أريد زوجا يا أبي

الشيخ سعد بن عبد الله السبر

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/قصة تزويج سعيد بن المسيب لابنته 2/ خير النساء أيسرهن مهراً 3/لا صلاح للمجتمعات إلا بالزواج 4/أمر الله المؤمنين بالتزويج 5/انتشار ظاهرة العنوسة

اقتباس

ظاهرة العنوسة امتدت لتشمل حوالي ثلث عدد الفتيات السعوديات اللاتي في سن الزواج, وأن عدد اللاتي تجاوزن سن الثلاثين قد بلغ في أواخر عام 1420 مليون و529 ألف فتاة تقريبًا. وقد قال بعض من شاركوا في عملية التعداد السكاني: "وجدنا في بعض البيوت أشياء غريبة، امرأة في الثلاثين وأخرى في الأربعين وثالثة في الستين، كلهنَّ من غير زواج". وقال آخر: "ذهبنا إلى بيت فوجدنا فيه خمس عوانس أعمارهنَّ بين الثلاثين والخامسة والأربعين"...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله سوَّانا من العدم, وروَّانا من النعم, خضعت له الخلائق من عرب ومن عجم, وله الشكر عد الكلام, وخطو الأقدام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته, جل عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, سقى الله به القلوب العطشى, ولمَّ به شمل النفوس الثكلى, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .

 

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- بتقوى الله -عز وجل-, فهي الزاد إلى الجنان, وهي النجاة من النيران (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 35].

 

أيها المؤمنون: وهناك بين جنبات الماضي ترتسم لنا صور قد خلَّدها السلف, وقد سطروها على ألواح التاريخ فجعلوا منها أنموذجا رائعا لصناعة الأجيال, فها هو كُثير ابن أبي وداعة يقول: "كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أيامًا، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها. فقال سعيد: ألا أخبرتنا فشهدناها, ثم أردتُ أن أقومَ فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله, ومن يزوّجني, وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟!. فقال سعيد: أنا, فقلت: أوَ تفعل؟ قال: نعم، ثم حمد الله وصلى على نبي الله محمد, وزوجني على درهمين.

 

فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي وجعلت أفكّر ممن آخذ وممن أستدين؟ فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي، وكنت صائمًا فقدمت عشائي وكان خبزًا وزيتًا، فإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم يُرَ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد.

 

فقمت فخرجت فإذا سعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له الرجوع عن زواجي، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إليّ فآتيك؟ قال: لا، أنت أحق أن تؤتى, فقال: إنك كنت رجلاً عزبًا لا زوج لك، فكرِهتُ أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذها بيدها فدفعها بالباب وردّ الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب ثم تقدمت إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراها.

 

ثم صعدتُ إلى السطح فناديت الجيران فجاءوني وقالوا: ما شأنك؟ قلت: ويحكم! زوّجني سعيدُ بن المسيب ابنته اليوم، وقد جاء بها إليّ على غفلة، وها هي في الدار. فنزلوا إليها في داري، فبلغ أمي الخبر فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام -تعني تزينها استعدادًا للدخول بها-.

 

قال: فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل النساء وأحفظهن للقرآن، وأعلمهن بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأعرفهن بحق الزوج، ومكثت شهرًا لا يأتيني سعيد بن المسيب ولا آتيه، فلما أن كان قرب الشهر أتيت سعيد في حلقته، فسلمت عليه فرد عليّ السلام ولم يكلمني حتى تفوّض -تفرق- المجلس، فلم يبق غيري، فقال: ما حال ذلك الإنسان؟ فقلت: خيرًا يا أبا محمد، على ما يحب الصديق ويكره العدو، فانصرفت إلى منزلي فوجه لي بعشرين ألف درهم".

 

قال عبد الله بن سليمان: "وكانت بنت سعيد بن المسيب قد خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد، فأبى سعيد أن يزوجها، وزوجها بأحد طلابه". [طبقات ابن سعد (5/138)، وحلية الأولياء (2/167)].

 

فبهذه القصة التي نثرها لنا السلف نستجمع قوانا الثائرة, وأفكارنا الشعواء, لننتشل بناتنا من سجن البيت وهاجس العنوسة, إلى استقرار نفسي وركود فكري مضطرب (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف: 189].

 

وقد سئل سعيد بن المسيب -رحمه الله- عن حديث: "خير النساء أيسرهن مهراً". كيف تكون حسناء ورخيصة المهر؟ فقال سعيد: "يا هذا انظر كيف قلت؟ أهم يساومون في بهيمة لا تعقل؟ أتراها بضاعة طمع صاحبها يغلب على مطامع الناس". (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) [النساء: 1].

 

وقد قال الحكماء: "العجلة في خمسة أشياء محمودة هي: الكريمة إذا خطبها الكفء, وفي الميت حتى يدفن, وفي عيادة المريض, وفي الصلاة إذا دخلت حتى تؤدى, وفي الضيف إذا نزل حتى يعد له الطعام" .

 

وقال -سبحانه-: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور: 32]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "هَذَا أَمْر بِالتَّزْوِيجِ, وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى وُجُوبه عَلَى كُلّ مَنْ قَدرَ عَلَيْهِ..". وقد أخرج أحمد وابن ماجة والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ".‏

 

فهاهي الآيات تصبُّ وبلاً من الترغيب في النكاح, فلا صلاح للمجتمعات إلا بالزواج ولا استقرار للنفس من عبء الدنيا إلا الزواج (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21], ولكن القلوب مازالت صماء مع سماع الحقيقة .

 

ففي السعودية: أكدت إحصائيات صادرة عن وزارة التخطيط هناك، أن ظاهرة العنوسة امتدت لتشمل حوالي ثلث عدد الفتيات السعوديات اللاتي في سن الزواج, وأن عدد اللاتي تجاوزن سن الثلاثين قد بلغ في أواخر عام 1420 مليون و529 ألف فتاة تقريبًا.

 

وقد قال بعض من شاركوا في عملية التعداد السكاني: "وجدنا في بعض البيوت أشياء غريبة، امرأة في الثلاثين وأخرى في الأربعين وثالثة في الستين، كلهنَّ من غير زواج". وقال آخر: "ذهبنا إلى بيت فوجدنا فيه خمس عوانس أعمارهنَّ بين الثلاثين والخامسة والأربعين".

 

ومن مصر: أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر أن عدد المصريين الذين بلغوا سن الخامسة والثلاثين ولم يتزوجوا بعد، قد بلغ 8 ملايين و962 ألف، منهم نحو 4 ملايين امرأة. وأما عدد الذين بلغوا سن الزواج ولم يتزوجوا فقد تخطى الـ13 مليونًا.

 

وفي الكويت: قد تندهش عندما تعلم أن نسبة العنوسة هناك تقترب من 30% حسب بعض الإحصاءات الرسمية.

 

وأما في الإمارات: فقد ذكرت جريدة المدينة المنورة، أن نسبة العنوسة في الإمارات قد بلغت نسبتهم 30% , وتقول الإحصاءات أن النسبة في قطر مثل ذلك أو تزيد عليها.

 

وفي أكثر بلاد المغرب وسوريا والشام ارتفع متوسط عمر الزواج عند الرجال إلى 33 سنة، وعند النساء إلى 29 أو ثلاثين سنة، نتيجة لكثرة تكاليف الزواج وقلة ذات اليد، هذا إذا وجدت المرأة من يتقدم لها، وإلا ركنت على رف الخارجات عن الخدمة، وانضمت إلى صفوف العنس لتزيد الأرقام رقمًا.

 

فهذه خريطة الفتيات والبنات اللواتي انخرطن بين سجن المنزل من أجل راتب مقيت, أو وجدت لها رفيقا يساورها بعد فشلها في الزواج فهي بين اثنين:

 

وقالَ أُصَيحَابي الفِرارُ أو الرَّدَى *** فَقلتُ هُما أَمرانِ أَحْلاهُمَا مُرَُّ

 

فهل لتلك الغشاوة الرمادية, وتلك العقول العمياء من أن تفيق من سباتها العميق فالخطر بات مُحْدِقاً في قعر بيوتنا, وأعداءنا يتداعون علينا كما تتداعى الأكلَة على قصعَتهَا .

 

 

 

المرفقات

زوجا يا أبي

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات