عناصر الخطبة
1/الصحبة السيئة حقيقتها ومفهومها 2/من مظاهر الصحبة السيئة 3/آثار الصحبة السيئة على المراهقين والمجتمع ونماذج لها 4/علاج أثر الصحبة السيئة.اقتباس
إِنَّ الصَّاحِبَ السَّيِّئَ يَفْضَحُ وَلَا يَنْصَحُ، وَيُفْسِدُ وَلَا يُصْلِحُ؛ وَلِذَا قَالَ حَكِيمٌ لِوَلَدِهِ: "إِيَّاكَ وَإِخْوَانَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهُمْ يَخُونُونَ مَنْ رَافَقَهُمْ، وَيُفْسِدُونَ مَنْ صَادَقَهُمْ، وَقُرْبُهُمْ أَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَالْمَرْءُ يُعْرَفُ بِقَرِينِهِ"...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: يُقَابِلُ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْخَاصِ، وَتَمُرُّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الصُّوَرِ، وَلَكِنَّهُ لَا تَنْبَسِطُ أَسَارِيرُهُ، وَلَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إِلَّا لِثُلَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ، فَيُقِيمُ مَعَهُمْ عَلَاقَاتِهِ، وَيُشَارِكُهُمْ حَيَاتَهُ بِتَفَاصِيلِهَا، فَمَا سُمِّيَ إِنْسَانًا إِلَّا لِأَنَّهُ يَأْنَسُ بِغَيْرِهِ، وَيَأْمَنُ بِمَنْ يُصَاحِبُ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ، وَهُوَ -بِطَبْعِهِ- يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَيَتَأَثَّرُ وَيُؤَثِّرُ، وَفِي الْحَدِيثِ: "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
فَالْمَرْءُ يُعْرَفُ مِنْ خِلَالِ صَدِيقِهِ، فَالصَّاحِبُ سَاحِبٌ، وَالطَّبْعُ سَرَّاقٌ، وَلِذَا جَاءَ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلُهُ: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ).
وَلَقَدْ حَرَصَ الْإِسْلَامُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ اخْتِيَارِ الرَّفِيقِ فِي السَّفَرِ؛ فَكَيْفَ بِالرُّفْقَةِ وَالصُّحْبَةِ فِي سَفَرِ الْحَيَاةِ إِلَى اللَّهِ، وَالَّتِي يَطُولُ زَمَانُهَا، وَتَكْثُرُ عَثَرَاتُهَا؟!
وَالصُّحْبَةُ: هِيَ عَلَاقَةٌ حَمِيمَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ مِنَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرَ، يَتِمُّ فِيهَا التَّعَاوُنُ، وَتَتَمَيَّزُ بِالتَّوَاصُلِ وَالِانْسِجَامِ. فَلِذَا كَانَ لِزَامًا عَلَى الْمَرْءِ -وَخَاصَّةً الشَّابَّ الْمُرَاهِقَ- أَنْ يَخْتَارَ صُحْبَتَهُ بِعِنَايَةٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَاخْتَرْ صَدِيقَكَ وَاصْطَفِيهِ تَفَاخُرًا *** إِنَّ الْقَرِينَ إِلَى الْمُقَارِنِ يُنْسَبُ
وَإِذَا أَرَدْتَ -أَيُّهَا الشَّابُّ- أَنْ تَعْرِفَ صَاحِبَ السُّوءِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ لَهُ عَلَامَاتٍ وَمَظَاهِرَ يَتَمَيَّزُ بِهَا، وَخُطُوَاتٍ يَسْتَهْوِي بِهَا مَنْ يُقَارِنُهُ، فَإِذَا رَأَيْتَ مِنْهُ ذَلِكَ فَاحْذَرْ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ وَاصَلْتَ الْخُطَى فِي دَرْبِهِ فَلَنْ تَصِلَ إِلَّا إِلَى الْهَلَاكِ، وَلَنْ تُفِيقَ إِلَّا عَلَى الْبَوَارِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ: أَنَّ صَاحِبَ السُّوءِ يُزَيِّنُ لِصَاحِبِهِ طَرِيقَ الْغَوَايَةِ، وَيَحِيدُ بِهِ عَنْ سُبُلِ الْهِدَايَةِ، فَيَفْتَحُ لَهُ أَبْوَابَ الشَّهَوَاتِ وَيُحَسِّنُهَا، وَيُثَبِّطُهُ عَنِ الطَّاعَةِ وَيُهَوِّنُهَا، فَمَنْ أَطَاعَهُ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَكَانَ كَمَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)[فُصِّلَتْ: 25].
وَإِنَّ صَدِيقَ السُّوءِ لَا يَزَالُ بِصَاحِبِهِ حَتَّى يُرْدِيَهُ، كَمَا أَخْبَرَ الْمَوْلَى -جَلَّ شَأْنُهُ- عَنْ حَالِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَا زَالَ بِهِ صَاحِبُهُ حَتَّى كَادَ يُرْدِيهِ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَفِيهِ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[الصَّافَّاتِ: 51 -57]، فَلَوْ أَنَّهُ أَطَاعَهُ لَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى: يُصَوِّرُ اللَّهُ -تَعَالَى- حَالَ قَرِينِ السُّوءِ مَعَ صَاحِبِهِ الَّذِي أَطَاعَهُ، وَكَيْفَ زَيَّنَ لَهُ الْهَوَى فَظَنَّ أَنَّهُ الْهُدَى، فَمَا أَفَاقَ إِلَّا وَهُوَ بِجِوَارِهِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَتَمَنَّى حِينَهَا لَوْ أَنَّهُ ابْتَعَدَ عَنْهُ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِئْسَ الْقَرِينُ، فَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)[الزُّخْرُفِ: 36-39].
وَمِنْ مَظَاهِرِ الصُّحْبَةِ السَّيِّئَةِ أَيْضًا: الْغَفْلَةُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَالْإِضْلَالُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ يَعَضُّ الظَّالِمُ كِلْتَا يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَدَمًا، مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ النَّادِمَ إِنَّمَا يَعَضُّ أُصْبُعًا أَوْ يَدًا وَاحِدَةً، لَكِنَّ شِدَّةَ حَسْرَتِهِ جَعَلَتْهُ يَعَضُّهُمَا مَعًا وَيَقُولُ: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي)[الْفُرْقَانِ: 28-29]، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يُطِيعُوا أَصْحَابَ الْغَفْلَةِ، أَوْ يَصْحَبُوا أَهْلَ اللَّهْوِ وَالتَّفْرِيطِ فَقَالَ: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الْكَهْفِ: 28].
وَمِنْ مَظَاهِرِ الصَّاحِبِ السَّيِّئِ: أَنَّهُ يَفْضَحُ وَلَا يَنْصَحُ، وَيُفْسِدُ وَلَا يُصْلِحُ؛ وَلِذَا قَالَ حَكِيمٌ لِوَلَدِهِ: "إِيَّاكَ وَإِخْوَانَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهُمْ يَخُونُونَ مَنْ رَافَقَهُمْ، وَيُفْسِدُونَ مَنْ صَادَقَهُمْ، وَقُرْبُهُمْ أَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَالْمَرْءُ يُعْرَفُ بِقَرِينِهِ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ لِلصُّحْبَةِ السَّيِّئَةِ تَأْثِيرًا مُبَاشِرًا فِي صِيَاغَةِ الشَّخْصِيَّةِ الْمُرَاهَقَةِ خُصُوصًا، وَتَكْوِينِ مَلَامِحِهَا، وَقَدِيمًا قِيلَ: قُلْ لِي مَنْ تُصَاحِبُ، أَقُلْ لَكَ: مَنْ أَنْتَ. وَأَفْصَحُ مِنْهُ قَوْلُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ). فَالصُّحْبَةُ السَّيِّئَةُ لَهَا آثَارُهَا الْمُخْزِيَةُ، وَعَوَاقِبُهَا الْمُؤْلِمَةُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ هَذِهِ الْآثَارِ: أَنَّهَا تُودِي بِصَاحِبِهَا إِلَى النَّارِ، فَيَحْزَنُ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ الْحُزْنُ، وَيَنْدَمُ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ، وَتَأَمَّلْ مَعِي حَالَ مَنِ اصْطَحَبَ السُّوءَ، وَرَضِيَ بِأَهْلِهِ قُرَنَاءَ، وَهُوَ يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ نَدَمًا وَيَقُولُ: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)[الْفُرْقَانِ: 28-29].
وَتَأَمَّلْ -أَيْضًا- فِي حَالِ صِنْفَيْنِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، تَبَايَنَتْ طُرُقُ صُحْبَتِهِمْ، فَصَحِبَ الْأَوَّلُ أَهْلَ الصَّلَاحِ وَالتُّقَى، وَذَهَبَ الْآخَرُ إِلَى أَهْلِ الْفَسَادِ وَالْهَوَى، فَانْقَطَعَتِ الصَّدَاقَةُ عَنِ الثَّانِي، وَبَقِيَتِ الْخُلَّةُ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزُّخْرُفِ: 67].
وَإِنَّ صَاحِبَ السُّوءِ يُورِدُ الْمَخَازِيَ وَسُوءَ الْقَرَارِ حَتَّى يَصِلَ بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّارِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِضْلَالِ أَبِي جَهْلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ لِأَبِي طَالِبٍ عَمِّ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ: "لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَاءَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي طَالِبٍ: "يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"، وَمَاتَ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ. فَتَأَمَّلْ كَيْفَ يُوصِلُ الصَّاحِبُ السَّيِّئُ قَرِينَهُ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ!.
إِنْ صُحْبَةَ أَهْلِ السُّوءِ غَبْنٌ وَعَارٌ، وَشَرٌّ وَدَمَارٌ لِلْمُجْتَمَعِ بِكُلِّهِ، فَلَا تُوَلِّدُ إِلَّا جِيلًا فَاسِدًا، لَا يَعْرِفُ سِوَى الْجَرِيمَةِ وَالِاعْتِدَاءِ، تَفْضَحُهُمُ الْمَصَائِبُ، وَتَكْشِفُهُمُ النَّكَبَاتُ وَالنَّوَائِبُ؛ وَلِذَا قَالَ الْحُكَمَاءُ: "إِخْوَانُ السُّوءِ يَنْصَرِفُونَ عِنْدَ النَّكْبَةِ، وَيُقْبِلُونَ مَعَ النِّعْمَةِ".
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
شَيْئَانِ يَنْقَشِعَانِ أَوَّلَ وَهْلَةٍ *** ظِلُّ الشَّبَابِ وَخُلَّةُ الْأَشْرَارِ
وَمِنْ آثَارِ الصُّحْبَةِ السَّيِّئَةِ عَلَى الْمُرَاهِقِينَ: تِلْكَ الْبَصْمَةُ الظَّاهِرَةُ، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ الَّتِي تُضْفِيهَا عَلَى الْمَرْءِ، فَإِنَّ طَبَائِعَ الْخَلَائِقِ مُعْدِيَةٌ، وَصُحْبَةُ الْأَشْرَارِ مُؤْذِيَةٌ، وَصَدَقَ الْقَائِلُ:
أَنْتَ فِي النَّاسِ تُقَاسُ *** بِالَّذِي اخْتَرْتَ خَلِيلَا
فَاصْحَبِ الْأَخْيَارَ تَعْلُو *** وَتَنَلْ ذِكْرًا جَمِيلَا
فَاخْتَرْ مَنْ تُصَاحِبُ؛ فَبِهِ يَصْلُبُ دِينُكَ أَوْ يَضْعُفُ، وَاعْتَنِ بِمَنْ تُخَالِلُ؛ فَبِهِ تَزْكُو أَخْلَاقُكَ أَوْ تَهُونُ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ عَلَى مَنْ مَسَّهُ الْأَلَمُ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْعِلَاجِ، وَعَلَى مَنْ أَتْعَبَهُ الدَّاءُ أَنْ يَهْرَعَ إِلَى الدَّوَاءِ، وَلَا دَاءَ أَشَدُّ مِنْ مُصَاحَبَةِ الْأَشْرَارِ، وَمُقَارَنَةِ الْفُجَّارِ، وَعِلَاجُهُ يَكُونُ بِأُمُورٍ:
أَوَّلًا: التَّضَرُّعُ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَدُعَاؤُهُ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ صَاحِبَ السُّوءِ. وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْ هَذَا الدُّعَاءِ أَحَدٌ، فَقَدْ كَانَ سَيِّدُ الْخَلْقِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مَنْ صَاحِبِ السُّوءِ، وَمِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ"(رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
ثَانِيًا: اسْتِبْدَالُ الصُّحْبَةِ السَّيِّئَةِ بِغَيْرِهَا صَالِحَةٍ؛ فَإِنْ كَانَ جُلَسَاءُ السُّوءِ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ مُجَالَسَةَ الصَّالِحِينَ تَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: "لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ).
ثَالِثًا: هَجْرُ الصُّحْبَةِ السَّيِّئَةِ، وَتَرْكُ الْبِيئَةِ الَّتِي اعْتَادَ صَاحِبُهَا فِيهَا الْمَعْصِيَةَ، وَالِابْتِعَادُ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي أَلِفَ فِيهِ الذَّنْبَ، وَفِي قِصَّةِ التَّائِبِ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ خَيْرُ شَاهِدٍ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ...".
رَابِعًا: الِاشْتِغَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَاسْتِشْعَارُ رَقَابَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ؛ وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهِ وَاسْتِغْفَارُهُ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- غَفُورٌ رَحِيمٌ، يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيَفْتَحُ بَابَهُ لِلْأَوَّابِينَ، وَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ.
فَاحْرِصْ -أَيُّهَا الشَّابُّ الْغَالِي- عَلَى الدِّقَّةِ فِي اخْتِيَارِ جُلَسَائِكَ، وَالْعِنَايَةِ فِي اصْطِفَاءِ نُدَمَائِكَ، فَأَنْتَ بِهِمْ تُعْرَفُ، وَإِلَيْهِمْ تُنْسَبُ، وَبِهِمْ تَتَأَثَّرُ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهِ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم