عناصر الخطبة
1/أهمية القلب وأنه محل نظر الله 2/تعريف أعمال القلوب وذكر أمثلة عليها 3/من مفسدات القلوب 4/وسائل إصلاح القلوب 5/التلازم بين القلب وأعمال الجوارحاقتباس
مما يدل على أهمية الأعمال القلبية، وأنها تفضل على أعمال الجوارح، أن اختلال العبادات القلبية ربما يهدم العبادات التي تتعلق بالجوارح، فالإخلاص عمل قلبي؛ فإذا زال الإخلاص من قلب العبد، فوقع في الشرك أو...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن للقلب مكانة عظيمة وأهمية بالغة؛ لأن بصلاحه تصلح الأعمال والأحوال والجوارح، وتفسد بفساده، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"(رواه البخاري، ومسلم).
فالقلب هو العضو المسؤول عن التأثر والاستجابة الشعورية في جسم الإنسان؛ ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"(صححه الألباني).
والأعمال القلبية، هي التي يكون محلها القلب وتكون مرتبطة به، وأعظمها الإيمان بالله -عز وجل-، ومنها المحبة، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل واليقين، والإخبات والإشفاق والخشوع، وما إلى ذلك.
أيها المسلمون: إن مما يدل على أهمية الأعمال القلبية، وأنها تفضل على أعمال الجوارح، أن اختلال العبادات القلبية ربما يهدم العبادات التي تتعلق بالجوارح؛ فالإخلاص عمل قلبي، فإذا زال الإخلاص من قلب العبد، وقع في الشرك أو النفاق أو الرياء، وبالتالي بطل عمله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
ومما يدل على أهميتها: أن الأعمال القلبية أساس النجاة من النار والفوز بالجنة، كالتوحيد فهو عبادة قلبية محضة، وسلامة الصدر للمسلمين عبادة قلبية محضة، ولا يخفى عليكم خبر الصحابي الذي ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ثلاث مرات؛ وكان ذلك بسبب أنه لا يحمل في قلبه لأحد من المسلمين غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه (رواه أحمد). فالعبادات القلبية أشق من عبادات الجوارح.
ومنها: أن العبادات القلبية أجمل أثراً من عبادات الجوارح، فقد كان بعض السلف يقول: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه".
ومنها: أن العبادات القلبية أعظم من عبادات الجوارح أجراً ومثوبة عند الله، فقد كان كثير من السلف يفضلون عبادات القلب على الإكثار من عبادة الجوارح، مع عدم إهمالهم لعبادات الجوارح، فهذا أبو الدرداء -رضي الله تعالى عنه- يقول: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
ومما يدل على أهميتها: أن العبادات القلبية قد تكون في بعض الأحيان معوضة للعبد عن عبادات الجوارح؛ كالجهاد في سبيل الله، يأتي رجال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليحملهم فيقول: (لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ)[التوبة:92] فهؤلاء كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ"(رواه مسلم:1911). لماذا؟ لأن العذر قد حبسهم؛ فالإنسان قد لا يستطيع أن يعمل بعض الأعمال، ولكنه يبلغ مبلغ العاملين لها بنيته.
أيها المؤمنون: ولما كان للقلوب تلك المكانة الرفيعة وجب الحذر مما يفسدها، فمن مفسداتها ما يلي:
تعلق القلب بغير الله -تعالى-؛ لأن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، والركون إلى الدنيا والاطمئنان بها مع نسيان الآخرة، مما يفسد القلب.
ومما يفسدها: الفضول من كل شيء، الفضول من الأكل والشرب، والفضول من النوم، والفضول من الكلام، والفضول من المخالطة والمجالسة، والفضول من الضحك، كل شيء زاد من هذه الأشياء فإنه يؤثر على قلب صاحبه، فيفسد قلبه، يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "خصلتان تقسيان القلب: كثرة الكلام وكثرة الأكل". ويقول أبو سليمان الداراني: "لكل شيء صدأ وصدأ القلب الشبع".
أيها الحبيب: داو قلبك، فإنه محل نظر الله -عز وجل-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ"(رواه مسلم).
ولعلاج القلوب وإصلاحها -عباد الله- أمور، منها:
المجاهدة: فيحتاج الإنسان إلى مجاهدة دائمة ومستمرة وإلى مكابدة، يقول ابن المنكدر -رحمه الله-: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي". فصار في حال من العبودية عجيب، كان يقول: "إني لأدخل في الليل فيهولني فينقضي وما قضيت منه أربي".
وكيف نصل إلى هذه المرحلة من الاستغراق في العبادة، وذوق حلاوتها والطمأنينة بها، والشوق إليها، ونحن في واقع إذا زاد الإمام فيه وقتا يسيراً في صلاته على المعتاد بدأنا نتململ ونتضجر، ونكثر الحركة فمنا من يحرك أصابعه ويفرقعها أو من ينظر لساعته أو يشد عمامته، وربما عاتبنا الإمام بعد ذلك على تطويله!!.
فلو كانت قلوبنا عامرة بمحبة الله، والإقبال عليه، لم نشبع من صلاتنا وعبادتنا، فأي مقام أعظم من مقام العبد بين يدي ربه وخالقه يناجيه وينطرح بين يديه في أذلِّ الصور التي يعبِّد بها العبد نفسه، ويذلل جبهته في السجود والركوع؟!، وهل هناك تذلل أكثر من مناجاة الله -عز وجل- والخضوع بين يديه والجبهة على الأرض؟!. فنحن نحتاج إلى كثير من المجاهدة لإصلاح هذه القلوب.
ومما يصلح القلب: كثرة ذكر الموت، وزيارة القبور، ورؤية المحتضرين؛ فإنها اللحظات التي يخرج الإنسان فيها من الدنيا ويفارق الشهوات واللذات، ويفارق الأهل والمال الذي أتعب نفسه في جمعه، في لحظة ينكسر فيها الجبارون، ويخضع فيها الكبراء، ولا يحصل فيها تعلق بالدنيا، فذكر الموت مما يحيي القلب، يقول سعيد بن جبير -رحمه الله-: "لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي".
ومما يحيي القلب: مجالسة الصالحين الذين يذكرون الله -عز وجل-، ويذكِّرون بالله بالنظر إلى وجوههم، فمن الناس من إذا نظرت إلى وجهه انشرح صدرك. وورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله". ولهذا قيل: "ما أسرّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه".
ومما يحيي القلب: أن يكون تعلقه بربه ومعبوده وخالقه -جل جلاله-، فإذا تعلق القلب بالمخلوق، عذب به أياً كان، رجلاً أو امرأة، أو سيارة، أو عقارات، أو مالاً، أو غيرها. فالله -عز وجل- خلق هذا القلب وركبه تركيباً خاصاً لا يصلح بحال من الأحوال إلا إذا علق بربه ومليكه. ولهذا كان ابن القيم -رحمه الله- يقول: "إن في القلب وحشة لا يذهبها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وفيه فاقة لا يذهبه إلا صدق اللجأ إليه، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تذهب تلك الفاقة أبداً".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المسلمون: ومن الوسائل التي تعين على إصلاح القلوب الأعمال الصالحة؛ كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق".
ومما يصلح القلب كذلك: ذكر الله -عز وجل- وقراءة القرآن؛ قال سليمان الخواص -رحمه الله-: "الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا".
وقد أحسن من قال:
دواءُ قَلبِكَ خمسٌ عندَ قسوتهِ *** فاذهبْ عليها تَفُزْ بالخيرِ والظَّفَرِ
خلاءُ بطنٍ وقرآنٌ تَدَبرَهُ *** كذا تضرعِ باكٍ ساعةَ السَّحرِ
ثم التهجدُ جُنحَ الليلِ أوسَطِهِ *** وأن تُجالِسَ أهلَ الخيرِ والخُبَرِ
فاتقوا الله -عباد الله- وأصلحوا قلوبكم يصلح لكم أعمالكم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال:2].
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم