عناصر الخطبة
1/ مجالات العدل ومسؤوليات الناس فيه 2/ العدل بالقول والفعل حتى على نفسك 3/ العدل في الصلح بين الفئتين المتقاتلتين 4/الإسلام دين قائم على العدل 5/ الرد على مقولة الإسلام دين المساواةاقتباس
شبهة تتعلق بمفهوم العدل يجب بيانه، وهو ما نسمعه من بعض الأنظمة الشيوعية بأنهم ينادون بالمساواة العامة بين الناس جميعاً في كل أمور الحياة، ويرون أن ذلك من العدل، وهذا خطأ فادح، ومغالطة صريحة، ولو ساوينا بين الناس جميعاً لتحقق من ذلك أنواع وصور شنيعة من الظلم، تحت شعار العدل، وذلك لأن حقوق الناس في الأصل غير متساوية؛ فكيف تكون المساواة بينهم من العدل مع تفاوتهم في الحقوق؟! كيف يكون ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: إن مقام العدل في الإسلام عظيم، وثوابه عند الله كبير، والعدل أنواع كثيرة، وكل يجب عليه العدل بقدر مسئوليته في هذه الحياة؛ فالإمام يجب عليه العدل في رعيته، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) [النساء: 58].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سبعه يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله" وذكر منهم" "إمام عادل".
إن حاجة الناس إلى الإمام العادل حاجة ماسة؛ لأنه بالإمام العادل يعم الخير على البلاد، وتعم الطمأنينة النفوس، ويسود أمن البلاد، ويزدهر استقرارها، وبفقدان العدل عند الولاة تفقد البلاد كيانها، وينصدع أمنها، ويضطرب أمرها، وتقلق نفوس أهلها -عياذاً بالله-.
وعدل الولاة يكون بتحكيم كتاب الله، وإقامة شريعة الله إقامة كاملة في جميع مرافق الحياة وشئون البلاد، وإنفاذ الحدود بصرامة وعدل وإنصاف، وإعطاء كل ذي حق حقه في حدود ما يجب له شرعاً؛ إخلاصاً لله، وتمشياً مع شرعة رسول الله، ورغباً في ثواب الله، ورهباً من عقابه، روى الطبراني بإسناد حسن، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوم من إمام عادل، أفضل من عبادة ستين سنه".
وروى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بسند حسن من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أمير عشيرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا عدله".
وكذلك القاضي يجب عليه العدل في حكمه؛ قال الله -تعالى-: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ) [المائدة: 49].
وقال -تعالى-: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقضي به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار".
ولكن القاضي إذا كان قصده الحق، وبذل جهده في إصابته فهو مأجور، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" [متفق عليه].
وكذلك الوالد يجب أن يعدل بين أولاده في العطية وغيرها؛ فلا يعطي بعضهم ويترك البعض الآخر ذكراً كان أو أنثى؛ فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: أن أباه أتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكلّ ولد نحلته مثل هذا" فقال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأرجعه".
وفي لفظ: فانطلق أبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليشهده على صدقتي، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟" قال: لا، قال: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".
فلينتبه الآباء لمثل هذا، ولا يخصوا بعض أولادهم بالعطية دون بعض.
وكذلك يجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته إن كان عنده أكثر من واحدة، قال الله -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19].
فيجب على الزوج أن يساوي بين زوجاته في المبيت والنفقة، وسائر الحقوق الزوجية، قال الله –تعالى-: (فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ) [النساء: 129].
وقال -تعالى-: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً) [النساء: 3].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل" أي يكون أحد شقيه ساقطاً.
عباد الله: ويجب على المسلم العدل في القول، قال -عز وجل-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152] أي إذا تكلمتم في شيء فاعدلوا في القول، ولا تجوروا فيه، بل قولوا الحق ولو كان مراً، سواء كان الحق عليكم أو على غيركم، ولو على أقرب الناس وأحب الناس إليكم؛ كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ) [المائدة: 8].
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [النساء: 135].
أيها المسلمون: يأمر الله -تعالى- بالعدل في الفعال والمقال، على النفس والقريب والبعيد، ويأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت، وفي كل حال.
ويجب على المسلم كذلك أن يكون عادلاً حتى مع أعدائه من الكفار، قال الله -تعالى-: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ) [المائدة: 2] أي لا يحملنكم بغض من قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد؛ قال الله -تعالى-: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8] أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل؛ فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال؛ لأن العدل به قامت السموات والأرض، وهو محبوب إلى كل النفوس، وبه تنتظم المصالح، ويأمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وكذلك أمر الله -تعالى- بالعدل في القصاص، فيؤاخذ الجاني بمثل جنايته من غير زيادة، قال الله -تعالى-: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) [النحل: 126].
وقال -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [الحـج: 60] وقال -تعالى-: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194] فهذا كله من العدل.
وكذلك يجب على المسلمين الإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين بالعدل، قال الله -تعالى-: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات: 9].
فهو -سبحانه- يأمر المؤمنين أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين؛ فإن أبت إحدى الطائفتين قبول الإصلاح فهي باغية، وعلى المؤمنين جميعاً أن يقاتلوا البغاة حتى يرجعوهم إلى قبول حكم الله، فإذا رجعوا إليه قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل حتى يستتب الأمن ويرجع الصفاء والمحبة بين المؤمنين بموجب الأخوة الدينية.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
عباد الله: فهذا ديننا، دين قائم على العدل في كل أحكامه وتشريعاته، قال الله -تعالى-: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً) [الأنعام: 115].
فهو صدق في أخباره عدل في أحكامه، لا يقر بالجور والظلم والعدوان، ولا يحابي مع أحد، بل هو -دائماً- مع الحق أينما كان، يأمر بالوفاء بالعقود والعهود حتى مع الكفار، قال الله -تعالى-: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) [الأنفال: 58].
وإن ديناً هذه صفته لهو الدين الصالح لكل زمان ومكان: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30].
أيها المسلمون: هناك شبهة تتعلق بمفهوم العدل يجب بيانه، وهو ما نسمعه من بعض الأنظمة الشيوعية بأنهم ينادون بالمساواة العامة بين الناس جميعاً في كل أمور الحياة، ويرون أن ذلك من العدل، وهذا خطأ فادح، ومغالطة صريحة، ولو ساوينا بين الناس جميعاً لتحقق من ذلك أنواع وصور شنيعة من الظلم، تحت شعار العدل، وذلك لأن حقوق الناس في الأصل غير متساوية؛ فكيف تكون المساواة بينهم من العدل مع تفاوتهم في الحقوق؟! كيف يكون من العدل مساواة الناقص بالكامل؟! كيف يكون من العدل التسوية بين المحسن والمسيء؟! وكيف يكون من العدل التسوية بين المسلم والمجرم؟! كيف يكون من العدل التسوية بين الذين يعلمون والذي لا يعلمون؟! أرأيتم المدرس مع طلابه، لو أعطاهم جميعاً تقديراً متساوياً مهما كان وضع كل منهم؛ فهل هذا من العدل؟ أم أنه يجب أن يعطي المجدّ بقدر جده والكسول يعاقبه على كسله؟
فكذلك الشعب، منهم المجد المخلص في عمله، ومنهم غير ذلك، فليس من العدل المساواة بين جميع طبقات المجتمع، وبهذا يتبين غلط ما قال به أو ينادي به أصحاب تلك الأنظمة الجائرة.
أيها المسلمون: هذا جزاء العادلين، وأما الجائرون عن الحق، المنتهكون حرمة العدل، فقد أعلمنا الله بمصيرهم وجزائهم في قوله -تعالى-: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن: 15].
والقاسطون هم: الجائرون.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم