عناصر الخطبة
1/أهمية قائد الأسرة ورئيسها 2/الحكمة من جعل القوامة للرجال دون النساء 3/أسس نجاح الأسرة 4/ أمور توجب قوامة الرجل على المرأة 5/وجوب مراعاة الفطرة.اقتباس
الأسرة تبدأ برجل وامرأة، فكان لا بدَّ أن تتوفَّر في هذين الشَّريكين عوامل النَّجاح لهذه الشَّراكة المقدَّسة، ذات الميثاق الغليظ؛ فميَّز الله -تعالى- الرَّجل بما يؤهِّله للقوامة ليكون قائداً، وكاسباً للرِّزق، وحامياً للأسرة....
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإنَّ ممَّا لا يُنازع فيه عاقل أنَّ الأُسرة تجمُّعٌ يَجْمَعُ بين الجنسين، ومن مقتضى أمور الحياة أنَّ كلَّ تجمُّعٍ لا بدَّ له من قائدٍ ورئيس من بين أفراده؛ ليتولَّى مهامَّ إصدار القرارات والإشراف على تنفيذها، ومهما تكن درجة الشُّورى والدِّيمقراطية في التَّجمُّع، فلا غِنى له في النِّهاية عن القائد والرَّئيس، الذي يوازن بين المشورات والآراء المعروضة عليه؛ ليصدر من بينها قرارَه التَّنفيذي، فليست الشُّورى والدِّيمقراطية في أعلى صور تحقُّقهما بمغنيةٍ عن منصب (الرَّئيس والقائد).
وحيث كان الأمر كذلك، فإنَّه فيما يتَّصل بالأسرة كتجمُّع، فلا بدَّ أنَّها محتاجة لقيادة؛ إمَّا أن تكون من الرِّجال وإمَّا أن تكون من النِّساء، والله -تعالى- يخبرنا أنَّ جنس الرَّجل هو المهيَّأ للقيادة بما أودع الله فيه من صفاتٍ، وبما أوجب عليه من النَّفقات الماليَّة تجاه أُسرته.
والحكمة من جَعْل القوامة للرِّجال دون النِّساء؛ تظهر جليّاً في قوله -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[النساء: 34]، فهذه الآية الكريمة فيها البيان الفَصْل على أنَّ قوامة الرَّجل على المرأة كانت بسبب الجانب الفطريِّ الذي فَطَر الله الرِّجال عليه؛ من كمالِ العقل، وحُسْنِ التَّدبير، والقوَّة البدنيَّة والنَّفسية، ومن جهةٍ أُخرى بسبب المسؤوليَّة التي يتحمَّلها الرَّجل من النَّفقة على المرأة، والقيام على شؤونها وبيتها، بالحفظ والرِّعاية.
فالآية الكريمة تُشير إلى سببين رئيسين لاختيار الرَّجل للقوامة، وهما:
السَّبب الأوَّل: التَّفضيل (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)؛ وإذا كانت خِلْقَة الرِّجال تختلف عن خِلْقَة النِّساء في الجملة، فتميَّز الرَّجل على المرأة -خِلْقةً- في صفات العقل والقوَّة والشِّدَّة، وهذه الصِّفات تؤهِّله للقوامة، ففي الوقت نفسه تميَّزت المرأة على الرَّجل في صفات الرِّقَّة واللِّين، والتي تتناسب مع أُنوثتها، وكذلك تميَّزت المرأة بالعطف الذي يحتاج إليه الأبناء: أجنَّة، ورُضَّعاً، ومحضونين.
فالأسرة تبدأ برجل وامرأة، فكان لا بدَّ أن تتوفَّر في هذين الشَّريكين عوامل النَّجاح لهذه الشَّراكة المقدَّسة، ذات الميثاق الغليظ؛ فميَّز الله -تعالى- الرَّجل بما يؤهِّله للقوامة ليكون قائداً، وكاسباً للرِّزق، وحامياً للأسرة، وميَّز الله -تعالى- المرأة بأُمورٍ جعلتها أهلاً للحمل والرَّضاعة والحضانة، وأعرف بالتَّربية، وأقدر عليها وأصبر.
والمراد بالأفضليَّة في الآية: لا يظهر من الآية الكريمة أنَّ المراد بالأفضليَّة تفضيل ذات الرَّجل على ذات المرأة، أو التَّفضيل المطلق للرِّجال على النِّساء؛ لأنَّ الآية نفسَها لم تُفصح ما فَضَّل الله به الرِّجال على النِّساء، ولأنَّ ذلك أيضاً يتعارض مع قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].
وهذا المبدأ هو غاية العدل الذي أمر الله -تعالى- به، في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)[النحل: 90]؛ إذ ليس من العدل في شيءٍ أن يتفاضل إنسانٌ على إنسانٍ بأمرٍ ليس لهما به كسب أو عمل، فالنَّاس إنَّما تتفاضل بما تُقدِّم.
فالأفضلية هنا من باب توزيع الأدوار، كلٌّ بما يتناسب مع مؤهِّلاته وإمكاناته، لا من باب التَّفاضل الذَّاتي، وقد زَوَّدَ الله -تعالى- المرأةَ بالرِّقَّة والعطف، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطُّفولة؛ لأنَّ الضَّرورات الإنسانيَّة العميقة كلَّها -حتى في الفرد الواحد- لم تُترك لأرجحية الوعي، والتَّفكير، وبطئه؛ بل جُعِلت الاستجابة لها غير إراديَّة؛ ليسهل تلبيتها فوراً، وفيما يُشبه أن يكون قَسْراً، ولكنه قَسْرٌ داخليٌّ غيرُ مفروضٍ من الخارج، ولذيذٌ ومُستحبٌّ في معظم الأحيان كذلك؛ لتكون الاستجابة سريعةً من جهةٍ، ومريحةً من جهةٍ أُخرى.
وزوَّد الرَّجلَ بالخشونة والصَّلابة وبطْءِ الانفعال والاستجابة، واستخدام الوعي والتَّفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأنَّ وظائفه كلَّها من الصَّيد إلى الجهاد تحتاج إلى قَدْرٍ من التَّروِّي قبل الإقدام، وإعمالِ الفكر قبل الخَطْو. وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة وأفضل في مجالها، فهذا هو صُنْعُ اللهِ جلَّ في عُلاه، قد أتقن كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً.
وعلى هذا، فلا الرَّجل -بما تميَّز به- أفضل من المرأة مطلقاً، ولا المرأة -بما تميَّزت به- أفضل من الرَّجل مطلقاً، بل كلُّ جنسٍ منهما أفضل من الجنس الآخر بما تميَّز به، وفي الدَّور الذي يتناسب معه. فجنس الرَّجل أفضل من جنس المرأة في الإدارة، والكسب، وحماية الأسرة. وجنس المرأة أفضل من جنس الرَّجل في القيام على شؤون الأطفال ورعايتهم.
كما يُفهم من الآية أيضاً أنَّ التَّميُّزَ إنَّما هو للجنس على الجنس؛ لا لجميع أفراد الرِّجال على جميع أفراد النِّساء، فإنَّ من النِّساء نساءً يتميَّزن على أزواجهنَّ في العلم والعمل، وربَّما في قوَّة البدن، والقدرة على الكسب، ولكن ليس هذا هو الأصل، إنَّما هو خروج عن القاعدة التي يتميَّز بها الجنسان؛ كلٌّ فيما خُلِقَ له وفُطِرَ عليه.
السَّبب الثَّاني: الإنفاق: (وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)؛ "أي: من المهور والنَّفقات والكُلَف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه، وسنّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-"، وهذا السَّبب سبب كسبي، "فإنَّ المهور تعويضٌ للنِّساء، ومكافأة على دخولهنَّ بعقد الزَّوجية تحت رياسة الرِّجال، فالشَّريعة كرَّمت المرأة؛ إذْ فرضتْ لها مكافأةً عن أمرٍ تقتضيه الفطرة ونظام المعيشة، وهو أن يكون زوجُها قيِّماً عليها، فجُعِلَ هذا الأمر من قبيل الأُمور العُرْفيَّة التي يتواضع النَّاس عليها بالعقود لأجل المصلحة، كأنَّ المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التَّامَّة، وسمحت له بأن يكون للرَّجل عليها درجةٌ واحدة، وهي درجة القوامة والرِّياسة، ورضيت بِعِوَضٍ ماليٍّ عنها".
فهذا هو السَّبب الآخر الذي أكسب الرَّجل خاصِّيَّة القوامة؛ "لكونه قائماً على زوجته من جهة الإنفاق والتَّدبير والحفظ والصِّيانة، ولا ترد هنا فرضيَّة إنفاق الزَّوجة على زوجها، ممَّا يجعلها هي صاحبة القوامة؛ إذ إنَّ ذلك مخالف للأصل الذي جعله الشَّارع، فالأصل أنَّ الإنفاق يكون على الرَّجل، فهو الذي يقوم بالمهر والنَّفقة والسَّكن لزوجته. وأمَّا ما شذَّ عن ذلك، فهو مخالف للأصل؛ إضافةً إلى أنَّ الإنفاق سبب من أسباب القوامة، ممَّا يستدعي مراعاةَ الأسبابِ الأُخرى.
فقوامة الرَّجل مُستحقَّة بتفضيل الله له، ثم بما فرض عليه من واجب الإنفاق، وليس مرجعها إلى مجرَّد الإنفاق، وإلاَّ لانتفى الفضل إذا ملكت المرأة مالاً يُغنيها عن نفقة الرَّجل، أو يمكِّنها من الإنفاق عليه، وقد حدث مثل ذلك لزينبَ امرأةِ عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، فقد كانت ذاتَ مال، وكانت تُنفق عليه وعلى ولده، فلم تَسْلُب منه حقَّ القوامة.
وذكر ابنُ العربيِّ -رحمه الله- ثلاثةَ أُمورٍ توجب قوامة الرَّجل على المرأة:
الأوَّل: كمال العقل والتَّمييز.
الثَّاني: كمال الدِّين والطَّاعة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر على العموم، وغير ذلك.
الثَّالث: بذله المال من الصَّداق والنَّفقة(أحكام القرآن: 1/531).
ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ الرَّجل تميَّز على المرأة من حيث القدرة على الكسب طوال أَيَّام السَّنة؛ حيث لا يعتريه ما يعتري المرأة من الحيض والنِّفاس، والآثار المترتِّبة على ذلك؛ من تغيُّرِ المزاج، وضعفِ الذَّكاء، وضعفٍ نفسيِّ عند بلوغ سِنِّ اليأس من الحيض، وهو اضطِّراب يختلف شِدَّةً وضعفاً من امرأة إلى أُخرى؛ نتيجةَ ما يحدث في جسم المرأة من اختلالٍ في إفراز الهرمونات، ناهيك عن المعاناة في رعاية الأطفال وحضانتهم وتربيتهم، وفي انصراف المرأة إلى العمل إضاعةٌ لما هو أهمُّ، وهو رعاية الأطفال وتربيتهم، وله في الوقت ذاته تأثير على ما تتميَّز به المرأة من الأُنوثة المقصودة فيها.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام الأتمان على مَنْ لا نبي بعده:
السَّبب الثَّالث: مراعاة الفطرة:
فالإسلام دين الفطرة، وهذه الفطرة هي التي تَغرس في المرأة -منذ نعومة أظفارها- الشُّعورَ في حاجتها إلى رجلٍ بجانبها تقوى به، وتواجه معه الحياة، وتشعر معه بالقوَّة والأمن والاستقرار؛ لذا فإنَّ المرأة نفسَها تَوَّاقة إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأُسرة، وتشعر بالحرمان والنَّقص وقلَّة السَّعادة عندما تعيش مع رجلٍ لا يزاول مهامَّ القوامة، وتنقصه صفاتُها اللاَّزمة؛ فيَكِل إليها هذه القوامة.
وقد أشار إلى ذلك أحد علماء النَّفس الغربيين أنفسِهم، وهو الدكتور أوجست فوريل، فقال تحت عنوان "سيادة المرأة": "يُؤثِّر شعورُ المرأة بأنَّها في حاجة إلى حماية زوجها على العواطف المُشِعَّة من الحبِّ فيها تأثيراً كبيراً، ولا يمكن للمرأة أن تعرف السَّعادة إلاَّ إذا شعرت باحترام زوجها، وإلاَّ إذا عاملته بشيءٍ من التَّمجيد والإكرام، ويجب أيضاً أن ترى فيه مَثَلَها الأعلى في ناحيةٍ من النَّواحي؛ إمَّا في القوَّة البدنيَّة، أو في الشَّجاعة، أو في التَّضحية وإنكار الذَّات، أو في التَّفوُّق الذِّهني، أو في أيِّ صفةٍ طيِّبة أخرى، وإلاَّ فإنَّه سُرْعانَ ما يسقطُ تحت حُكْمِهَا وسيطرتها، أو يفصلُ بينهما شعورٌ من النُّفور والبرود وعدم الاكتراث...
ولا يُمكن أن تؤدِّيَ سيادة المرأة إلى السَّعادة المنزليَّة؛ لأنَّ في ذلك مخالفةً للحالة الطَّبيعية التي تقضي بأن يسود الرَّجُلُ المرأةَ بعقله وذكائه وإرادته؛ لتسودَه هي بقلبها وعاطفتها"(الزواج عاطفة وغريزة: 2/32-33).
وكأنَّه بذلك يُشير إلى الدَّور التَّكاملي لكلٍّ من الرَّجل والمرأة داخل الأسرة الواحدة، حيث يقوم كلٌّ منهما بالدَّور المناسب لطبيعته وفطرته التي فُطِر عليها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم