عناصر الخطبة
1/قِصَص وعِبَر 2/منهج نبوي في التعامل مع أخطاء الكرام 3/التعامل مع هفوات أصحاب الفضل 4/إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.اقتباس
منهج نبوي زكي في التعامل مع أخطاء من لهم سابقات في المكارم، وصفحات مشرقة في المعالم. مدرسة محمدية تعرف لأهل القَدْر قَدْرَهم، وتدفع الريب عمن يغضّ من حقهم. مدرسة تربّي على الاعتراف بالجميل، والغضّ عن الزلل مقابل ما له من الإحسان.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
في الصحيحين عن عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قال: "بَعَثَنِي رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أنا والزُّبَيْرَ، والمِقْدادَ بنَ الأسْوَدِ، قالَ: "انْطَلِقُوا حتّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خاخٍ، فإنَّ بها ظَعِينَةً، ومعها كِتابٌ فَخُذُوهُ منها"، فانْطَلَقْنا تَعادى بنا خَيْلُنا حتّى انْتَهَيْنا إلى الرَّوْضَةِ، فَإِذا نَحْنُ بالظَّعِينَةِ، فَقُلْنا أخْرِجِي الكِتابَ، فَقالَتْ: ما مَعِي مِن كِتابٍ، فَقُلْنا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتابَ أوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيابَ، فأخْرَجَتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذا فيه مِن حاطِبِ بنِ أبِي بَلْتَعَةَ إلى أُناسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ ببَعْضِ أمْرِ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.
فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "يا حاطِبُ ما هذا؟، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، لا تَعْجَلْ عَلَيَّ إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ، ولَمْ أكُنْ مِن أنْفُسِها، وكانَ مَن معكَ مِنَ المُهاجِرِينَ لهمْ قَراباتٌ بمَكَّةَ يَحْمُونَ بها أهْلِيهِمْ وأَمْوالَهُمْ، فأحْبَبْتُ إذْ فاتَنِي ذلكَ مِنَ النَّسَبِ فيهم، أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بها قَرابَتِي، وما فَعَلْتُ كُفْرًا ولا ارْتِدادًا، ولا رِضًا بالكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لقَدْ صَدَقَكُمْ"، قالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ، قالَ: "إنَّه قدْ شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَكونَ قَدِ اطَّلَعَ على أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
هنيئًا له الحظُّ الوفاءُ المتمِّمُ *** فلا خلَّةٌ منها أضرَّتْ بخلَّة
تطيبُ به أنفاسهُ فتذيعُهُ *** وهل سِرُّ مسكٍ أُودِعَ الريحَ يُكْتَم
منهج نبوي زكي في التعامل مع أخطاء من لهم سابقات في المكارم، وصفحات مشرقة في المعالم. مدرسة محمدية تعرف لأهل القَدْر قَدْرَهم، وتدفع الريب عمن يغضّ من حقهم. مدرسة تربّي على الاعتراف بالجميل، والغضّ عن الزلل مقابل ما له من الإحسان.
وفيه لفتة نبوية تربوية، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-لم يسرع في عتاب حاطب حتى سأله "يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟"، وما حملك على ما صنعت؟
عليك صلاة من الله ما ذرّ شارق *** ورحمته ما شاء أن يترحما
لو شاعت هذه التربية السامية ما أُسْقِطَ عالِم بهفوةٍ، ولا نُسيت فضائلُ جوادٍ بكبوة. يختفي هذا الخلق الرفيع حينما تتسابق النفوس في الارتقاء على الآخرين، لا نصرةً للدين بل إسقاط للعاملين.
ويكرر نبي الأمة وقائد المدرسة المحمدية ترسيخ هذا الخُلُق النبيل، في موقف جليل، يتجلى معه إظهار شمائل من قاموا بنصرة الدين.. متغافلاً عن سبْقِ لِسانٍ، وهفوةِ جنان. فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ جالِسًا عِنْدَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، إذْ أقْبَلَ أبو بَكْرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثَوْبِهِ حتّى أبْدى عن رُكْبَتِهِ، فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: أمّا صاحِبُكُمْ فقَدْ غامَرَ فَسَلَّمَ وقالَ: إنِّي كانَ بَيْنِي وبيْنَ ابْنِ الخَطّابِ شيءٌ، فأسْرَعْتُ إلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أنْ يَغْفِرَ لي فأبى عَلَيَّ، فأقْبَلْتُ إلَيْكَ، فَقالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لكَ يا أبا بَكْرٍ ثَلاثًا، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فأتى مَنْزِلَ أبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أثَّمَ أبو بَكْرٍ؟ فَقالوا: لا، فأتى إلى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وجْهُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَتَمَعَّرُ، حتّى أشْفَقَ أبو بَكْرٍ، فَجَثا على رُكْبَتَيْهِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، واللَّهِ أنا كُنْتُ أظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلتُمْ كَذَبْتَ، وقالَ أبو بَكْرٍ صَدَقَ، وواسانِي بنَفْسِهِ ومالِهِ، فَهلْ أنتُمْ تارِكُو لي صاحِبِي" مَرَّتَيْنِ، فَما أُوذِيَ بَعْدَها.
عظمةُ في التربية وحكمة في السياسة.. لم ينظر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إلى ما جرح به أبو بكر عمر وهفوتِه في ذلك، بل شَخَص إلى بحارٍ حسناتِ أبي بكرٍ ومواقفِه العظام، في خدمةِ الإسلام، ونصرةِ سيدِ الأنام، عندها أصبحت ذرةُ في فضاءِ الجودِ والإقدام، فلا تبصرها الأعينُ ولا تتعثر بها الأقدام.
سلامٌ على الصدِّيقِ إذْ هوَ لمْ يزلْ *** لخيرِ البرايا في الحياتينِ يصحبُ
فثانيهِ في الغارِ الخليفةُ بعدهُ *** لأمتهِ نعمَ الحبيبُ المقربُ
أجابَ وقدْ صُمّوا وأبصرَ إذْ عَمُوا *** وصدَّقَ بالحقِ المبينِ وكذبوا
صاحب المكرمات، والسباق للخيرات، تُقال عثرته إذا سبق لسانه، ويُدافَع عن هفوته إذا لم يقصدها قلبه. اشترى عثمان بن عفان للمسلمين بئر رومة، وجيش العسرة، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَا ضَرَّ عثمانَ ما فعلَ بعد اليوم".
شرف تخجل الكواكب إذ يبدو *** وتطوى بذيله الجوزاء
هكذا يجب أن نَتَربَّى ونُرَبِّي.. احترامُ القامات، وتقدير من لهم قصب السبق في المكرمات.
وهي لفتةُ لكل زوجين أن لا ينسوا الفضل بينهم، ولا تُهدم حصون من أجل مشروب أو مطعوم.. (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[الأنعام:152].
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات؛ فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على فضله وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وآله وأصحابه.
أما بعد: فقد أخرج البيهقي في المناقب عن الربيع بن سليمان قال: دخلت يومًا على الشافعي فقلت له: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحتُ ضعيفاً، فقلت: قَوَّى الله ضَعْفَك يا إمام. فقال الشافعي: يا ربيع، أجاب الله قلبَك ولا أجاب لفظك؛ إنْ قوَّى ضَعْفِي علَيَّ قتلني، ولكن قل: قَوَّاكَ اللهُ على ضَعْفِك، قال الربيع: والله ما أردتُ إلا خيراً، فقال الشافعي: "أجل، والله يا بني لو تشتمني صراحًا لعلمتُ أنك لم تُرِد إلا الخير".
ألسُنٌ تَرَبَّت من قلوبٍ زَكَت؛ "لو تشتمني صراحًا لعلمتُ أنك لم تُرِد إلا الخير" كلمةُ عظيمة، وحُقَّ لها أن تكون عظيمةً؛ لأنها خرجتْ من قلوبٍ عظيمةٍ، وأفئدةٍ سليمةٍ، وألسننٍ مستقيمةٍ.
تُهْدَى لمن يقفون على عبارة لها في الخير ألف محمل، وفي الشر محمل، ثم يحملونها على الشر.
تعمى بصائرهم عن كلِ منحرفٍ *** ويرصدون ذوي التقوى بمرصادِ
في سنن أبي داود قال -عليه الصلاة والسلام-: "أقِيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم"(صححه الألباني)؛ وما عالم برع في علمه يُؤخَذ بهفوته، والفاضل مَن عُدَّت سقطاته، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم