اقتباس
ولعل أبرز المشاهد التي وردت في قصة نوح -عليه السلام-، مشهد السفينة من البداية إلى النهاية، وهو مشهد مليء بالعبر والعظات، فسفينة نوح -عليه السلام- مثل على توافر سبيل النجاة لمن أراد وصدق. وتتعدّد الأمثلة مع التاريخ، وتظل سفينة نوح هي النموذج الذي يصوّر الأمثلة كلها..
قال أهل العلم إنّ في القرآن الكريم ثلاثة مقاصد رئيسية: مقصد إثبات العقائد وإقرار التوحيد، ومقصد بيان الأحكام الشرعية من حلال وحرام، ومقصد بيان العبرة والعظة من قصص الأنبياء والمرسلين للأمم السابقة. ونحن في حاجة ماسة للقراءة في تاريخ الأمم السابقة خاصة عندما يشتد الكرب والمحن؛ لنتعرف على سنن الله الكونية في خلق؛ عاقبة المتقين، وخاتمة المكذبين، ومصارع الظالمين، وبيان طريق الدعوة وخلاصة خبرات الأنبياء مع البشر بمختلف طبائعهم وأخلاقهم وعاداتهم، للعبرة والعظة، والثبات على الطريق، قال تعالى: (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120]، وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
نوح -عليه السلام- هو أوَّل رسول بعثَه الله؛ لما روى البخاري في حديث الشَّفاعة من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيأتون نوحًا فيقولون: أنت أوَّل الرسل إلى أهل الأرضِ، وسمَّاك الله عبدًا شكورًا، أما ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربِّك؟ ...." الحديث.
ونوح -عليه السلام- أطول أنبياء الله -عز وجل- عمراً، وبالتالي أطولهم ممارسة للدعوة ومعاملة مع الناس –ألف سنة إلا خمسين عاماً-، وقد ذكر الله قصَّة نوحٍ -عليه السلام- في عشر سورٍ من سور القرآن، هي: الأعراف، يونس، هود، الأنبياء، المؤمنون، الشعراء، العنكبوت، الصافات، القمر، نوح، إلى كثير ممَّا ورد ذكره في بعض السور حتى بلغ ذِكره في القرآن أكثر من أربعين مرَّة.
ولعل أبرز المشاهد التي وردت في قصة نوح -عليه السلام-، مشهد السفينة من البداية إلى النهاية، وهو مشهد مليء بالعبر والعظات، فسفينة نوح -عليه السلام- مثل على توافر سبيل النجاة لمن أراد وصدق. وتتعدّد الأمثلة مع التاريخ، وتظل سفينة نوح هي النموذج الذي يصوّر الأمثلة كلها.
المشهد الأول: الفتح الرباني:
ظلَّ نوح -عليه السلام- في قومه يَدعوهم ألفَ سنة إلاَّ خمسين عامًا، وكان يدعوهم ليلاً ونهارًا، سرا وجهارًا، وهم مصرون على موقفهم العدائي من نوحٍ -عليه السلام-: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود: 40]. وتطور الأمر إلى أبعد من ذلك وأكبر؛ فقد وصل الأمر إلى تهديد قوم نوح لنوح -عليه السلام- بالقتل رجماً- ( قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء: 116]، ورغم أن فترة الدعوة كانت كبيرة، ورغم أن نوحًا -عليه السلام- كان من أولي العزم الذين أمر الله رسولنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يصبر كما صبروا (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف:35]، إلا أن رد القوم الذين غرتهم قوتهم كان فظاً غليظاً يناسب قلوبهم ونفوسهم السوداء، فضاقوا بنوح ذرعا أن قالوا له: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) [هود: 32]؛ يعني: قد حاججتنا فأكثرت محاجتنا واستنفدت كل ما لدينا من حجج حتى لم يعد لدينا ما نقوله لك، وقد مللنا أمرك، فإن كنت صادقا (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[هود:32]. فقَبِلوا التحدِّي واستعجلوا عذابَ الله وطلبوا من نوحٍ أن يعجِّل لهم العذابَ الذي أَنذرهم به، لكن نوحًا -عليه السلام- شأنه شأن المرسلين جميعًا لا يملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا إلاَّ ما شاء الله، فقال لهم: (إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)[هود: 33]. عندها قال نوح -عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 117، 118]؛ أي: احكم بيننا بما يستحقُّه كلٌّ مِنَّا، وقال تعالى في سورة نوح: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)[نوح: 26، 27]، يا ربِّ، لا تُبق من الكافرين أحدًا على الأرض؛ فإنَّهم إنْ بقُوا فإنَّ ذريَّتهم ستكون على شاكلتهم.
المشهد الثاني: بناء السفينة وسخرية الكافرين:
نفذ قضاء الله، ونزل الأمر الإلهي، وأجيبت دعوةُ نوح -عليه السلام-: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [هود: 36]، جاء الأمر بوجوب المفاصلة والابتعاد عن هؤلاء القوم الذين فسدت فطرتهم، وبلغ العطن في نفوسهم لدرجة لم يعد يفد فيها إصلاح ولا دعوة، لذلك أمر الله عز وجل نبيه بالتوقف عن الدعوة، والاستعداد ليوم الرحيل والخروج قبل نزول العذاب.
أُمر الله -عز وجل- نبيه نوح -عليه السلام- أن يصنع سفينة (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)[هود: 37]، سفينة في الصحراء !! هذا شيء عجيب، وأمر تقصر عنه أفهام البشر، ولكن لا شيء يعجز الله –تعالى- في الأرض ولا في السماء، ولا يرد نبي أو رسول أمر من ربه مهما كانت العواقب أو التبعات.
شرع نوح في صُنع السفينة، وكان ذلك فرصة لقومه أن يستهزِئوا به ويسخَروا منه (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) [هود: 38]، يسخرون منه؛ لأنه يبني سفينة في صحراء تبعد كل البعد عن الماء، فلمن يبنيها؟! وكان يردُّ السُّخريةَ بسخرية أشد، كيف لا وقد علِم من الله أنَّهم مُغرقون؟ (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود: 38]. ويستمر نوح -عليه السلام- في بناء السفينة عدة سنوات؛ لأنها كانت السفينة الأكبر في تاريخ البشرية وقتها. إنها سفينة النجاة للمؤمنين والتي ستحمل نواة الكون بعد ذلك.
المشهد الثالث: لحظة الحسم:
جاءت الإشارة من السماء وظهرت علامات بداية النهاية، واستعد نوح -عليه السلام- للحادث العظيم، وامتثالاً لأمر الله -عز وجل- حمل فيها من كل المخلوقات زوجين اثنين –ذكر وأنثى– للحفاظ على خلق الله، وحمل معه أيضاً المؤمنين من قومه وأهله، وكانوا عدداً قليلاً. وفي صورة مليئة بالحركة والمشاهد المتلاحقة، غنيّة بالألوان والجرس، قويّة التصوير. إنها آيات منزلة من عند الله، تصف مشاهد من أهم ما حدث في التاريخ البشري، تصف كيف ينجي الله المؤمنين حين يُحدق الخطر بالناس من كلِّ جانب. وتحمل في طياتها أعظم الدروس والعبر في العقائد والأخلاق والإيمان.
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[هود: 41-46].
مشهد سفينة نوح -عليه السلام-، وقد علا الماء حتى غطى قمم الجبال الشاهقة، مشهد مرعب حقاً ، وإذا كان المطر مظهراً من مظاهر رحمة الله بعباده، إلا أن قوم نوح لمَّا أصروا على الشرك بالله والكفر برسوله ووقفوا منه موقف العناد، لم يكونوا أهلاً لرحمة الله، فحول الله –سبحانه- المطر؛ ليكون مصدر عذاب ونقمة، قال تعالى: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)[القمر: 11، 12]، فنزل ماءُ العذاب المستأصِل للأمَّة على غير ما أَلِف النَّاسُ، ولم يكن لنوحٍ -عليه السلام- ولا لمخلوقٍ يد في تصريف هذا الماء الذي نزلَ من السماء ولا الذي نَبع من الأرض، ولا يملك أحدٌ ردَّه. وبعد أن قضى ربُّك على هؤلاء الكافرين، ونجَّى عبدَه ورسوله نوحًا ومَن آمن معه في تِلك السفينة المتواضعة، التي جاء وصفُ القرآن لها (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 15]، (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة: 11، 12]، نعم هي آية، إذ هي على بدائيتها قد تغلبت على أعتى الأمواج، ألا يدل ذلك على كمال صفات رب العالمين وقوته وقهره. آية مليئة بالعبر والعظات، ومن أهمها:
1-سفينة نوح -عليه السلام- هي مثل على توافر سبيل النجاة لمن أراد وصدق. وتتعدد الأمثلة مع التاريخ، وتظل سفينة نوح هي النموذج الذي يصوّر الأمثلة كلها. ويظل نداء النبوة مدوياً أبد الدهر يدعو المؤمنين ليركبوا سفينة النجاة، ويلجوا باب النصر: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا) وكيف لا تكون السفينة سفينة النجاة وهي تجري باسم الله وترسي باسم الله. وكلُّ مسلم يدرك اليوم أن الخطر محدق بالمسلمين، يتهددهم جميعاً. ولكن قد يغيب عن بال بعض المسلمين اليوم أمران: الأول: أنه قد لا يدرك المسلم مدى دنوِّ الخطر منه، من شخصه وأهله الأقربين. قد يظنُّ بعض المسلمين أن الخطر بعيد منه قريب من غيره، وأنه لذلك في منجى. ويقع المسلم بذلك فيما وقع فيه ابن نوح (قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) فلم يرتدع، ولم ينزجر، حتى بعد أن ذكَّره أبوه النبيّ الرسول بحقيقة الخطر الذي لا نجاة منه إلا بسفينة النجاة التي أمر الله بإعدادها، والتي جعلها الله السبيل الوحيد للنجاة (قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)، ولا تنحصر عظمة هذا البيان الربَّاني في ألفاظه الغنيّة وما تحمل من ظلال وجرس وإيجاز، ولكنها تمتدُّ إلى الحقِّ الذي تعرضه، والصدق الذي تصوره لا وهم فيه ولا أساطير. وتمتد عظمة البيان الرباني في هذه الآيات الكريمة إلى ما جمعته في هذه الصياغة من تصوير للخطر وعرض لوسيلة النجاة في الوقت نفسه، من خلال صياغة فنية عالية معجزة. ويظل وصف الخطر ووصف سبيل النجاة هو النموذج لكل حالة؛ ليعتبر المؤمنون وليطمئن الصادقون إلى أنه مهما ادلهم الخطر وتوالت الفواجع، فإنَّ باب النجاة ميسر لهم، يطرقونه ويفتحونه بصدقهم ووفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم.
2-وجوب المفاصلة بين أهل الكفر وأهل الإيمان، فقد جاء الأمر الإلهي لنوح -عليه السلام- بالاستعداد للخروج والمفاصلة، وهي مفاصلة شاملة لا تعرف سبباً إلا سبب السماء، ذلك لأن الرابطة الوحيدة المعتبرة هي رابطة العقيدة، وهي تزيل ما سواها، فحين اتضح الأمر لنوح -عليه السلام- وأن ابنه ليس من الناجين بل من الكافرين قال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) [هود: 47]، وكانت زوجته مثلاً ضربه الله –تعالى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ) [التحريم: 10]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم وأن ذلك لا يجدي عنهم شيئاً ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلاً في قلوبهم". وقال السعدي -رحمه الله-: "فكأن في ذلك إشارة وتحذيراً لزوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المعصية، وأن اتصالهن به -صلى الله عليه وسلم- لا ينفعهن شيئاً مع الإساءة". وهذا المثل ورد كما هو معلوم في سورة التحريم والتي ابتدأت بذكر حادثة وقعت في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين بعض نسائه، يقول سيد قطب -رحمه الله- معلقاً: " إن مبدأ التبعة الفردية يراد إبرازه هنا، بعد الأمر بوقاية النفس والأهل من النار، كما يراد أن يقال لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأزواج المؤمنين كذلك أن عليهن أنفسهن بعد كل شيء، فهن مسئولات عن ذواتهن، ولن يعفيهن من التبعة أنهن زوجات نبي صالح من المسلمين"، وقوله تعالى: (حال بينهما الموج) صورة قرآنية بلاغية معجزة لتبين انقطاع النداء بين الأب النبي الرسول وابنه المصر على الكفر، وانقطاع الرجاء في نجاة من يصر على الكفر. إنها الصورة المعبرة عن النموذج المتكرر، حين تحين لحظة المفاصلة بين الإيمان والكفر. وإنها الصورة التي نراها في فرعون وجنوده وهم يغرقون، وفي ثمود وعاد ومدين والمؤتفكات. وإذا لم تحدث هذه المفاصلة في لحظتها المناسبة، فلن ينفتح باب النجاة، وتسد سبيلها، ويأخذ الله الجميع بعذاب أليم. إن المفاصلة بين الكفر والإيمان بعد تبليغ الدعوة والوفاء بعهد الله ومسؤولياته واستكمال جميع التكاليف الربانية مع الصبر والمثابرة، وقبل نزول الخطر والعقاب، ضرورة حتى يفتح الله باب النجاة.
3-التأكيد على بشرية الرسل، وأنهم يصيبهم ويعتريهم ما يعتري البشر من العواطف والمشاعر، ولكنهم في أعلى درجات الكمال البشري بعصمة الله -عز وجل- لهم. فقد تحرَّكَت في قلب نوح عاطفة الأبوة، وأخذته الشفقة على ابنه الهالك ، فتوجه إلى الله -العزيز الرحيم- حيث تذكر قوله سبحانه: (احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)[هود: 40]، توجَّه نوح إلى الله بقوله ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي )؛ يعني: الذين وعدتني بنجاتهم (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود: 45]، وهذا الأسلوب يدل على غاية الأدب في مخاطبتِه رب العباد، فأجاب الله الذي لا مبدل لكلماته ولا راد لحكمه، موضحاً أنه ليس مِن أهله الذين وعدَ بنجاتهم، ولكن المسألة ليست مسألة أبناء وكفى (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[هود: 46]، وهنا استشعر نوح -عليه السلام- عظم المسألة وخطرها على دعوته، فرجع إلى ربه –سبحانه-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[هود: 47]؛ ذلك أن نوحاً علم من ربه أنه لا رباط بين المسلمين والكافرين ولو كانوا ذَوِي قُربى، عندئذٍ رجع على الفور واعتبر دعاءه لولده ذنبًا استغفَر منه وتابَ إلى الله .ولكن مع ذلك الحسم القرآني نجد أن الله -عز وجل- يتلطف بنبيه نوح -عليه السلام-، ويراعي بشريته ومشاعر الأبوة لديه، فيحول بينه وبين مشهد غرق ابنه العاق (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) حتى لا يتأذى قلبه بمشاهدة مصرع فلذة كبده.
4- الجزاء من جنس العمل، فلما صبر نوح -صلى الله عليه وسلم- على رد قومه لدعوته واتهامه بالجنون والكذب والضلال وفقد ابنه ورآه يغرق وكان يحب نجاة ابنه وقومه وينادي ابنه (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ)[هود: 42] كان جزاءه أتم الجزاء وأوفاه (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) [الصافات: 78]. قال ابن كثير :" (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن بن عباس: الناس كلهم من ذرية نوح، وقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يذكر بخير، وقال قتادة والسدي: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين".
5-أهمية التلطف والتودد في الكلام مع من ندعوهم ونربيهم فالخطاب من نوح -عليه السلام- لقومه (يا قومِ )، ولابنه (يا بني) ومع علمه -صلى الله عليه وسلم- بأن ابنه من الكافرين وهذا الخطاب بما يحمل من الشفقة وإظهار المودة نحتاجه كثيراً في حياتنا ودعوتنا خصوصاً مع أقرب الناس إلينا آبائنا وأمهاتنا وزوجاتنا وأولادنا وبناتنا، وإن جزءاً لا بأس به من المشكلات التي تقع في البيوت سببه الحرمان العاطفي.
6-الحذر من أن تزل العاطفة والشفقة بصاحبها لقرابة ونحوها فيقع فيما حذر الله –تعالى- منه عباده فقال: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22]، وقال (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 114].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم