اقتباس
التصرف في بنیة الخطبة ووضعها في أنساق مخصوصة یمنح الخطيب القدرة على التفنن في أسالیب التعبیر؛ ورسم المشهد الدلالي من وحي النصّ القرآني لخدمة أغراض الخطبة، وإنتاج بنىً دلالیة إیحائیة خاصة لإحداث الأثر المطلوب في...
النفس البشرية لها أنماط عديدة تتراوح فيها نسب الخير والشر، والإقبال والإدبار، والطاعة والعصيان، من شخص لآخر.
والخطيب الحاذق لابد أن يراعي هذا التبيان النفسي لدى جمهور المستمعين، فالحضور أطياف شتى من هذه النماذج البشرية، وبالتالي ينبغي للخطيب أن يكون ذا عين فاحصة وبصيرة خبيرة ليعرف كيفية توجيه الخطاب الأمثل لهذه الأنماط المتغيرة ذات التطلعات المختلفة.
فهناك النفس المطمئنة الهادئة الطائعة التي غلب خيرها شرها، وأذعنت لخطاب ربها وشرعه فاطمأنت له وسكنت لأوامره.
وهناك النفس اللوامة التي تتنازع في قوى الخير والشر بلا رجحان، فتارة تكون الغلبة لهذه، وتارة للأخرى، وهي التي تلوم صاحبها على هذا الصراع، فتلومه على التقصير في الخير، وتلومه على الوقوع في الشر، وهي نفس أقرب للخير والفلاح.
وهناك النفس الأمارة بالسوء التي تغلب نوازع الشر فيها على توجهات الإنسان، وهي النفس العصية كثيرة الروغان، سريعة التفلت، قريبة العطب، والتي تحتاج دوما إلى سياط الزجر والتهديد والتوبيخ والتقريع لترعوي أو تهتدي.
أولاً: التوبيخ لغة واصطلاحاً:
التَّوبیخ له مترادفات عدة تعمل عمله، وتؤدي الغرض منه، وفي اللغة يأتي على عدة صور منها: الملامة، وبخته بسوء فعله.
ومنها: التّأنیب، التَّوْبیخ واللوم، والتوبیخ: التهدید والتأنیب.
ومنها: التبكيت، فبَكَّتَه تبكیتا إِذا قَرّعهُ بالعَذْلِ تقریعاً، والتبكیت أن تستقبل الرجل بما یكره، بالسیف أو العصا أو الكلام، والتوبيخ والتعییر من باب اللومِ.
ومنها: التأنيب، أنب الرجل تأْنیبا عنفه ولامه ووبخه، والتأنيب أشد العذل، وهو التوبیخ والتثریب.
ومنها: التعنیف، التوبیخ والتقریع، واللوم، والتّوبیخ بصیغة تفعیل اللوم الشدید العنیف.
والتوبیخ في الاصطلاح: لوم المخاطب بشدّة على فعلٍ أو ترك فعل، فهو طلب من الموبَّخ والمتلقي في الحیاة الدنیا اجتناب الموبَّخ به على سبیل الزجر والتأدیب.
أما إذا استحال الموبَّخ به على الموبَّخ في الدنیا والآخرة فلا استدعاء فیه، للموبَّخ إلى اجتناب الموبّخ به، فهو في هذه الحالة توبیخ وتندیم وإهانة على سبیل الزجر، فكلّ توبیخ على فعل أو ترك فعل هو استدعاء المتلقي إلى اجتناب المُوبَّخ به.
فخلاصة القول :أنّ التوبیخ لوم بشدّة یتضمن الطلب من المُوَبَّخ والمتلّقي فعلا أو اجتناب فعل إلا إذا استحال على المُوبَّخ تدارك الموبَّخ به فلا طلب فیه حینذاك من الموبَّخ، ولكنّه یبقى في كلّ الأحوال استدعاء للمتلقي إلى اجتناب الموبَّخ به.
ومن الأدلة على مشروعية التأديب والتوجيه بالتوبيخ: ما ورد في الصحيحين عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلَامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث العظيم وبخ أبا ذر -رضي الله عنه- وأدبه باللوم، وأنبه على تعييره للرجل بأمه، وقال له بصريح العبارة: "إنك امرؤ فيك جاهلية" تحذيرًا له عن معاودة مثل هذا الصنيع لأنه مما يحز في النفوس وتشتق منه القلوب.
ومن الأدلة كذلك: ما ورد في السنن عَن أبي هُرَيرة -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم- أُتِيَ بشارب فقال: "اضربوه" فضربوه فمنهم الضارب بيده وبثوبه ونعله، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم- لأصحابه: بكتوه, فأقبلوا على الرجل يقولون: أما اتقيت الله أن خشيت الله أما استحييت من الله، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم-: "دعوه".
هذا الأسلوب دواء لمن أخطأ فأصرَّ على الخطأ يستوي فيه من أخطأ في موقف، وأصرَّ عليه غيرَ عارف بخطئه، ومن عرف أنه مخطئ فأصرّ عليه معانداً، وإن كان الثاني أشدَّ زلة، فالتوبيخ والتقريع نتيجة لتكرار الخطأ دون الرغبة في تركه إلى الصحيح من القول والفعل.
وقد يكون هذا الأسلوب:
1- للمصرّين على مواقفهم فكرةً وعملاً -وأنت تعلم أنهم لا يرعوون- لإقامة الحجة عليهم، كي لا يتنصّلوا فيما بعد من مواقفهم هذه.
مثال الخائضين في دين الله بغير علم، فإذا خاض الشخص في دين الله بغير علم، أو تأول الأدلة في غير مواضعها، أو تفلسف فيما لا علم له به استحق التوبيخ والتقريع والتبكيت ولا كرامة؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يختصمون في القَدَر، فكأنما يفقأ في وجهه حَبُّ الرمان من الغضب، فقال: "بهذا أمرتم؟ أو لهذا خُلِقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم؟".
2- لتتخذ العقوبة المناسبة في حقهم معتمداً على القاعدة: "قد أعذر من أنذر"، فيكون موقفهم في تذرّعهم ضعيفاً.
3- لتنبّه الآخرين أن لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من الأخطاء والتصرفات الذميمة؛ فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ -رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الأسلوب عادة يأتي بعد فضح المواقف التي اتسم بها من حاد عن الصواب، فاستحق العقاب، واستحق الوصف الذي لا يرضاه العقلاء.
ثانياً: التوظيف الخطابي للتوبيخ:
التصرف في بنیة الخطبة ووضعها في أنساق مخصوصة یمنح الخطيب القدرة على التفنن في أسالیب التعبیر؛ و رسم المشهد الدلالي من وحي النصّ القرآني؛ لخدمة أغراض الخطبة، وإنتاج بنىً دلالیة إیحائیة خاصة لإحداث الأثر المطلوب في نفس المتلقي، ومن أبرز طرق التوظيف الخطابي لأسلوب التوبيخ المستنبط من كتاب الله:
1- الأمر؛ كما في قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) [ هود: 54 - 55]، و "كیدوني" هنا صيغة أمر للإباحة كنایة عن تعجیزهم وتقریعهم. ومنها: التحدي بالأمر على سبيل المحاكاة؛ كما في قوله: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 23] أي فأتوا بسورة من أصغر السور، أو آیات شتى مفتریات، وهذا غایة التبكیت والتعجیز، ومنتهى إظهار بطلان مقالتهم الفاسدة.
2- التنبيه، وفیه معنى الأمر، ومن أدواته الشائعة "ها"، وغالبا ما تدخل على اسم الإشارة: "ذا"، وقد یُفصَل بینها وبین اسم الإشارة بفاصل كالضمیر المرفوع المنفصل أو القسم، ویؤتى بهذا التركیب في سیاق شكّ المخاطب، ویستفاد التنبیه على معنى التعجب والتوبیخ من السیاق الدالّ على الحال المقتضیة لذلك الإخبار؛ كما في قوله: (هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ) [آل عمران: 119]، وفيه توبیخ شدید بأنّ منافقي الیهود في باطلهم أصلب منكم في حقكم، أي لا یحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك یبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا یؤمنون بشيء من كتابكم، وكرر هاء التنبیه تأكیدا، والكلام نفسه يقال في قوله تعالى: (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [النساء: 109] للمجادلين في قصة السارق طعمة بن أبيرق. وفي قوله: (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ) [آل عمران: 66] تبكیت للمؤمنین على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنین لمنافقي الیهود واطراحهم إیاهم، وتنبیه إلى طول رقادهم أو شدة عنادهم، وقد كرر هاء التنبیه توكیدا.
3- الدعاء؛ مثاله: "ویل" وأصله الدعاء بالهلاك، وقد استعمِل في الزجر والردع، وكل "ویل" ورد في القرآن الكریم یحتمل الدعاء المشوب بالوعید والتعجب والذمّ والتوبیخ والزجر؛ إذ فیه حثّ المقصود بالخطاب على ترك ما هو علیه، إلا ما كان مسبوقا ب "یا" النداء فیحتمل التحسر والتفجع والتوبیخ والتندیم والذمّ.
4- النهي؛ كما في قوله: (وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة: 41]، وفيه: تبكیت للیهود، وأمر جلیل من تعنیفهم؛ لأنّ المراد من "أول" لیس ظاهر معناه المتبادر إلى الذهن، بل المبالغة في السبق، فالمعنى: أنك إن فعلت ذلك لم تكن صفتك إلا كذلك، فهو خارج مخرج المبالغة في الذم بما هو صفة المنهي فلا مفهوم له، وعبر به تنبیهاً على أنهم لما تركوا إتباع هذا الكتاب كانوا لما عندهم من العلم بصحته في غایة اللجاجة، فكان عملهم في كفرهم وإن تأخر.
5- الاستفهام الاستنكاري: وهو نوعان: إنكار إبطالي تكذیبي، وهو في الماضي بمعنى "لم یكن"؛ كقوله تعالى: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا) [الإسراء: 40]، والمُنكَر غیر الواقع یجب أن یلي همزة الاستفهام، لكن الإصفاء هنا لیس هو المنكر، إنما المنكر قولهم: إن اتخذ من الملائكة إناثاً؛ لأن لفظ: "الإصفاء" مشعر بزعم أن البنات لغیرهم، أو بأنّ المراد مجموع الجملتین، وینحل منهما كلام واحد، والتقدیر: أجمع بین الإصفاء بالبنین واتخاذ البنات، فالاستفهام هنا إنكاري إبطالي تكذیبي ومدّعیه كاذب؛ لأنّ ما بعد الهمزة غیر واقع، أي لم یفعل ذلك، وفي الحاضر والمستقبل؛ كما في قوله: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) [هود: 28] أَيْ لَا یَكُونُ هَذَا الإلزام، فالاستفهام هنا یراد به الإنكار على المخاطب، وتكذیبه فیما زعم، فيراد منه النفي وقد أشرب هنا معنى التوبیخ والتقریع.
أما النوع الثاني: إنكار توبیخي ویقع في أمر واقع كان یجب ألا یقع، ووُبِّخ على فعله، نحو قوله: (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طـه: 93]، ویقع على ترك فعل كان ینبغي أن یقع؛ كقوله: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37] فهو إنكاري توبیخي أو حقیقي، فما بعد الهمزة واقع جدير بِأَنْ یُنْفَى، ولكن فاعله ملوم موبَّخ، فالنفي هنا غیر قصدي، والإثبات قصدي، فهم فعلوا هذه الأشیاء، ویستحقون التقریع والتعییر، ولَا تَدْخل همزة التوبيخ إِلَّا عَلَى فعل قبيح أو ما يترب عليه فعل قبيح، ومعنى النهي فیه أبلغ من النهي الصریح فضلا عن معنى التقریع والتعجب والتشنیع والتهدید والترهیب.
6- الاستفهام التقريري، ویُقصد به حمل المخاطب على الإقرار بِما یُسأل عنه نفیاً أو إثباتاً لأي غرض من الأغراض التي يراد لها التقریر، كالتوبیخ واللوم، ونحو ذلك. وقد يكون الاستفهام للتقرير لحمل المخاطب على الإقرار، والاعتراف بأمر قد استقر عنده.
وحقیقة استفهام التقریر: أنه استفهام إنكار، والإنكار نفي وقد دخل على النفي، ونفي النفي إثبات، وأمثلته كثيرة في القرآن الكريم منها قوله: (أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف: 172]؟ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر: 36]؟ (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) [الأحقاف: 20]، والعرب تستفهم بالتوبیخ، وتترك الاستفهام فیه، فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا، وذهبت ففعلت وفعلت، قال ابن عطیة في تفسيره: "والتقریر والتوبیخ إخبار بالمعنى، ولذلك حسنت الفاء وإلا فهي لا تحسن في جواب على حد هذه مع الاستفهام المحض"، وكرر أبو حیان ذلك بقوله: "وهذا الاستفهام هو على معنى التوبیخ والتقریر، فهو خبر في المعنى، فلذلك حسنت الفاء، ولو كان استفهاماً محضاً لم تدخل الفاء" في معنى الخبر هنا لأنه توبیخ وتندیم في سیاق الحدیث عن حساب الكفرة في الآخرة، وفیه معنى التنبیه واستدعاء المتلقي في الدنیا لتجنب ما كان السبب في مآل الكفرة إلى جهنم.
7- الموازنة؛ كما في قوله تعالى: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) [الصافات: 62] أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خیر نزلا وحاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم؟ ومعنى التفاضل بین النزلین: التوبیخ والتهكم، وهو أسلوب كثیر الورود في القرآن، والحمل على المشاركة جائز، وعلى الثاني الظاهر انتصابه على الحال، والمعنى أنّ الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأیهما خیر حال كونه نزلاً، ومثاله قوله تعالى: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ) [القمر: 43]، وقوله: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان: 37].
8- النصح والإرشاد؛ كما في قوله تعالى: (أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [يــس: 23 - 24] فقد تلطف مؤمن سورة يس في النصح بإیراده مورد إمحاض النصح لنفسه، إذ أراد لهم ما أراد لها؛ تقریعا لهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غیره، ولذلك قال: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يــس: 22] مبالغة في التهديد.
9- إرخاء العنان؛ كما في قوله: (وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 23] ففيه مساهلة وإرخاء العنان واستدراج في غاية التبكيت، كأنه قيل: تركنا إلزامَكم بشهداءَ لا میلَ لهم إلى أحدِ الجانبین كما هو المعتاد، واكتفینا بشهدائكم المعروفین بالذبّ عنكم، فإنهم أیضاً لا یشهدون لكم حذار من اللائمة وأَنَفةً من الشهادة البیِّنة البُطلان.
ومثله في إرخاء العنان للمجرمين: (قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ: 25] إذ یراد تبكیتهم وإفحامهم، وهو من مخادعات الأقوال والتصرفات الحسنة؛ إذ یُسمعه الحق على وجه لا یغضبه، فلم یقل: عمّا تجرمون؛ احتراز عن التصریح بنسبة الجرم إلیهم، واكتفاء بالتعریض في قوله تعالى: (عَمَّا أَجْرَمْنَا) [سبأ: 25] لئلا یلبسوا جلد النمر، ولیتفكروا في حالهم وحال مخالفیهم، فیدركوا بالتأمل ما هو الحقّ منهما.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم