عناصر الخطبة
1/بحث الإنسان عن الرزق وبعض صور ظلم العمال 2/رزق الله للخلق 3/أبرز الأسباب الجالبة للرزق والأدلة على ذلك 4/بذل المسلم للأسباب الجالبة للرزقاقتباس
إن من الهموم التي تسيطر على كثير من الناس، مسألة الرزق والبحث عن لقمة العيش، ترى بعض الناس قد تغرب عن أهله ووطنه، وآخرين قد ظهر على وجوههم التعب والاجهاد من آثار السعي في جمع المال. وعلى صعيد آخر يعيش مجموعات من الموظفين والعمال تحت رحمة أرباب الأعمال والكفلاء، فترى...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ ...
أما بعد:
إن من الهموم التي تسيطر على كثير من الناس، مسألة الرزق والبحث عن لقمة العيش، ترى بعض الناس قد تغرب عن أهله ووطنه، وآخرين قد ظهر على وجوههم التعب والاجهاد من آثار السعي في جمع المال.
وعلى صعيد آخر يعيش مجموعات من الموظفين والعمال تحت رحمة أرباب الأعمال والكفلاء، فترى الواحد منهم يعصره هم الخصومات من مرتبه، فنهاره يترقب القرارات الصادرة من رئيسه التي تتعلق به وبراتبه، وفي الليل تسيطر عليه كوابيس شتى، فهو يعيش في رق الوظيفة ليله ونهاره.
ويسهم -أيها الأحبة- إسهاماً كبيراً في جعل هذه القضايا ظواهر ذات نطاق واسع فئة من أصحاب المؤسسات والشركات ممن لا يخافون الله -عز وجل-، يتعاملون مع الموظف والعامل كما يتعاملون مع الآلات، وعند الله تجتمع الخصوم.
هذه طبيعة الدنيا، لا يصفو فيها حال إلا بشيء من الكدر، فنذكر إخواننا المسلمين على اختلاف طبقاتهم من غني وفقير، وكفيل ومكفول، ورئيس ومرؤوس، نذكرهم جميعاً بأنهم لن يصلهم من الدنيا إلا ما قدّر الله لهم، فقد كتب الله -جل جلاله- رزقك -يا ابن آدم- وأنت في بطن أمك.
أيها المسلمون: يوجد هناك من يعتقد أن التمسك بالإسلام والالتزام بأوامر الله يعتقد أن هذه الأمور لا تجتمع مع الغنى، وهذا سوء ظن بالله -عز وجل-.
إنك -أخي المسلم- تدعو ربك في كل صلاة، فتقول: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" فهل تدرك معنى هذه الدعوة؟
لقد كان هذا أكثر ما يدعو به المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، إنه سؤال الرب -عز وجل- أن يؤتيك من الدنيا ما تتعفف به عن الآخرين، وتكتمل لك السعادتان، سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
إذن، شرع الله لا يهمل مسألة الرزق، وكسب العيش، بل إن التمسك بشرع الله حقاً من أعظم أسباب الرزق، وذلك أن تعمل بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الأحبة: سأذكر لكم في هذه الخطبة بعض ما جاء في شرع الله من أسباب كسب الرزق، وزيادته ونمائه، لكن قبل ذلك ينبغي أن نعلم جيداً: بأن ما يُذكر لا ينتفع به صاحبه، وإن فعله وطبقه إذا ضعف يقينه بالله، هذا إن فعل فكيف بالذي لا يفعل ما سيذكر؟
فاحذر -أخي المسلم- وأنت تسمع نصوص الكتاب والسنة أن يضعف يقينك في كلام الله وفي كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فرقٌ بين من يعمل العمل وهو يستيقن أن الله -عز وجل- وعده صدق، وكلامه حق وبين من يقرئه وهو متردد في ذلك.
إن من أعظم أسباب الرزق -أيها المسلمون المؤمنون-: التوبة إلى الله، والرجوع إليه واستغفاره، قال الله -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12].
نعم، يوجد فئات كثيرة من المستغفرين ربما يستغفرون كثيراً لكنهم لا يزدادون إلا فقراً، فتسأل؟
الجواب: أنه استغفار لا يعدل اللسان فقط، هذا الاستغفار الذي ربما أنت تستغفره كل يوم وبعد كل صلاة، قد يكون نوع من العبث، بل إن استغفارك أخي المسلم دون وعي، ودون عمل ربما يكون ذنب يجب عليك أن تقلع منه؛ ولذلك قال أحدهم:
استغفر الله من استغفر الله *** من كلمة قلتها لم أدر معناها
قال ابن كثير -رحمه الله - في تفسير الآيات السابقة: "إي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه، وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وسقاكم ربكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها".
قل لي بربك -أيها المؤمن-: هل في يوم من الأيام، واستعرض شريط حياتك، هل في يوم من الأيام لما ضاقت بك السبل، وضاق عليك أمر المعاش لجأت إلى الله تعالى بالإستغفار والتوبة؟
أدع الجواب لك.
شكى رجل إلى الحسن البصري شدة الجدب، ونقص الماء، فقال له: استغفر الله، وشكى آخر الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال ثالث: يا أبا سعيد أدعو الله أن يرزقني الولد فإني عقيم، فقال له: استغفر الله، وشكى رابع جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقال أحد الجالسين: أتاك رجالاً يشكون أنواعاً فأمرتهم جميعاً بالاستغفار، فقال الحسن -رحمه الله-: إن الله تعالى يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 12].
أيها المسلمون: وممن تفطن لثمرة الاستغفار، وأنه من أسباب الرزق نبي الله هود -عليه السلام- حيث قال: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ)[هود: 52].
فيا أيها الأحبة: إن كلام الله حق وصدق، فإذا ما استغفرت يا عبد الله ولم تجد نتيجة، فاعلم أن الخلل فيك أنت لا في غيرك، وأن استغفارك لم يتجاوز اللسان، فابحث في حالك، وفتش في نفسك، لعلك واقع في ذنب عظيم حرمك الله بسببه أثر الاستغفار.
ومن أسباب الرزق: بل ومن أعظم أسباب الرزق الشرعية: تقوى الله -عز وجل- في السر العلن والخوف منه، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والبعد عن المعاصي، قال الله –تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي من جهةٍ لا يخطر بباله".
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إن أكبر آية في القرآن فرحاً: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2].
وقال تبارك وتعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
أين نحن -أيها المسلمون المؤمنون- بنصوص الكتاب والسنة من هذه الآيات؟ أين الذين يخافون على أرزاقهم إذا تركوا العمل المحرم؟ أين الذين يظنون أنه لن يتقدم اقتصاد المسلمين إلا إذا ربط باقتصاد الغرب من يهود ونصارى؟ ألا يقرأون هذه الآية: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[الأعراف: 96].
إنه ليس رزقاً بسيطاً تحصل به الكفاية، كلا، لكنه فتح من الأرض وفتح من السماء، ولو فتح الله باب السماء للعبد والمجتمع والأمة فمن الذي سيمنعه أو يوقفه أو حتى ينقصه ويقلله، فلماذا يربطون اقتصادهم بالكفار؟ ولماذا يخافون من أزمات اقتصادية -كما يقال- وبين أيدينا إن كنا مسلمين حقاً هذه الآيات الواضحات البينات؟
قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم)[المائدة: 66].
وقال جل جلاله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا)[الجن: 16].
وقال سبحانه: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم: 7].
كثير من المسلمين من أصحاب الشركات والمؤسسات، بل وبعض الموظفين يعلمون أنهم يقعون في مخالفات شرعية، بغض النظر عما يظهرون من القول، هم يعلمون قبل غيرهم جيداً أنهم يقعون في محرمات كالربا والقمار والعقود المحرمة، والتعاون على الإثم.
وبعضهم يعلم يقيناً أنه قد تورط؛ لكن حب المال والخوف من الفقر يجعلهم يتمسكون بالحرام، وأحسن منهم حالاً من يقول لك: أعطني إذا سمحت البديل، حتى أترك ما أنا فيه من المحرمات.
فيا سبحان الله! كيف تريد البديل من الله وأنت لم تترك المحرم ابتداءً من أجله؟ ثم أنت وحدك المسؤول عن المحرم الذي فعلته والبديل هو الترك، أولاً.
وثانياً: ينبغي أن تعلم أنت وغيرك بأن الفتح من الله لن يحصل إلا إذا صدق اعتماد العبد عليه، وكمل يقينه بموعود الله، ولبعض الصالحين تجارب كثيرة مع هذه الآيات، وكيف أن تقوى الله -عز وجل- والخوف منه مع الصبر يفتح أسباباً من الرزق لم تدر في خاطره يوماً من الدهر.
إن القضية تحتاج منا إلى جرأة، وعزيمة إيمانية، يعاهد العبد ربه على التقوى، وترك المحرم، وبعد ذلك ينتظر الفرج من رب كريم رحيم، لا تنقص خزائنه، ولا ينقطع خيره.
وأيضاً من الأسباب المؤدية إلى كثرة المال والرزق في الدنيا: صلة الرحم، نعم صلة الرحم.
والمقصود بالرحم هم: الأقارب، وهم كل من بينك وبينهم نسب من جهة الولادة سواءً كان ذلك من طريق الأب أو الأم.
وصلة الرحم معناه تقديم الإحسان بكل أنواعه حسية ومعنوية، وسواءً كانوا صغاراً أو كباراً نساءً أو رجالاً يسكنون في بلدك، أو بعيدون عنك؛ روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه".
ولهذا بوب البخاري -رحمه الله- فقال: "باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم".
لعلك -أخي المسلم- تستغرب إذا وجدت بعض المسلمين قد فتح الله لهم أبواب تلو أبواب من الرزق، وهم قليلو النشاط، وضعيفو الخبرة، قياساً بغيرهم من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، ولكنك إذا فتشت عن حاله وجدته ممن يصل رحمه.
بل لا تستغرب -أخي الحبيب- إذا أخبرتك بأن بعض العصاة والفساق، بل وبعض الفجرة قد تنمو أموالهم بسبب صلة الرحم، اسمع لما رواه ابن حبان في صحيحه بسند جيد عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي - -صلى الله عليه وسلم- - أنه قال: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة له من قطعيه الرحم، والخيانة، والكذب، وأن أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا".
إن هذا الحديث يفسر لنا ظاهرة ربما كانت موضع استغراب عند كثيرين.
نعم -أيها الأحبة-: إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، و يكثر عددهم، إذا تواصلوا.
ومن أسباب فتح أبواب الرزق: الإنفاق في سبيل الله، فمتى ما أنفقت من مالك -يا عبد الله- كان ذلك سبباً لكثرته، وهذه قاعدة صحيحة في باب الرزق: كلما أخرجت زاد المال، لا كما يظن الماديون أنهم ينقص إذا أخرج زكاته أو تصدق، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به، وأباحه لكم فهو يخلفكم ويخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، ولذا لما أمر الله -عز وجل- بالإنفاق في سبيل الله، قال بعد ذلك: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 268].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن وعد الشيطان لابن آدم بالفقر ليس شفقة عليه، وليس نصيحة له، وأما الله - عز وجل - فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه، إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة".
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قال الله -تبارك وتعالى-: "يا ابن آدم أنفق أنفق عليك".
"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدها: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: أللهم أعط ممسكاً تلفاً"[رواه البخاري من حديث أبي هريرة].
"أنفق يا بلال، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً"[رواه البيهقي].
بعض المسلمين لا يتصور نفسه من المنفقين، ولا يمكن أن يتخيل أن يكون في يوم من الأيام من الذين ينفقون في سبيل الله، إلا إذا كان من أصحاب الملايين، وهذا خطأ؛ لأن كلاً يمكنه أن ينفق بحسبه ووضعه وإمكانياته، فقد يكون الريال الواحد الذي تنفقه في سبيل الله بصدق وإخلاص أعظم من المليون الذي ينفقه غيرك؛ لأنه أراد الشهرة مثلاً، والله هو أعلم بالنيات، قال الله -تعالى-: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[هود: 15-16].
واعلم بأن هذا الأمر، وهو العناية بالضعفاء والمحتاجين من أعظم أسباب الرزق؛ لأن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟".
ومن الأسباب الشرعية لكسب الرزق في الدنيا: التعبد الحق لله -عز وجل-: وذلك أن تعبد الله بقلب فارغ عما سواه، لا تعبد ربك وأنت تفكر في غيره؛ روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله -تعالى- يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، و أسد فقرك، و أن لا تفعل ملأت يديك شغلاً، و لم أسد فقرك"[حديث صحيح].
والتفرغ المطلوب -أيها الأحبة- لا يعني ترك كسب الرزق، فيصير العبد عالةً على غيره، بل ذلك بأن يفرغ العبد قلبه أثناء العبادة عما سواه، فمثلاً الصلاة، لا تكن من الذين يصلون بأجسادهم وقلوبهم تحلق يميناً وشمالاً.
نسأل الله -تعالى- أن يعيننا على أنفسنا، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أقول هذه القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
وأيضاً من الأسباب في زيادة الرزق في الدنيا: المتابعة بين الحج والعمرة، وذلك بزيارة البيت الحرام، كلما سنحت الفرصة سواء كان ذلك لحج أو عمرة، وهذا أمر قد لا يتفطن له كثيرون، أنهم إذا ذهبوا إلى الحج والعمرة كان ذلك سبباً بإذن الله لزيادة الرزق والمال، والله على كل شيء قدير، وفضله واسع، روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود -رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تابعوا بين الحج والعمرة".
وفي رواية: "أديموا الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة".
ومن الأسباب أيضاً: الهجرة في سبيل الله، قال الله -تعالى-: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)[النساء: 100].
ومعنى: "مراغماً" أي سبباً لإرغام أنف أعداء الله، وكم من رجال هاجروا فأغاظوا أعداء الله -تبارك وتعالى-، فيحصل هذا مع السعة، وهو السعة في الرزق، كما فسرها حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-.
ومن الأسباب: التوكل على الله حق التوكل: وذلك بأن يعتمد القلب على الله وحده فتُظهِر -أيها العبد- عجزك، واعتمادك على خالقك؛ روى الإمام أحمد والترمذي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً".
ومن الأسباب: أن تنفق -أخي المسلم- من مالك على طلبة العلم الشرعي: وهذا باب مع كل أسف غفل عنه الكثيرون، فتراه ينفق على فقير محتاج؛ لكن إذا دعي لمشروع دعوي من أجل طلب علم شرعي، أو حلقات تحفيظ القرآن الذي هو أعظم العلم تراه يحجم ولا يشارك، ويقول: بأن سد حاجة الفقير أولى، وهذا خطأ أحياناً، خذ هذا المثال: الإنفاق على الجهاد في سبيل الله يكون في كثير من الأحيان أعظم من إطعام فقير؛ لأن الفقير لا يموت جوعاً، أما الجهاد إذا عطّل في الأمة كما هو الآن فإن الأمة كلها قد تنكب ويصيبها الذل والهوان، وليس باب العلم الشرعي بأقل من باب الجهاد؛ لأن ذاك جهاد بالسيف والسنان، وهذا جهاد بالقلم والبيان، والأمة محتاجة للأمرين معاً.
روى الترمذي عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان أخوان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان أحدهما يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الشارح: أنه يأتيه لطلب العلم – والآخر يحترف -يعني عنده صنعة- فشكا المحترف أخاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال المصطفى -عليه الصلاة والسلام-: "لعلك ترزق به".
وقد ذكر بعض أهل العلم: أن المتفرغين لطلب العلم الشرعي داخلون في قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)[البقرة: 273].
أيها المسلمون: لا شك أن الرزق في الدنيا والسعي فيها أمر يحرص عليه كل مسلم بلا استثناء، ولا شك أيضاً بأن العاقل من سلك هذه الأسباب الشرعية التي مر ذكرها، وخير من ذلك كله أن ترتفع همة الصبر عند العبد، فينظر ببصيرته إلى نعيم الآخرة، إلى تلك الدار التي لا يلحقها فناء، ولا يكدر صفوها موت، أو مرض، ولذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة".
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم رحمة تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، ولم بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.
اللهم صل على محمد ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم