عناصر الخطبة
1/ترابط المؤمنين برباط الأمة الواحدة 2/خطورة عدم القيام بحقوق المؤمنين 3/من أعظم حواجب الرحمة 4/أهمية الأخوة في الدين 5/من ثمرات الأخوة الإيمانية وفوائدها 6/ بطش العدو الصهيوني وغشمه وتدميره.اقتباس
من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض؛ بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين، التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضًا، ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره.....
الخُطْبَة الأُولَى:
أما بعد أيها الإخوة: الشعور بشعور الأمة الواحدة مبدأ إسلامي رصين أكده الله -تعالى- بقوله فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الحجرات:10].
قال الشيخ السعدي في تفسيره قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) هذا عقدٌ، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخٌ للمؤمنين، أُخوةٌ توجب أنْ يُحِبَ له المؤمنون، ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له، ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: "لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ، عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ"(رواه مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
ثم قال -رحمه الله-: "ثم أمر الله بالتقوى عمومًا، ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله، الرحمة فقال: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؛ وإذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا والآخرة، ودلَّ ذلك، على أن عَدَمَ القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة" اهـ..
وقال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: الأخوة في الدين تعلو الأخوة في النسب، فالله أمر بالمؤاخاة بين المؤمنين والمسلمين، ولو اختلفت أنسابهم وتباعدت أوطانهم، فقال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، وأمر بمعاداة الكافرين ولو تقاربت أنسابهم، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[التوبة:23].
وقال ابن رجب -رحمه الله-: "فإذا كانَ المؤمنونَ إخوةً أُمروا فيمَا بينَهُم بما يُوجبُ تآلُفَ القلوبِ واجتماعَها، ونُهوا عمَّا يوجبُ تنافرَ القلوبِ واختلافَها، وهذا من ذاكَ".
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-، معلقًا على ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وشبك بين أصابعه"؛ قال: "هذا حديث عظيم، فيه الخبر من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المؤمنين أنهم على هذا الوصف، ويتضمن الحث منه على مراعاة هذا الأصل، وأن يكونوا إخوانًا متراحمين متحابين متعاطفين، يُحِبُ كُلٌّ منهم للآخر ما يحب لنفسه، ويسعى في ذلك، وأن عليهم مراعاة المصالح الكلية الجامعة لمصالحهم كلهم، وأن يكونوا على هذا الوصف".
ثم قال: "فما أنفع العمل بهذا الحديث العظيم الذي أرشد فيه هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى أن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. ولهذا حثَّ الشارع على كل ما يقوّي هذا الأمر، وما يوجب المحبة بين المؤمنين، وما به يتم التعاون على المنافع، ونهى عن التفرق والتعادي، وتشتيت الكلمة في نصوص كثيرة حتى عُدَّ هذا أصلاً عظيمًا من أصول الدين تجب مراعاته واعتباره وترجيحه على غيره والسعي إليه بكل ممكن". اهـ.
وَيَقُولُ الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم- موضِّحًا للمفهوم العظيم؛ مَفْهُوم الأمة الواحدة: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(رواه البخاري ومسلم واللفظ له عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-).
فشبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- أُمَّة الإسلام بأنها كالجسد الواحد، الذي إن أصاب بعضه شيءٌ أُصِيب الجسد كله، وتألم كل عضو فيه وليس العضو المصاب هو الذي يتألم وحده.. كما في الرواية الأخرى يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ، اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى، رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ"(رواه مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-).
قال شيخنا محمد ابن عثيمين -رحمه الله- معلقًا على هذا الحديث: "فأنت إذا أحسست بألم في أطرفِ شيءٍ من أعضائك، فإن هذا الألم يسري على جميع البدن، كذلك ينبغي أن تكون للمسلمين هكذا، إذا اشتكى أحد من المسلمين فكأنما الأمر يرجع إليك أنت".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ"(رواه أبو داود وحسنه الألباني). والمقصود بضيعة الرجل ما يكون منه معاشه من حرفة أو تجارة أو غلة، والمعنى: يجمع عليه معيشته ويضمّها إليه.
"ويحوطه"؛ أي: يحفظه "من ورائه"؛ أي: في غيبته نَفْساً ومالاً وعِرضاً بأن لا يسكت إذا اغتيب عنده.. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، بِمَنْزِلَةِ الرَّأسِ مِنْ الْجَسَدِ، يَألَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا يَألَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأسِ"(رواه أحمد وصححه الألباني)، أما حديث: "مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ"؛ فهو حديث ضعيف، وفيما ذكرنا من الصحاح وما لم نذكر غنية عنه؛ إن شاء الله.
أيها الإخوة: ومنذ أن انطلقت قوافل الهدى من طيبة الطيبة تضم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم-، تؤم بلاد الفرس والروم ومن دار بفلكهم يحملون مشاعل النور وينشرون دين الله -تعالى- في الآفاق، ويُدخلون الناس في دين الله أفواجًا.. وشعور الأمة الواحدة مُتَجَذِّرٌ في أعماق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. ذلك الشعور الذي لا يُوَهِّنه اختلاف الألسن واللهجات، وتَبايُن العادات والطباع.. ولا يُضْعِفُه صِراعٌ بين سلطتين، إذا ما كان العدو واحد متربص، وعلى الأمة صَدّ العدو الكافر الصَّائل على ديار المسلمين.
فنسأل الله -تعالى- أن يحقق للمسلمين هذا الأصل ويؤلف بين قلوبهم، ويجعلهم يدًا واحدة على من ناوأهم وعاداهم، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: الشعور بالأمة الواحدة يُورث آثارًا حميدة في الأمة، وتزداد هذه الآثار بقدر زيادة هذا الشعور، ومن الآثار الحميدة: تجذُّر الألفة في النفوس إلى درجة التآخي، فإنّ من طبيعة الإنسان أن يكون آلفًا مألوفًا، ويستعين من خلال الألفة على أداء الرّسالة المنوطة به في الدّنيا لتحقيق أهداف الاستخلاف في الأرض وهو إقامة الدين وعمارة الأرض، والمؤاخاة من أهمّ أسباب حدوث الألفة بين النّاس.. وإذا كان الدّين أكبر باعث على المؤاخاة والتّآخي، فإنّه بذلك يعزّز الألفة والتّجمّع على تعاليم الدّين من أجل صلاح الدّنيا والحياة والمجتمع..
ومن آثار الشعور بالأمة الواحدة: بذل الدعاء للإخوة في الله وهو من الدعاء الذي ترُجَى استجابته، في أي وقت بحيث لا يعلم المدعو له بذلك، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ"(رواه مسلم عَنْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-).
ولذلك عدّ الله دعاء المؤمنين لإخوانهم في الدين من جميل الخصال؛ فقال عز من قائل: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر:10].
قال السعدي: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ)؛ وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض؛ بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين، التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضًا، ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.
ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها، واستغفار بعضهم لبعض، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين؛ لأن دعاءهم بذلك مستلزم لما ذكرنا، ومتضمّن لمحبة بعضهم بعضًا، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن ينصح له حاضرًا وغائبًا، حيًّا وميتًا، ودلت الآية الكريمة على أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض، ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم، الذي من جملته، بل من أجله، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده..
ومع ذلك الفضل فقد ادخر الله للداعين بالمغفرة أجرًا عظيمًا؛ فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً"(رواه الطبراني وحسنه الألباني).
أيها الإخوة: وانطلاقًا من هذا الشعور: ما تشعر به الأمة كلها هذه الأيام من ألم لما يصيب المسلمين في فلسطين من بطش العدو الصهيوني وغشمه وتدميره لبلاد المسلمين وحرقه للأخضر واليابس، لكننا على ثقة كبيرة بأن الله سينتقم من الظالمين عاجلاً أو آجلاً.
وعلينا الإكثار من الدعاء لهم وأن نحتسب من قضوا من المؤمنين صغارًا وكبارًا تحت الأنقاض أو بالحرق أو القتل بالرصاص الحي أنهم -إن شاء الله- من الشهداء.. فَعَنْ جَابِر بْن عَتِيك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟"، قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -تعالى-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، وذكر منهم: "الْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ"(رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني).
اللهم عليك باليهود الغاصبين؛ شتِّت شملهم وخالِف بين قلوبهم، واجعل تدبيرهم في تدميرهم..
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين، اجعل قتلاهم شهداء وأحياهم خلفاء، أطعم جائعهم، وأَمِّن خائفهم، وكنْ للأرامل والأيتام والمعوزين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم