اقتباس
فكثير من الخطباء لا يحضرون خطبة الجمعة إلا ليلة الجمعة؛ بل ربما صبيحة الجمعة، فلا يستغرق إعداد المادة العلمية في خطبة الجمعة إلا نذرًا يسيرًا من الوقت، مما يعني النذر اليسير من الفائدة.
للخطبة في الإسلام منزلة عظيمة؛ فهي شعيرة من شعائر الإسلام العظام، وعبادة يتقرب بها المسلمون إلى الله، ومنها يتعلمون ويتعظون، ويجتمعون فيتذكرون وينتفعون، وصدق الله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات:55].
وخطبة الجمعة تعد من مزايا هذه الأمة؛ حيث يجتمع المسلون أسبوعيًا في المساجد للاستماع إلى الخطيب، وهي فرصة عظيمة للانتفاع من هذه المناسبة الأسبوعية حين تعطى حقها من الاهتمام من طرفي الخطبة؛ الخطيب والسامع، ومن هنا وجب على الدعاة والخطباء إيلاء خطبة الجمعة ما تستحقه من اعتناء واهتمام بالغ، وملء وقت الخطبة بالنافع المفيد، واغتنام هذه المناسبة بشكل إيجابي بنّاء يخدم الأمة جمعاء.
إن خطبة الجمعة رسالة مؤثرة غاية الأثر في المجتمع المسلم، وهي خطاب أسبوعي يلتزم بحضوره كل مسلم، فكما أنه واجب على المسلمين الحضور لأداء صلاة الجمعة والإنصات للخطبة، فإنه واجب على الخطباء الإحسان في أداء خطبة الجمعة، امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"(1).
ومن الإحسان في خطبة الجمعة جودة التخطيط والإعداد لها، ومواكبة الواقع للمجتمع، فإن الإعداد الجيد والتخطيط المتميز للموضوعات هو عنوان النجاح، وهو الذي يجعل رسالة المسجد بالغة التأثير.
وتُعَدُّ الخطبة من أمثل أنواع الدعوة وأكثرها تأثيرًا في المدعوِّين، وخاصَّةً إذا قام الخطيب بواجبها وآدابها، وأدرك ما لها من الدور في التوجيه والتربية، والسببُ يعود إلى أمور، منها:
1- التزام المسلمين، باختلاف شرائحهم ومذاهبهم، بآدابها وسننها، ولو بشكل عام؛ مثلَ: الإنصات، والحضور المبكر، والإصغاء التام لما يقوله الخطيب، وإن ليوم الجمعة المكانة الرفيعة في قلوبهم ونفوسهم.
2- حضور المسلمين وتركهم لأعمالهم؛ امتثالًا لقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)[الجمعة:9].
3- احترام الناس لشخص الخطيب، وتقديرهم له وما يصدر عنه، واعتبار أن ما يقوله ويدعو إليه أقرب إلى الصواب.
4- فرصة عظيمة للاجتماع بالمسلمين، وتوجيه النصح والإرشاد لهم، وذلك حين يعطي الخطيب للخطبة حظَّها من الاهتمام والرعاية، والمستمع حظَّها من الإنصات والإصغاء.
أخطاء في الخطابة:
ومن هنا وجَبَ على الخطيب أن ينتبه إلى أخطائه، إن وجدت، ويحاول تقويمها ومعالجتها، وألا يُصرَّ على خطئه؛ لما له من الأثر السلبي على مَن ينصحهم ويرشدهم، وسواء كانت تلك الأخطاء قولية، أو فعلية، أو شكلية.
والملاحظ أن بعض الخطباء مع أهمية الخطابة، ودورها الفاعل في التوجيه والتربية، وتقويم أخطاء المدعوِّين، فإنهم يهملون الكثير من آدابها وسننها، والتزام الأسلوب الأمثل فيها؛ مما يعرِّضهم إلى الوقوع في أخطاء تفوِّت عليهم ثمرة الخطبة.
ومن الملاحظ -أيضًا- أن بعض المنابر غدت محلًا للتجارب، فما عاد الخطيب يهتم بمواعظه وخطبه، فلا يلتزم بفن الخطابة، ولا يراعي أحوال مَن يخطب فيهم، ولا يهتم ويلتزم بمظهره وهندامه؛ ولذا أصبح هؤلاء، في بعض الأحيان، عبئًا ثقيلًا على السامعين، لا يجدون مفرًّا من الحضور إليهم، والاستماع إلى خطبهم.
وإليكم بعض الأخطاء، والتي نأمل من عرضها أن يطَّلع الخطيب عليها، ويحاول، بقدر الإمكان، أن يقوِّم أخطاءه، ويرتب أوراقه؛ حتى يكون له الأثر العظيم في الارتقاء بنفسه وبمن يدعوهم.
وتركيزنا على أخطاء الخطباء لا يعني خلوَّ الأمة من خطباء يجيدون فن الوعظ؛ فهناك خطباء تأنس الأسماع لحديثهم، وتنبسط النفوس لكلامهم، ويجد المستمع أثرًا واضحًا في حياته، ويلمس تغييرًا في واقعه وأفعاله بعد خروجه من المسجد أو الجامع.
ومن هذه الأخطاء:
أولًا: توظيف الخطبة في الصراع الشخصي:
المقصود من الخطابة هو: إقامة ذكر الله، وحث المدعوين على عمل الخير، وترك الشر؛ من خلال الترغيب في الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة، وما أعد الله للمؤمنين من الجزاء الحسن في الآخرة، والترهيب كذلك من الأعمال السيئة المؤدية لدخول النار، وحلول النقم والفساد في الأرض، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، أو الجدال بالتي هي أحسن، والدليل على ذلك قول الله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل:125].
ولم تُشرَع الخطبة لأجل الخصومات الشخصية، أو نشر المساوئ على المنابر، أو إدخال المدعوين في دوامة من الصراع القبلي أو المذهبي، أو طرح الخلافات بين علماء الأمة وفقهائها، أو نشر أخطائهم، كل ذلك ونحوه يُعَدُّ خارجًا عن إطار الخطبة وما شُرعَتْ له، وخارجًا عن مقصودها وهدفها الأسمى؛ من إيقاظ الناس من غفلتهم، ودعوتهم إلى الحق بالحكمة والأسلوب الأمثل؛ انطلاقًا من سيرة سيدنا الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ودعوته السمحة الزكية، المتمثلة في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل:125].
قال الإمام ابن القيم: "كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكرِ الجنة والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته؛ فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفةً بالله وأيامه"(2).
ومن تأمَّل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب -جل جلاله-، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم.
ثانيًا: غياب الإعداد الجيد:
فكثير من الخطباء لا يحضرون خطبة الجمعة إلا ليلة الجمعة؛ بل ربما صبيحة الجمعة، فلا يستغرق إعداد المادة العلمية في خطبة الجمعة إلا نذرًا يسيرًا من الوقت، مما يعني النذر اليسير من الفائدة.
ومن أسباب عدم التحضير الجيد أن الخطباء لم يتدربوا في الكليات الشرعية على كيفية التحضير والتجهيز لخطبة الجمعة، فليست هناك دورة في الإعداد لخطبة الجمعة، وليست هناك ورشة عمل لخطبة الجمعة، وغالب الخطباء الذين تخرجوا من الكليات الشرعية يدرسون قرابة خمسة عشر عامًا أحيانًا؛ لكنه رغم كثرة السنوات التي درسها فهو لم يعتلِ منبرًا، ولم يمارس الخطابة وهو في مرحلة الطلب، ويفاجأ أنه بعد تخرجه قد تعين إمامًا وخطيبًا، فيتعلم في الناس، ولا يدري من أين يبدأ، ومن تميز فيهم بعد ذلك فباجتهاد شخصي، ولكثرة الممارسة فيما بعد، وقليل ما هم.
ثالثًا: الجهل بالمراجع والمصادر:
فمن الخطباء، رغم دراسته في الكليات الشرعية، ليست عنده مكتبة جيدة، وإن كان عند البعض مكتبة؛ لكنه لا يدري أي كتاب يأخذ منه، وإن أراد معلومة لا يعرف من أين يستقيها من أمهات الكتب، وأقرب شيء هو أن يبحث عن خطبة قديمة قالها، أو خطبة جاهزة من كتاب سابق، أو يبحث في الإنترنت عن عنوان خطبة، فتكون منقولة ليس فيها روح الواقع، ولا يظهر فيها بصماته الشخصية.
رابعًا: انفصال الخطبة عن قضايا الأمة والمجتمع:
فكثير من الخطب التي تلقى على مسامع المسلمين مكررة، جافة، تفقد روح النصوص ورونقها، ولا تنزل الآيات على واقع المجتمع والأمة؛ بل تكون بعيدة كل البعد، ففي الوقت الذي تحصل فيه بلبلة في المجتمع في قضية من القضايا، فينظر الناس الخطيب مرشدًا لهم، كاشفًا لهم عن وجه الشريعة في القضية، تجد الخطيب يتكلم في واد والناس في واد آخر، فتنفك خطبة الجمعة عن مقصدها ووظيفتها من بيان الحق في قضايا الساعة، من غير تحيز ولا تحزب؛ بل إظهارًا للحق، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[آل عمران:187]، فمن الواجب أن تلتحم خطبة الجمعة مع واقع الناس، وأن تكون معبرة عن قضاياهم واهتماماتهم، فتكون لها قيمة أكبر في نفوس المصلين.
خامسًا: تطويل الخطبة:
ومن المنفرات من خطبة الجمعة أن طائفة من الخطباء لا يحلو لهم إلا أن يطيلوا على الناس الخطبة، ولو كان المسجد صغيرًا ضيفًا، ولو كان الجو صيفًا والناس يتصببون عرقًا، فهو لا يشعر بما يشعر به الناس، ويطيل إطالة ممقوتة، فيها نوع من الاستطراد والتكرار الممل، فيكرر المعنى الواحد بجمل متعددة، ويكثر الإنشاء من الكلام، ويقل في خطبته الآيات والأحاديث والآثار، ظانًا منه أنه يفهم الناس أكثر، ولو أردنا أن نلخص الخطبة التي تقترب من الساعة لاختصرناها في خمس دقائق على أكثر وجه؛ مما يدفع الناس إلى التأخر عن سماع الخطبة، ويكتفي أن يدرك الخطبة الثانية والصلاة.
قال بعض الأدباء: "للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن قدر الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه"(3).
لكن ينبغي للخطيب، وهو يراعي مجانبة هذا العيب، أن يجانب أيضًا الوقوع في ضدّه، وهو القصر المخل، وخير الأمور الوسط، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا"(4).
سادسًا: ضعف أسلوب الخطبة:
يشعر الإنسان أحيانًا أنه مجبر لسماع خطبة الخطيب، فلا يجد فيها معلومة جديدة، ولا أسلوبًا جيدًا؛ بل يتخبط الخطيب في أسلوبه، فلا إدراك للتراكيب اللغوية، ولا مراعاة للقواعد اللغوية، فإذا به يرفع المنصوب، ويجر المرفوع.
والواجب على الخطيب أن ينمي مهاراته اللغوية، وأن يدرب نفسه على التحدث باللغة العربية الفصحى اليسيرة، التي تكون بعيدة عن التقعر اللغوي، وهي في ذات الوقت تحافظ على النسق اللغوي، وقواعد اللغة وجمالها.
وأن يطعم الخطبة ببعض الشعر والأدب، وبعض الحكم والفوائد، حتى يزين خطبته بأسلوب عربي مبين.
إلى هنا وإلى أن نلتقيكم في المقالة الثانية بإذن الله -تعالى-.
(1) أخرجه مسلم (1955).
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد، ص39.
(3) البيان والتبيين (1/ 99).
(4) أخرجه مسلم (866).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم