عناصر الخطبة
1/ تعدد أسماء يوم البعث 2/ الموت أول منازل الآخرة 3/ منازل الموت وأهوال القيامة 4/ موعظة للغافلين عن يوم القيامةاقتباس
يوم البعث يوم مشهود، تعدَّدَت أسماؤه؛ لعظيم أهواله وأعماله، فهو يوم الحشر والنشور، ويوم الفَصْل والقيامة، ويوم الدِّين والحساب، ويوم تَرْجف الراجفة، تَتْبعها الرَّادِفة، حين تَحِقُّ الحاقَّة، وتقع الواقعة والقارعة، وتجيء الصَّاخَّة والطامَّة، يوم الآزِفَة إِذِ القلوب لدَى الحناجر كاظمين، ذلك يوم الخروج، يوم تبلى السرائر، وتتَكَشَّف خبيئات الضمائر ..
الحمد لله، رفَع قدْرَ أولي العلم والإيمان، فلم يغترُّوا بهذه الدار، جَدُّوا وأخلصوا وأَيْقنوا أنَّ الآخرة هي دار القرار.
أحمده سبحانه وأشكره على خيره المِدْرار، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله النبيُّ المختار، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين والأنصار، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنَّ مِن أركان الإيمان بالله الإيمانَ باليوم الآخر، الذي جعَلَه الله -بعقابه وثوابه- نهايةً للعالم الذي نعيش فيه، فيكون الحساب من الخالق سبحانه ويصير المؤمنون للجنة بفضْل الله ورحمته، ويَخْلُد الكفار المجرمون في النار بعدله وحكمته.
فهل هو يوم يَسير؟! وكيف يكون الناس فيه؟! وما هي أهواله وأحواله؟!
يوم البعث -أيها المسلمون- يوم مشهود، تعدَّدَت أسماؤه؛ لعظيم أهواله وأعماله، فهو يوم الحشر والنشور، ويوم الفَصْل والقيامة، ويوم الدِّين والحساب، ويوم تَرْجف الراجفة، تَتْبعها الرَّادِفة، حين تَحِقُّ الحاقَّة، وتقع الواقعة والقارعة، وتجيء الصَّاخَّة والطامَّة، يوم الآزِفَة إِذِ القلوب لدَى الحناجر كاظمين، ذلك يوم الخروج، يوم تبلى السرائر، وتتَكَشَّف خبيئات الضمائر: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ) [النحل: 39]. (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر: 8 - 10].
وحينئذٍ يكون كلُّ إنسان حَسيبَ نفْسِه، ورَقيب عمَله: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14].
تشهد عليه صحائفه، وتحكم عليه أعماله، وتنطق عليه جوارحه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65]. (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت: 20 - 21]. (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر: 38]. (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164].
أيها الأحِبَّة في الله: والموت أول منازل الآخرة، ولقد حكَم الله بالفناء على أهل هذه الدار، فقال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88]، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185]. (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء: 34]. (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99 - 100].
قالت أم حبيبة -رضي الله عنها-: اللهم متِّعْني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وأخي معاوية، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّكِ سألْتِ الله لآِجال مَضْروبة، وآثار مَوطُوءة، وأرزاق مَقْسومة، لا يُعَجِّل شيئًا منها قبْل أجَلِه، ولا يؤخِّر منها يومًا بعد أجَله، ولو سألْتِ الله أن يعافيَكِ من عذابٍ في النار، وعذابٍ في القبر، لكان خيرًا لك". رواه مسلم. وصدق الله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [فاطر: 11].
أيها المسلمون: إنه إذا بلَغ الأجَل الذي قُدِّر لكلِّ عبد واستوفاه، جاءَته رسُلُ ربِّه -عز وجل- يَنقلونه من دار الفناء إلى دار البقاء، فجلسوا منه مدَّ البصر، ثم دنَا منه الملَك الموكَّل بقبْضِ الأرواح، فاستدْعَى الرُّوح.
فإن كانت روحًا طيِّبةً، قال: "اخرجي أيَّتُها النَّفْس الطيبة، كانت في الجسد الطيِّب، اخرُجي حميدةً، وأبشري بِرَوح ورَيْحان، وربٍّ غير غضبان". فتخرج من بدَنِه كما تخرج القَطْرة مِن فِي السِّقاء.
فإذا أخذَهَا لم يدَعْها الرَّسول في يديه طَرْفة عين، فيحنِّطونها ويكفِّنونها بِحَنوط وكَفَن من الجنَّة، ثم يصلُّون عليها، ويوجد لها كأطيب نفحة مسك وُجِدت على الأرض.
ثم يُصعد بها للعرض الأول على أسرع الحاسبين، فيُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيُستأذن لها فيُفتح لها أبواب السماء، ويُصلِّي عليها ملائكتها.
ويشيِّعها مقرَّبوها إلى السماء الثانية، فيُفعل بها كذلك، ثم الثالثة، ثم الرابعة، إلى أن ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله -عز وجل- فتُحيِّي ربَّها -تبارك وتعالى- بتحيَّة الربوبية: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركْتَ يا ذا الجلال والإكرام".
فإن شاء أَذِن لها بالسجود، ثم يَخرج لها التوقيعُ بالجنة، فيقول الرب -جل جلاله-: "اكتبوا كتابَ عبْدي في عليِّين، ثم أعيدوه إلى الأرض؛ فإنِّي منها خلقْتُهم وفيها أُعِيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى".
ثم تَرجع روحه إلى الأرض، فتشهد غُسْلَه وتكفينَه، وحَمْله وتجهيزه، ويقول: قدِّموني قدِّموني.
فإذا وُضِع في لَحْده وتولَّى عنه أصحابُه، دخلَت الرُّوح معه، حتى إنه لَيسمع قَرْع نعالهم على الأرض، فأَتاه حينئذٍ فتَّانَا القبر، فيُجْلِسانه ويَسألانه: مَن ربك؟! وما دينك؟! ومن نبيك؟! فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيِّي محمَّد -صلى الله عليه وسلم- فيصدِّقانه ويبشِّرانه بأنَّ هذا الذي عاش عليه، ومات عليه، وعليه يُبعث. ثم يُفْسَح له في قبره مدَّ بصَرِه، ويُفرش له خضرًا، ويقيَّض له شابٌّ حسَنُ الوجه والرائحة، فيقول: أبْشِر بالذي يسُرُّك، فيقول: مَن أنت؟! فوجهك الوجه الذي يَجيء بالخير، فيقول: أنا عمَلُك الصالح. ثم يُفتَح له باب إلى النار، ويقول: انظر ما صرَف الله عنك، ثم يُفتح له باب إلى الجنة ويقول: انظر ما أعدَّ الله لك، فيراهما جميعًا.
وأما النَّفْس الفاجرة، فبالضدِّ من ذلك كلِّه، إذا آذنت بالرحيل نزل عليها ملائكة سُودُ الوجوه، معهم حَنوط مِن نار، وكفَن من نار، فجلسوا منها مدَّ البصر، ثم دنا الملَك الموكَّل بقبض النفوس، فناداها وقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، أبشري بحميم وغسَّاق، وآخر من شكله أزواج، فتَطايَرُ في بدنه، فيجتذبها من أعماق البَدَن، فتنقطع معها العُروق والعصَب كما يُنتزع الشوك من الصُّوف. فإذا أخذها لم يدَعْها في يده طرْفَة عين، ويوجد لها كأنتن رائحةِ جِيفةٍ على وجه الأرض، فتحنط بذلك الحنوط، وتُلفُّ في ذلك الكفن، ويَلْعنها كلُّ ملَك بين السماء والأرض، ثم يُصْعَد بها إلى السماء فيُستفتح لها، فلا يُفتح لها أبواب السماء، ثم يَجيء النداء من رب العالمين: اكتبوا كتابَه في سِجِّين، وأعيدوه إلى الأرض. فتُطرح رُوحه طَرحًا، فتشهد تجهيزه وتكفينه وحمله، وتقول وهي على السَّرير: يا ويلها! إلى أين يذهبون بها؟!
فإذا وُضِع في اللحد أعيدت إليه، وجاء الملَكان فسألاه عن ربه ودينه ونبيِّه، فيتلجلج ويقول: لا أدري، فيقولان له: لا دَرَيْت ولا تليت، ثم يَضربانه ضربةً، يَصيح صيحةً يسمعه كلُّ شيء إلا الثقلين، ثم يُضَيَّق عليه قبره حتى تَختلف أضلاعه.
ثم يُفرَش له نار، ويُفتح له باب إلى الجنة، فيقال: انظر إلى ما صرَف الله عنك، ثم يُفتح له باب إلى النار فيقال: انظر إلى مَقعدك من النار، فيراهما جميعًا.
ثم يقيَّض له أعمى وأصمُّ وأَبْكم، فيقول: مَن أنت؟! فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عمَلُك السيِّئ.
ثم ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله، ويعذَّب الفاجر فيه على حسب أعماله، ويختصُّ كلُّ عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو.
فتُقْرَض شِفَاه المغتابين الذين يمزِّقون لُحومَ الناس ويقعون في أعراضهم - بمقاريض من نار.
وتُسجر بطون أكلَةِ أموال اليتامى بالنار، ويُلقَم أكلَةُ الرِّبا بالحجارة، ويَسْبَحون في أنهار الدَّم، كما كانوا يَسبحون في الكسب الخبيث في الدنيا.
وتُرضُّ رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحَجَر العظيم، ويُشَقُّ شدْق الكذَّاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد إلى قَفاه، ومنخره إلى قفاه، وعيناه إلى قَفاه؛ كما شَقَّت كلمته النواحي.
ويعلَّق النِّساء الزَّواني بثُدِيِّهن، ويُحبس الزُّناة والزَّواني في التنُّور المُحْمَى عليه، فيعذَّب محَلُّ المعصية منهم، وما هو إلا سافل.
وتُسلَّط الهموم والغموم والأحزان والآلام النفسانيَّة على النفوس البطَّالة، التي كانت مشغوفةً باللهو واللعب والبطَالة، فتصنع الآلام في نفوسهم كما تصنع الهوام والديدان في لحومهم، حتى يأذن الله تعالى بانقضاء أجَلِ العالَم وطي الدنيا، فتُمطَر الأرض مطرًا أربعين صباحًا، فينبتون من قبورهم كما تنبت الشجرة والعشب.
فإذا تكاملت الأجنَّة وكان وقت الولادة، أمَر الله سبحانه إسرافيلَ فنفَخ في الصُّور نفخة البعث، فتشقَّقت الأرض عنهم، فإذا هم قيام ينظرون، يقول المؤمن: الحمد لله الذي أحيانا بعدَما أماتنا وإليه النُّشور، ويقول الكافر: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس: 52]. (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) [الحجر: 23]. (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحج: 6]. (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]. (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [النمل: 64]. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) [المجادلة: 6]. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) [الكهف: 99].
في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- بسند جيد مرفوعًا: "ثم يُنفخ في الصور، فلا يَسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا ورفع لِيتًا، وأوَّل من يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله، قال: فيَصْعَق ويصعَق الناس. ثم يرسل الله -أو قال: يُنْزل الله- مطرًا كأنه الطَّلُّ أو الظِّل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم يُنفخ فيه أُخْرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: يا أيها الناس: هلُمُّوا إلى ربكم: (وقِفُوهم إنهم مسؤولون)، قال: ثم يقال: أخْرِجوا بعْثَ النار، فيقول: مِن كم؟! فيقال: مِن كلِّ ألْفٍ تِسْعَمائة وتسعين، قال: فذلك يومٌ يَجعل الولدان شيبًا، وذلك يومَ يُكشف عن ساق".
فيُساقون إلى المَحْشر حُفاةً عراةً غرلاً بُهمًا، مع كل نفْس سائقٌ يَسوقها، وشهيد يشهد عليها، وهم بَين مسرورٍ ومثبورٍ، وضاحكٍ وباكٍ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) [عبس: 38 - 41].
فيجمع الخلائق في الموقف: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء: 87]، (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) [التغابن: 9]، (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4 - 6]. (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ: 38]، (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود: 105].
حتى إذا تكاملت عُدَّتُهم، وصاروا جميعًا على وجه الأرض، تشقَّقت السماء، وانتثرت الكواكب، ونزَلت ملائكة السَّماء فأحاطت بملائكة السماء الدُّنْيا، ثم كل سماء كذلك.
فبينما هم كذلك إذ جاء الله ربُّ العالمين لفَصْل القضاء، فأشرقت الأرض بنوره، وتميَّز المجرمون مِن المؤمنين، ونُصِب الميزان، وأُحضر الدِّيوان، واستُدعي الشُّهود، وشهدت يومئذٍ الأيدي والألْسُن والأرجل والجلود.
أيها المسلمون: وفي يوم القيامة يَحصل لقاء العبد بربِّه وتقريره لذنوبه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الانشقاق: 6].
وفي الحديث الصحيح: "فيَلقى العبد فيقول: أي فُل -أيْ: فلان- ألم أكرمْك وأسوِّدك وأزوِّجك، وأسخِّر لك الخيل والإبل، وأَذَرْك ترْأَس وتَربع؟! فيقول: بلى، قال: فيقول: أظننتَ أنك ملاقِيَّ؟! فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتَني. ثم يَلقى الثاني فيقول: أيْ فُل: ألم أكرمك وأسوِّدك وأزوجك وأسخِّر لك الخيل والإبل وأذَرْك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى، قال: فيقول: أظننتَ أنك ملاقي؟! فيقول: لا، فيقول: فإنِّي أنساك كما نَسِيتَني. ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب: آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصلَّيْتُ وصمتُ وتصدَّقْت، ويُثْني بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا، قال: ثم يقال له: الآن نَبعث شاهدًا عليك.
ويَتفكَّر في نَفسه: مَن الذي يشهد عليَّ؟! فيُخْتَم على فِيه، ويُقال لفَخِذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخِذُه ولحمه وعظامه بما كان يَعمل، وذلك المنافق، وذلك لِيُعذِر مِن نفسه، وذلك الذي يَسخط الله عليه". رواه مسلم.
ثم بعد ذلك في يوم القيامة، يَكون العرض والحساب: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18]. (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 6 - 8].
في الصحيح عن عائشة مرفوعًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس أحَدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك"، فقلت: يا رسول الله: أليس الله قد قال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) [الانشقاق: 7 - 8] فقال: "إنما ذلك العَرْض، وليس أحد يناقش الحساب إلا عُذِّب".
وعند البخاري عن عدي بن حاتم مرفوعًا: "ما منكم مِن أحد إلا سيكلِّمه ربُّه يومَ القيامة، ليس بين الله وبينه ترجمان ولا حجاب يستره، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة".
وفي حديث ابن عمر المتَّفق عليه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يَدْنُو المؤمن من ربِّه حتى يضَع عليه كنَفَه، فيقرِّره بذنوبه: تَعرف ذنب كذا؟! يقول: أعرف، يقول: رب أعرف، مرتين، فيقول: أنا ستَرْتُها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، ثم تُطوى صحيفة حسناته. وأما الآخرون -أو الكفار- فيُنادَى على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذَبُوا على ربِّهم، ألاَ لعنة الله على الظالمين".
أيها المؤمنون: ثم بعد ذلك في يوم القيامة يُوضع الكتاب: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
وتشهد الأعضاء والجوارح بما عَمِلت: (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت: 20 - 21]. (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65].
وتُنشَر صحائف الأعمال، فآخِذٌ لها باليمين، وآخذ لها بالشمال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 19 - 24]. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 25 - 32].
ثم بعد ذلك في يوم القيامة، تُوزَن الأعمال والصُّحف والعاملون في الميزان: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
فيحكم الله سبحانه بين عباده بحكمه الذي يحمَده عليه جميع أهل السموات والأرض، وكل بَرٍّ وفاجر، ومؤمن وكافر: (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ) [النحل: 111]، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7 - 8].
ثم ينادي منادٍ: لِتَتْبع كلُّ أمة ما كانت تعبد، فيذهب أهل الأوثان مع أوثانهم، وأهل الصليب مع صليبهم، وكل مشرك مع إلهه الذي كان يعبد، لا يستطيع التخلُّفَ عنه، فيتساقطون في النار، ويبقى الموحِّدون، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟! فيقولون: فارقنا الناس أحوجَ ما كنَّا إليهم، وإنَّ لنا ربًّا ننتظره، فيقال: وهل بينكم وبينه علامةٌ تعرفونه بها؟! فيقولون: نعم، إنه لا مثلَ له. فيتجلَّى لهم سبحانه في غير الصُّورة التي يعرفونه، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نَعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتِيَنا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفناه. فيتجلَّى لهم في صورته التي رُئِيَ فيها أوَّلَ مرَّة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرُّون لله سُجَّدًا، إلا من كان لا يصلِّي في الدنيا أو كان يصلِّي رِياءً، فإنه يُحال بينه وبين السجود، ثم يَنطلق سبحانه ويتبعونه.
ويُضرب الجسر، ويساق الخلق إليه، وهو دَحْض مَزَلَّة مُظْلِم، لا يمكن عبوره إلا بنُور، فإذا انتَهوا إليه قُسِّمت بينهم الأنوار على حسب نُور إيمانهم وإخلاصهم وأعمالهم في الدنيا؛ فنورٌ كالشمس، ونورٌ كالنَّجم، ونور كالسِّراج في قوَّته وضعفه.
وتُرسَل الأمانة والرَّحم على جَنبتَي الصِّراط، فلا يجوزه خائن ولا قاطع.
ويَختلف مرورهم عليه بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا؛ فمارٌّ كالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل، وساعٍ، وماشٍ، وزاحفٍ، وحابٍ حبْوًا.
ويُنصب على جَنبيه كلاليب لا يعلم قدْرَ عِظَمها إلا الله -عز وجل- تَعُوق مَن علقت به عن العبور على حسب ما كانت تعوقه الدنيا عن طاعة الله ومرضاته وعبوديته؛ فناجٍ مُسَلَّم، ومخدوشٍ مسلَّم، ومقطَّعٌ بتلك الكلاليب، ومكدوس في النار.
وقد طُفئ نور المنافقين على الجسر أحْوَجَ ما كانوا إليه، كما طُفئ في الدنيا من قلوبهم، وأُعْطوا دُون الكفار نورًا في الظاهر، كما كان إسلامهم في الظاهر دون الباطن، فيَقولون للمؤمنين: قِفوا لنا نَقتبسْ من نوركم ما نَجوزُ به، فيقول لهم المؤمنون والملائكة: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) [الحديد: 13].
قيل: المعنى: ارجعوا إلى الدنيا، فخذوا من الإيمان نورًا تجوزون به كما فعل المؤمنون، وقيل: ارجعوا وراءكم حيث قسمت الأنوار، فالتمسوا هناك نورًا تجوزون به.
ثم ضُرِب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب، باطنه الذي يَلِي المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذي يَلِيهم من قِبَله العذاب: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد: 14 - 15].
فإذا جاوز المؤمنون الصِّراط -ولا يَجوزه إلا مؤمن- أمِنوا من دخول النار، فيُحبسون هناك على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتَصُّ لبعضهم من بعض مظالِمُ كانت بينهم في دار الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا أُذن لهم في دخول الجنة.
وقبله يَرِدون حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- الكوثر، فيشربون منه بعد أن شربوا منه أوَّلَ الأمر.
فإذا استقرَّ أهل الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار، أُتي بالموت في صورة كبْش أملح، فيُوقَف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، فيطَّلِعون وَجِلِين، ثم يُقال: يا أهل النار، فيطَّلِعون مُستبشِرين، فيقال: هل تعرفون هذا؟! فيقولون: نعم، وكلُّهم قد عرَفَه، فيقال: هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة: خُلود ولا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت.
أيها الموحِّدون المؤمنون: كلُّ ذلك مما صحَّت به الأخبار من كتاب ربِّنا وسُنَّة نبيِّنا محمَّد -صلَوات ربِّي وسلامه عليه-. فهذا آخِر أحوال هذه النُّطْفة التي هي مَبدأ الإنسان، وما بين هذا المبدأ وهذه الغاية أحوالٌ وأطباق، تقدير العزيز العليم تنَقل الإنسان فيها، ورُكوبه لها طبقًا بعد طبَق، حتى يصل إلى غايته من السعادة والشقاوة: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) [عبس: 17 - 23].
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا مِن أهل اليمين، ومن عباده المقربين، وحِزْبه المفْلِحين، وأوليائه الصالحين المصلحين، المخلِصين المخلَصين، وأن يُورِثَنا جنات النعيم، نحن ووالدينا وأزواجنا وذرِّياتنا، إنه جَوَاد كريم، وهو حَسْبنا ونِعْم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أيها الناس: ورَبِّ السماء والأرض، لتُخرَجُنَّ من قبوركم، ولتُحشرنَّ إلى ربكم، ولتُحاسَبُنَّ على أعمالكم، ولتُجزونَّ بما كنتم تعملون، لتُجزون على القليل والكثير، والنَّقير والقِطْمير، وذلك على الله يسير.
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يومئذٍ تُعرضون لا تخفى منكم خافية، يوم يُنفخ في الصور فتأتون أفواجًا، حفاةً عراةً غرلاً، في موقف يُذِيب هولُه الأكبادَ، تَذهل فيه كلُّ مُرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى، ولكنَّ عذاب الله شديد.
يَجمع الله الأوَّلين والآخِرين في صَعيد واحد يُسمعهم الدَّاعي، وينفذهم البصر، يَجمع الله فيه بين كلِّ عامل وعمَلِه، وبين كلِّ نبي وأمَّته، ومظلوم ومظْلِمته: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر: 17].
الأبصار شاخصة، والشمس من الرُّؤوس دانية، قد علا أهلَ الموقف العرَقُ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يفرُّ فيه المرء من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبَنِيه، لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يُغنيه، أهوالٌ شِداد، وأحوالٌ عِظام.
تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات؛ فالسماء فُرِجَت وكُشطت وانشقَّت، وفُتِحت فكانت أبوابًا، والشمس كُوِّرت، وخُسف القمر، وجُمِع الشمس والقمر، والنُّجوم انكدرت وطُمست وانتثرت.
أما الأرض، فسجِّرت بحارها تسجيرًا، ودُكَّت جبالها دكًّا، ونُسِفت نسفًا، وسُيِّرت فكانت سرابًا، وزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها، وحدَّثت أخبارها، وألقت ما فيها وتخلَّت.
وحينئذٍ يُحشر المتَّقون إلى الرَّحمن وفدًا، فنِعْم المُوفدُ، ونِعم الوافدون! ويُساق المجرمون إلى جهنم وِرْدًا، ظَمْأى عطْشَى، يتمثَّل لهم السَّراب كالماء، وما هو إلا الحَرُّ والسعير، والنار والزفير، عياذًا بالله من غضبه وأليم عقابه.
يا مَن سارت بالمعاصي أخبارُهم، يا مَن قد قبُح إعلانهم وإسرارُهم، يا مَن قد ساءت أفعالهم وأقوالُهم: تذكَّروا القبرَ المحفور، تذكَّروا النفخَ في الصور، تذكَّروا البعثَ والنشور، تذكَّروا الكتابَ المسطور، تذكَّروا السماءَ يومَ تتغيَّر وتَمُور، والنجومَ يومَ تنكدِر وتغُور، والصراطَ يوم يُمَدُّ للعبور؛ فهذا ناجٍ وهذا مأسور: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 71 - 72].
فأينَ الباكي على ما جَنى؟! أين المستغفِر قبل الفَنا؟! أين التائب ممَّا مضى؟! فالتَّوبُ مقبول، وعفْوُ الله مأمول، وفضله مبْذول، فكم ضَمِن من التَّبِعات، وكم بدَّل من السيئاتِ بالحسنات! "إنَّ الله -عز وجل- يبسط يدَه بالليل؛ ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها".
فيا فوزَ مَن تاب، ويا سعادةَ من آب، وربُّه يقول: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ) [طه: 82].
فيا مَن يسمعُ الخطاب: تنبَّه قبلَ أن تُناخ للرحيل الرِّكاب، وإياكَ إيَّاك أن تدركَك الصَّرعةُ، وتُؤخَذَ عند الغِرَّة، فلا تُقال العَثرَة، ولا تمكَّن من الرجعة، (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 11].
ألا فاتَّقوا الله -رَحِمكم الله- وأعِدُّوا العُدَّة ليوم العرض والحساب، وقراءة الكتاب، وجوَاز الصِّراط، وإثقال الميزان، فالساعة آتية لا ريب فيها، لا تأتيكم إلا بغتةً، ولا يجلِّيها لوقتها إلا الله -جل جلاله-.
اللهم أحْسِن عاقبتنا في الأمور كلِّها، وأجِرْنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم احْفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تُشْمِت بنا الأعداء ولا الحاسدين.
اللهم يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك، ربَّنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غرامًا.
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتوفَّنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تُخْزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.
وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدِّين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم