عناصر الخطبة
1/أهمية التربية بالقصة 2/من أهداف وغايات قصص القرآن 3/من مميزات القصة القرآنية 4/نماذج من قصص القرآن والسنة 5/أثر التربية بالقصص في توجيه السلوك وبناء القيم 6/استغلال الأعداء للقصص وأثرها في إفساد المسلمين 7/ تنبيه وتوجيه للآباء والمربين.اقتباس
عَلَيْنَا أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ أَعْدَاءَ الدِّينِ قَدِ اسْتَخْدَمُوا أُسْلُوبَ الْقِصَّةِ مَدْخَلًا لِنَشْرِ أَبَاطِيلِهِمْ، فَصَارَتِ الْقِصَصُ تُرَوَّجُ فِي عُقْرِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ عَبْرَ الْأَفْلَامِ وَالْمُسَلْسَلَاتِ لِلصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، تَبُثُّ سُمُومَهَا؛ كَتَشْوِيهِ التَّارِيخِ، لِفَصْلِ النَّاسِ عَنْ مَاضِيهِمُ الْعَرِيقِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى مَحَبَّةِ اسْتِعْمَالِ الْأَسَالِيبِ الْحَسَنَةِ عِنْدَ مُخَاطَبَتِهَا وَإِرْشَادِهَا؛ لِمَا تَتْرُكُهُ مِنْ أَثَرٍ فِي الْقُلُوبِ، أَلَا وَإِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ؛ أُسْلُوبَ التَّرْبِيَةِ بِالْقِصَّةِ؛ فَهِيَ تَشُدُّ الْمُسْتَمِعَ وَتُوقِظُ انْتِبَاهَهُ، فَتَجْعَلُهُ دَائِمَ التَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهَا وَالتَّتَبُّعِ لِمَوَاقِفِهَا، وَالتَّأَثُّرِ بِشَخْصِيَّاتِهَا وَمَوْضُوعَاتِهَا.
فَلَا عَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ التَّرْبَوِيَّةِ الْمُهِمَّةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يَسْتَخْدِمَ هَذَا الْأُسْلُوبَ؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الْأَعْرَافِ: 176]، فَالْقِصَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ تُحَرِّكُ الْفِكْرَ بِالْعِبَرِ وَالْأَمْثَالِ الْوَاقِعِيَّةِ؛ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى)[يُوسُفَ: 111]، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ -تَعَالَى- سُورَةً قُرْآنِيَّةً بِسُورَةِ "الْقَصَصِ".
وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْكَثِيرُ مِنْ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْمُؤْمِنِينَ الثَّابِتِينَ، وَقِصَصِ صِرَاعِ الْحَقِّ مَعَ الْبَاطِلِ، وَقِصَصِ الْمُعَانِدِينَ أُمَمًا وَأَفْرَادًا، وَبَيَانٌ لِنِهَايَةِ كُفْرِهِمْ، وَعَاقِبَةِ عِنَادِهِمْ؛ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[الرُّومِ: 9].
وَكَذَا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ زَاخِرَةٌ بِالْقِصَصِ كَذَلِكَ؛ مِنْ ذَلِكَ: قِصَّةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى الْغَارِ، وَقِصَّةُ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، وَقِصَّةُ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْأَقْرَعِ، وَقِصَّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَغَيْرُهَا.
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِي أَصْلِهِ كِتَابَ قِصَصٍ، وَإِنَّمَا اسْتَخْدَمَ الْقِصَّةَ لِلْغَايَاتِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنْ أَجْلِهَا؛ لِذَلِكَ تَمَيَّزَتِ الْقِصَّةُ فِي الْقُرْآنِ بِأَهْدَافِهَا التَّرْبَوِيَّةِ، وَأُسْلُوبِهَا الْخَاصِّ؛ لِتَحْقِيقِ الْأَهْدَافِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا تُذْكَرُ هَذِهِ الْأَحْدَاثُ، فَالْقِصَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ لَا تُحَدِّثُنَا عَنْ تَارِيخٍ فَحَسْبُ؛ بَلْ تُعَلِّمُنَا كَيْفَ نَأْخُذُ الْعِبْرَةَ مِنَ التَّارِيخِ؟!
وَقَدْ كَانَ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي اسْتِعْمَالِهِ أُسْلُوبَ التَّرْبِيَةِ بِالْقِصَّةِ مَقَاصِدُ وَغَايَاتٌ؛ مِنْهَا:
بَيَانٌ لِلْأُسُسِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهَا دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَأَنَّ دَعْوَتَهُمْ وَاحِدَةٌ؛ هِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الْأَنْبِيَاءِ: 25].
وَمِنْ غَايَاتِهَا: تَبْيِينُ مَنْهَجِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الْأَنْعَامِ: 90].
وَمِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَتَحْقِيقَ النَّصْرِ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَعَلَى الدَّاعِيَةِ الْبَلَاغُ وَالِاحْتِسَابُ وَالصَّبْرُ مَهْمَا تَكُنِ النَّتِيجَةُ؛ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)[الشُّورَى: 48].
وَمِنْهَا: تَثْبِيتٌ لِفُؤَادِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمَامَ الْفِتَنِ، وَإِيضَاحٌ لِحُسْنِ عَاقِبَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَبَالِ عَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هُودٍ: 120].
وَمِنْ غَايَاتِهَا: الْحَثُّ عَلَى الْفَضَائِلِ وَالْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ؛ كَقِيمَةِ الْمُبَادَرَةِ فِي مُسَاعَدَةِ الْغَيْرِ، كَمَا فِي قِصَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ ابْنَتَيْ شُعَيْبٍ حِينَ سَقَى لَهُمَا؛ (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ)[الْقَصَصِ: 23-24].
وَكَذَا تَقْبِيحُ الْمَسَاوِئِ وَالتَّنْفِيرُ مِنَ الرَّذَائِلِ؛ كَتَجْرِيمِ اللِّوَاطِ وَبَيَانِ شَنَاعَتِهِ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ؛ (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 80].
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: قِصَصُ الْقُرْآنِ صِيغَتْ بِأُسْلُوبٍ قُرْآنِيٍّ بَدِيعٍ مُعْجِزٍ، وَهِيَ قِصَصُ صِدْقٍ لَا مَجَالَ لِلزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ أَوِ الْخَيَالِ فِيهَا؛ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ)[يُوسُفَ: 111]؛ فَهِيَ أَصْدَقُ الْقِصَصِ وَأَجْمَلُهَا وَأَعْظَمُهَا أَثَرًا عَلَى النُّفُوسِ، وَأَبْلَغُهَا فِي التَّرْبِيَةِ؛ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ)[يُوسُفَ: 3].
وَقَدْ تَمَيَّزَتْ قِصَصُ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْقَصَصِ بِمَزَايَا عِدَّةٍ؛ مِنْهَا:
أَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ، فَكُلُّ حَدَثٍ يَقُصُّهُ الْقُرْآنُ مِنْ وَقَائِعِ الْقِصَّةِ فَهُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ- بَعْدَ أَنْ قَصَّ عَلَيْنَا تَفَاصِيلَ مَا جَرَى لِمَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)[آلِ عِمْرَانَ: 62].
وَمِنْ مُمَيِّزَاتِهَا: تَكْرَارُ الْقِصَّةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ؛ تَأْكِيدًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ الْعَظِيمَةِ.
وَمِنْهَا: تَقْسِيمُ أَحْدَاثِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَالْحَدَثُ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَوْعِظَةِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ.
وَمِنْ مُمَيِّزَاتِهَا: عَدَمُ التَّفْصِيلِ وَالتَّصْرِيحِ عِنْدَ ذِكْرِ قِصَصِ الْفَاحِشَةِ؛ بَلْ يَمُرُّ عَلَيْهَا عَابِرًا لِيَنْطَلِقَ إِلَى الْعِبْرَةِ كَشَنَاعَةِ الْفِعْلِ، وَمَوْقِفِ الْمُؤْمِنِ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ مَا يَسْتَحِقُّ التَّوَقُّفَ وَإِعْمَالَ الْفِكْرِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ جَمِيعَهَا ذَاتُ هَدَفٍ وَمَعْنًى؛ وَمِثَالُ ذَلِكَ كَيْفَ أَنَّهَا صَوَّرَتْ خُطُورَةَ الْحَسَدِ الَّذِي حَمَلَ أَحَدَ ابْنَيْ آدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ، وَبَيَّنَتْ شَنَاعَةَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ كَقَوْمِ لُوطٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ مَدْيَنَ مِنْ جَوْرٍ وَتَطْفِيفٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الطُّغَاةُ مِنْ ظُلْمٍ وَطُغْيَانٍ، وَفَضَحَتْ طَبَائِعَ الْيَهُودِ وَسُوءَ خِصَالِهِمْ، وَقُبْحَ فِعَالِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَفِي جَانِبٍ آخَرَ وَضَّحَتْ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ ثَبَاتٍ وَصَبْرٍ وَعَدْلٍ وَلِينٍ.
وَفِي قِصَّةِ سَبَأٍ نَبَأٌ عَظِيمٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَجَحَدَ وَلَمْ يَشْكُرْ؛ (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ)[سَبَأٍ: 15]، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ نِقْمَةً، وَسَلْبًا لِكُلِّ نِعْمَةٍ؛ (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سَبَأٍ: 17]، فَهَلْ مِنْ مُعْتَبِرٍ؟!.
قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَبَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ غَايَةَ قِصَصِ الْقُرْآنِ تَرْبِيَةُ النَّاسِ لِلْوُصُولِ بِهِمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ حَتَّى لَا يَقَعَ النَّاسُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ الْمُعَانِدُونَ؛ فَيُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَكَذَا تَرْبِيَةُ الْمُجْتَمَعِ عَلَى الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ، وَتَهْيِئَةُ النُّفُوسِ لِتَلَقِّي هَذِهِ الْقِيَمِ وَغَرْسِهَا؛ لِتَكُونَ لَهَا عَادَةً تُنْشَّأُ عَلَيْهَا؛ (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آلِ عِمْرَانَ: 62].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: عَلَيْنَا أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ أَعْدَاءَ الدِّينِ قَدِ اسْتَخْدَمُوا أُسْلُوبَ الْقِصَّةِ مَدْخَلًا لِنَشْرِ أَبَاطِيلِهِمْ، فَصَارَتِ الْقِصَصُ تُرَوَّجُ فِي عُقْرِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ عَبْرَ الْأَفْلَامِ وَالْمُسَلْسَلَاتِ لِلصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، تَبُثُّ سُمُومَهَا؛ كَتَشْوِيهِ التَّارِيخِ، لِفَصْلِ النَّاسِ عَنْ مَاضِيهِمُ الْعَرِيقِ، وَرَسْمِ صُورَةٍ قَبِيحَةٍ عَنِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْقَدِيمَةِ وَأَسْلَافِ الْأُمَّةِ، وَتَمْجِيدِ الْفَاسِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَتُظْهِرُ اللُّصُوصُ مُنَاضِلِينَ مُكَافِحِينَ عَنْ حُقُوقِ الْفُقَرَاءِ!.
وَمِنْ سُمُومِهِمْ: تَضْيِيعُ أَوْقَاتِ الْمُسْلِمِ بِتِلْكَ الْقِصَصِ، الَّتِي تُبَثُّ بِشَكْلٍ مُكَثَّفٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْفَضِيلِ خَاصَّةً، مَعَ مَا تَحْتَوِيهِ تِلْكَ الْقِصَصُ مِنْ سُلُوكِيَّاتٍ مُنَافِيَةٍ لِلدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ، وَكَذَا الْقِصَصُ الَّتِي تَعِيبُ الْآخَرِينَ، وَتَسْخَرُ مِنْهُمْ، وَتُعْنَى بِتَدْبِيرِ الْمَقَالِبِ؛ بَلْ أَحْيَانًا تُدَبِّرُ الْمُفَاجَآتِ وَالْمَقَالِبَ.
وَلَمْ يَكُنْ أَطْفَالُنَا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- بِمَنْأًى عَنْ هَذِهِ الْقِصَصِ التَّافِهَةِ، بَلْ بَثُّوا لَهُمْ قِصَصًا لَا تُرَبِّي عَلَى فَضِيلَةٍ، وَلَا تَغْرِسُ قِيَمًا؛ حَتَّى أَنْتَجَتْ جِيلًا تَفَشَّتْ فِيهِ الْجَرَائِمُ، وَانْتَشَرَتْ فِيهِ الْفَوَاحِشُ، وَالْبِطَالَةُ، وَالْعُنُوسَةُ، وَازْدِيَادُ مُعَدَّلَاتِ الطَّلَاقِ، وَغَيْرُهَا، مِنْ نِتَاجِ مُسَلْسَلَاتِ الْمَاضِي الَّتِي مَجَّدَتِ التَّحَرُّرَ، وَسَفَّهَتْ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ، وَحَطَّتْ مِنْ قَدْرِ الْمِهَنِ الْبَسِيطَةِ، وَسَخِرَتْ مِنْ أَصْحَابِهَا، وَرَسَّخَتْ لِخُلُقِ الطَّبَقِيَّةِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ، وَأَعْطَتِ الْفَاسِدِينَ دُرُوسًا وَوَسَائِلَ لِارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ، وَزَيَّنَتْ لِلشَّبَابِ وَالْبَنَاتِ التَّحَرُّرَ مِنَ الْقِيَمِ، وَالتَّمَرُّدَ عَلَى الدِّينِ وَالْأُسْرَةِ!.
فَمَا أَحْوَجَنَا -أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ- إِلَى التَّرْبِيَةِ بِالْقِصَّةِ، وَأَنْ نَسُدَّ هَذَا الْجَانِبَ الَّذِي تَجْتَذِبُ لَهُ النُّفُوسَ، بَدْءًا بِالْقِصَصِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْقِصَصِ النَّبَوِيَّةِ، وَقِصَصِ السَّلَفِ؛ فَلِلْقِصَّةِ وَقْعُهَا الْكَبِيرُ فِي نَفْسِ الْمُتَرَبِّي، وَهِيَ سَبِيلٌ إِلَى تَرْبِيَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ وَانْتِفَاعِهِ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَلْفِتَ عِنَايَةَ أَبْنَائِنَا إِلَى الْبَدِيلِ الْأَقْوَمِ لِأَخْلَاقِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَفِي قِصَصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ غُنْيَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَكَفَى أَنَّهَا قِصَصُ صِدْقٍ وَحَقٍّ، كُلُّهَا عِبَرٌ وَعِظَاتٌ وَتَرْبِيَةٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم