةِ، وَتَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَالثَّقَافَةِ، فَيُعَارِضُونَ بِهَا مَا جَاءَ بِهِ النُّورُ الْمُبِينُ!! يِا لَلْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ، وَالضَّيَاعِ وَالحِرْمَانِ.
وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ نُورٌ مُبِينٌ، أَيْ: وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي بُلُوغِهِ إِلَى تَعَالُمِ الْمُثَقَّفِينَ، وَتَقَعُّرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَتَكَلُّفِ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَفَلْسَفَةِ الْمُتَفَلْسِفِينَ. فَهُوَ نُورٌ مُبِينٌ يُدْرِكُ نُورَهُ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا بُدَّ فِي الْحُجَّةِ مِنَ الْوُضُوحِ وَالظُّهُورِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِآيَاتِهِ وَيَقْتَبِسَ مِنْ نُورِهِ أُمِّيُّو الْقُرى، وَأَعْرَابُ الصَّحْرَاءِ.
إِنَّهُ نُورٌ مُبِينٌ لَنْ يَخْفَى إِلَّا عَلَى مَنْ أَنِفَتْ حَوَاسُّهُمْ، وَفَسَدَتْ مَشَاعِرُهُمْ، وَأُصِيبُوا بِعَمَى الْبَصِيرَةِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ غِشَاوَةٌ، لَا يَرَوْنَ مَعَهَا النُّورَ الْوَاضِحَ الْمُبِينَ (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور: 40].
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُنِيرَ بِالْقُرْآنِ بَصَائِرَنَا، وَيَمْلَأَ بِهِ قُلُوبَنَا، وَيَرْزُقَنَا تِلَاوَتَهُ وَتَدَبُّرَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَيَرْفَعَنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَانْقَطِعُوا فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْمُبَارَكَةِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَلَعَلَّ نَفْحَةً مِنْ نَفَحَاتِ اللهِ -تَعَالَى- تُصِيبُ الْعَبْدَ فَيَرْضَى عَنْهُ رَبُّهُ، وَيَسْعَدُ فَلَا يَشْقَى، وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِذَلِكَ مَنْ لَزِمُوا الْمَسَاجِدَ، وَصَاحَبُوا الْمَصَاحِفَ، وَنَصَبَتْ أَرْكَانُهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَمَا فَتَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَنِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخُصُّ هَذِهِ الْعَشْرَ بِالِاعْتِكَافِ لِفَضْلِهَا وَعَظِيمِ أَجْرِهَا، وَيَكْفِيهَا شَرَفًا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِيهَا، فَجِدُّوا وَاجْتَهِدُوا؛ فَإِنَّكُمْ تُعَامِلُونَ جَوَّادًا كَرِيمًا، عَفُوًّا عَظِيمًا، غَفُورًا رَحِيمًا (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا أَظُنُّ أَنَّ أَيَّامًا مِنَ السَّنَةِ يُقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنُ كَهَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ الْمُصَلِّينَ يَسْمَعُونَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي سَائِرِ الْعَامِ كَمَا يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ، وَهُوَ نُورٌ يَلِجُ مِنْ أَبْصَارِهِمْ بِالْقِرَاءَةِ، وَمِنْ آذَانِهِمْ بِالِاسْتِمَاعِ فَيَسْتَقِرُّ فِي قُلُوبِهِمْ، فَتَنْتَعِشُ قُلُوبُهُمْ بِنُورِ الْقُرْآنِ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ -تَعَالَى-.
وَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْمُقَارَنَةَ الْقُرْآنِيَّةَ الْعَجِيبَةَ بَيْنَ مَنِ اسْتَنَارَ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ تَاهَ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122]، وَاللهِ لَا يَسْتَوِيَانِ أَبَدًا، لَا فِي ضِيَاءِ الْقَلْبِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي مَصِيرِ الْآخِرَةِ.
وَهَذَا النُّورُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ امْتَنَّ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِيَ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَيْنَا تَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ الدَّائِمَ، وَالشُّكْرَ الْمُتَتَابِعَ، وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاصِلَ، فَمَنْ نَحْنُ؟ وَمَاذَا سَنَكُونُ لَوْلَا هَذَا النُّورُ الْمُبِينُ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى 52-53].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم