اقتباس
تتجلّى أهمية الأمثال القرآنية فيما تمتلكه من قدرة مؤثرة في النفس البشرية، وانفعالها من خلال البراعة في التصوير، والقدرة على التشخيص، وقوة الحركة ونقل الصورة من الفكر المجرد إلى الحسّ المشاهد المتحرك، وهذا أدعى إلى إيقاظ همم المخاطب، وبعث كوامن نفسه، واستنهاض أحاسيسه ومشاعره ووجداناته؛ للإقبال نحو تحقيق غرض التمثيل وغاياته
تتجلّى أهمية الأمثال القرآنية فيما تمتلكه من قدرة مؤثرة في النفس البشرية، وانفعالها من خلال البراعة في التصوير، والقدرة على التشخيص، وقوة الحركة ونقل الصورة من الفكر المجرد إلى الحسّ المشاهد المتحرك، وهذا أدعى إلى إيقاظ همم المخاطب، وبعث كوامن نفسه، واستنهاض أحاسيسه ومشاعره ووجداناته؛ للإقبال نحو تحقيق غرض التمثيل وغاياته.
ويتحقق هذا من خلال فنون التشبيهات والاستعارات، والنظائر التي ترسم علاقة المشابهة والمماثلة بين ما هو عقلي بما هو حسّي، زيادة في توضيح الصورة، وتبييناً لها على أكمل وجه.
وقد تجلّى هذا فيما بيّنه الزمخشري من أثر التمثيل وأهميته والعبرة منه، فقال: "ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيَّل في صورة المحقَّق، والمتوهَّم في معرض المتيَقَّن، والغائب كأنه مشاهَد".
ثم أبرَزَ جانباً من علل ضربه، فقال: "إنما يُصار إليه لما فيه من كشف المعاني، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناءة المتوهم من المشاهد"، ثم ما يلبث الزمخشري أن يبيّن قدرة المثل القرآني، وبراعته في تحويل العقلي المجرّد، وتشخيصه وتشكليه في قوالب وصور فنية محسوسة، فيقول: "التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها؛ لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها".
هذا؛ وقد تبع الزمخشري علماء ساروا على هديه في إبراز أهمية أمثال القرآن وفاعليتها في النفس وأثرها، جاء في البرهان: "الحكم والأمثال تصوّر المعاني، تصوّر الأشخاص، فإن الأشخاص والأعيان أثبت في الأذهان، ولا ينتظم مقصود التشبيه والتمثيل إلا بأن يكون المثل المضروب مجرّباً مسلّماً عند السامع".
وقال الزركشي في موضع آخر: "الأمثال مقادير الأفعال، والمتمثل كالصانع الذي يقدّر صناعة، وكل شيء له قالب ومقدار، وقالب الكلام ومقداره الأمثال".
ونقل السيوطي ما جاء في البرهان، وأضاف: "المثل يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه".
وإذا كان ما تقدّم من أقوال العلماء وآثارهم قد أظهر أهمية المثل البيانية والفنية الإبداعية، وأثر ذلك في النفس وفاعليته، -فإن هناك أموراً أخرى شرعية تستفاد من ضرب الأمثال في القرآن، فقد ذكر الإمام الشافعي -رحمه الله-: "أن الأمثال مما تجب معرفته للمجتهد من علوم القرآن؛ لأن ما ضرب من الأمثال دالّ على طاعة الله تعالى، مثبت لاجتناب معاصيه، وترك الغفلة عن الحفظ والازدياد من نوافل الفضل".
ثم جمع الزركشي عدداً من فوائد ضرب الأمثال في القرآن فذكر: "التذكير، والوعظ، والحثّ والزجر، والاعتبار، وترتيب المراد للعقل، وبيان تفاوت الأجر، والمدح والذمّ، والثواب والعقاب، وعلى تفخيم أمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله، فامتنّ الله علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد، وقال تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) [الروم: 58]، ومنها أيضاً: تعليم البيان، وهو من خصائص هذه الشريعة، والمثل أعون شيء على البيان".
وفي ضوء ما تقدّم؛ فإن الأمثال القرآنية جاءت شاملة، متضمّنة كل ما تقدم، ولها من القدرة ما يمكّنها من تحقيق أغراضها وغاياتها عبر صور بيانيّة ومشاهد فنيّة، تلقي بظلالها وآثارها الفاعلة في النفس البشرية، والتي ما سيقت هذه الأمثال إلا لها ومن أجلها؛ بغية خيرها وصلاحها في حالها ومآلها.
وعلى هذا يمكننا القول: إن الأمثال القرآنية تعدّ مقاييس عقلية، وقواعد عامّة، وكليّات شاملة، وعلامات هادية شاخصة ومنتصبة، تصلح أن يُقاس عليها ما يؤكد علوّها على الحصر مما يمكن أن يكون حسيّاً أو عقلياً أو نفسياً، حقيقة أو مجازاً، ضرورة أنها كلام الله، وهي تدور حول محور واحد، متمثل في هذا الإنسان بعناصره المختلفة، وأبعاده المتجاورة والمتآلفة: العقل، الروح، الحسّ، الوجدان، تحقيقاً لتطلّعاته إلى سعادته في معاشه ومعاده.
وعلى هدي هذا المفهوم للمثل القرآني؛ نستطيع الوقوف على معنى قوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) [العنكبوت: 43]، وقوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون) [الزمر: 27]. (1)
ــــــــ
(1) من بحث [المثل في القرآن الكريم: معانيه، ودلالاته البيانية]، للأستاذ الدكتور: مصطفى المشني.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم