عناصر الخطبة
1/ وجوهُ شَبَهٍ بين بدرٍ وعشر 2/ عِبَرٌ وآيات من واقعة بدر 3/ مَشَاهِدُ من بدر 4/ فضائل عشر رمضان الأخيرة 5/ الهدي النبوي في العشر الأخيرةاقتباس
وليست الغاية مجرد قصة تُقَصُّ لتنسى بعد ذلك، أو أخبار تذكر لتضمر، أو وقائع تروى فيغفل عنها بعد ذلك وتطوى؛ وإنما المراد من القصص أخذ العبرة، نسجا للنفس على منوالهم، واقتفاءً لجميع آثارهم، وتثبيتاً للنفس ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أذكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: تأتي خطبتنا اليوم ما بين بَدْرٍ وعَشْرٍ، بَدرٌ كان فيها الفداءُ والعِشق، وعَشرٌ فيها العطاءُ والعتق، بدرٌ جديرة بالذِّكْرِ والاعتبار، وعشْرٌ مليئةٌ بالأنوار والأسرار، بدر سماها الله بيوم الفرقان، وعَشْرٌ أنزَلَ الله فيها الفرقان.
بدرٌ امتَنَّ الله فيها على المسلمين بالنصر: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) [آل عمران:123]، وعشر ذكرها الله تحت عنوان الشرف والقدر: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1].
بدر أنزل الله فيها الملائكة على المسلمين لِشَدِّ الأَزْر، وعشرٌ (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:4].
فما هو إذاً إلا تقلُّبٌ بين فضلٍ وفضلٍ، وانتقالٌ من روضة إلى روضة، قال الله -جل في علاه-: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) [إبراهيم:5]، أيام مِنَنِه المؤيدِّة، ومَثُلاته المسدِّدة، أيام الذكريات المثبِّتة، التي تعيد للقلب عافيته من سكرة ما عراه، وتعيد للدين في قلب المسلم عُراه، وتمدُّك بنفح يجلو عنك الضير، ويُرجّيك ويؤمِّلك في غدٍ تتنقل فيه الأمة من مجرد الذكرى إلى واقع التذكر، اقتداء بالأسلاف الأماجد، الذين لما التزموا الدين منهج حياة رفع الله ذكرهم، وشرح صدورهم، ونوّر أخبارهم، وطهر سيرهم.
وليست الغاية مجرد قصة تُقَصُّ لتنسى بعد ذلك، أو أخبار تذكر لتضمر، أو وقائع تروى فيغفل عنها بعد ذلك وتطوى؛ وإنما المراد من القصص أخذ العبرة، نسجا للنفس على منوالهم، واقتفاءً لجميع آثارهم، وتثبيتاً للنفس. يقول ربنا: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) [يوسف:111]، وقال: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120].
وما أحوجنا -معاشر الكرام- إلى العبرة والتثبيت في زمن الغفلة والتثبيط! الغفلة الحاصلة منه، والتثبيط الواقع والمفروض عليه، وكلاهما مترابط ترابط المسيرة التاريخية لصراع الحق والباطل.
ولن نذكر واقع بدر من شقها السردي أو التاريخي، فهذا أمر مبسوطٌ في كتب السير والمغازي، ولكن سنحاول أن نقتطف بعض الدرر، ونصطاد بعض العبر، التي تصل بنا إلى مقام التذكر والذكرى.
والذكرى لابد لها من قلب حاضر مع البينات، متلقٍّ للعبر والمواعظ والآيات، قلب عند منابع الخيرات قعيد، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
أول هذه العبر أن الكفار وأذنابهم يسوءهم ويغيظهم أن ترتفع راية الإسلام، وأن يشعر أهله بالأمان؛ بل إنهم يحسدون المسلمين على هواء نقي يتنفسونه، أو أكل هنيء يأكلونه، وهذه حالهم منذ قام الصراع بين الحق والباطل إلى يومنا هذا، فكفار اليوم هم أبناء كفار الأمس، ومنافقو اليوم ورثوا النفاق صاغرا عن صاغر.
فعندما استقر المسلمون بالمدينة وارتاحوا واطمأنوا أرسلت قريش إليهم تقول: لا يغرنكم أنكم أفلتُّم منا إلى يثرب؛ سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم!.
من العبر -كذلك- تحقيق الصحابة -رضوان الله عليهم- في معنى الولاء الكامل لسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا بأس عندهم أبدا في أن يقدموا الأرواح في سبيل رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إنه صدق الاتباع تنبئ عنه مواقف هؤلاء الكرام حين استشارهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسألة الخروج لمواجهة الكفار، فقام المقداد بن عمرو -رضي الله عنه- فقال: "يا رسول الله، اِمْضِ لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك مَن دونه حتى تبلغه"، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خيرا، ودعا له به.
ثم قام سيد الأنصار سعد بن معاذ فقال: "فاظعن حيث شئتَ، وصِل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله! لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك!".
الله أكبر! حب وولاء، وصدق وانتماء.
أين هذا من الضعف والتردي والانهزامية التي غزت قلوب كثير من المسلمين اليوم، تُحارَب سنته -صلى الله عليه وسلم-، ويُغْفَل عنها، وتُترَك من أجل اللهو والعبث والفراغ؛ إذا تعارضت سنته -صلى الله عليه وسلم- مع مباراة كرة قدم مثلا قُدمت المباراة! إلّا مَن سلمه الله ونجاه، وأقامه على بابه وحلّاه.
من دروس وعبر هذه الموقعة المباركة تأصيل مبدأ الشورى من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا درس لكل المسلمين، حكاما ومحكومين، وذلك أنه لما نزل -صلى الله عليه وسلم- بدراً قال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلٌ أنزلك الله إياه ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".
قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءِ القوم فننزل ونغوّر ما وراءه -أي: نخرب الآبار-، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
فقال له -صلى الله عليه وسلم- في تواضع العظماء، وعظمة المتواضعين: "لقد أشرتَ بالرأي"، فنهَض -عليه الصلاة والسلام- بالجيش، حتى أتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه شطر الليل.
واتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- له عريشا على تل مرتفع بالشمال الشرقي في ميدان القتال، ثم عبأ -صلى الله عليه وسلم- جيشه، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، هذا مصرع فلان" ويحدد مصارع القوم.
من العبر -كذلك- من هذه الموقعة أن العبد مطالب بالأخذ بالأسباب، فإن أخذ بها فإنه مطالب بعد ذلك بالدعاء والتضرع إلى الله رب الأرباب، فترك الأخذ بالأسباب بابٌ فيه إغفال لجانب الإعداد، والاستعلاء عن الدعاء فيه قطع لخيط الإمداد، وكلاهما دليل انطماس البصيرة، فقد بات -صلوات ربي وسلامه عليه- ليلة المعركة -وهو الموصول بالله- يصلي إلى جزع شجرة، ويتضرع، ويبكي، ويناجي ربه، حتى أشفق عليه الصديق -رضي الله عنه- قائلا: "هون عليك يا رسول الله، فإن الله سينجز لك ما وعدك".
يدعو ربه ويبتهل ويقول: "اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرَك الذي وعدتَّني، اللهم فاحنهم الغداة"
ثم انتقل -صلى الله عليه وسلم- ليمارس دور القائد العسكري، فأخذ يعدل الصفوف بقِدْحٍ كان في يده، بعصا أو سهم، وفي هذه الأثناء يحصل مشهد عجيب، ففي أثناء تسويته للصفوف رأى سواد بن غزية -رضي الله عنه- خارجا عن الصف، فضربه -صلى الله عليه وسلم- على بطنه قائلا: "اسْتَوِ يا سواد"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- فعل هذا لأن المقام مقام انضباط ونظام.
فقال سواد:"يا رسول الله، لقد أوجعْتَنِي، فأقِدْني من نفسك"، أي: مَكِّني منك أقتص منك، فقال -صلى الله عليه وسلم- بعد أن كشف عن بطنه: "اقتص يا سواد"، خذ قصاصك، فاعتنقه سواد وهو يبكي ويقبل بطنه، فقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما حملك على هذا يا سواد؟". قال:"يا رسول الله، قد حضر ما ترى من مشاهد الموت، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك الشريف يا رسول الله" فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخير.
لا إله إلا الله! أي حب في قلوب هؤلاء الكبار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ لم تُنسهم مشاهد الموت حبهم لحبيبهم -صلى الله عليه وسلم-، إنه مشهد عظيم من مشاهد الالتحام .
مشهد آخَر من مشاهد الحب والالتحام، وهو درسٌ للخاص والعام، يقول عبد الرحمن بن عوف: "إِنِّي لَقَائِمٌ يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ غُلامَيْنِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ لَوْ أَنِّي بَيْنَ أَضْلُعٍ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ, أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ فَقُلْتُ: وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ فَقَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ رَأَيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ وَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ تَرَجَّلَ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلانِ عَنْهُ. فَابْتَدَرَاهُ، فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلاهُ".
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص عمله لله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم المنان، الرحيم الدائم الإحسان، أكرم المسلمين بشهر رمضان، وفتح لهم به من فرص المغفرة ما يعجز عن عَدِّه اللسان، والصلاة والسلام الأتَمان الأكملان، على أكرم إنسان، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيه بإحسان، إلى يوم يقف العباد بين يدي الواحد الديّان.
معاشر الصالحين: إنها مواقف تنبئ عن عظمة هذا الجيل، جيل الصحابة، الذي تربى في رياض القرآن، فهذان فتيان صغيران دفعهما حبهما لسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرتهما عليه فاندفعا لقتل فرعون هذه الأمة أبي جهل.
ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهما: "أيكما قتله؟" فقال كل واحد منهما: أنا قتلتُه. فقال: "هل مسحتما سيفكما؟". فقالا: لا، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السيفين فقال: "كلاكما قتله". والفتَيان هما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء -رضي الله عنهما-.
يا لها من مواقف لو تربى عليها أبناء الأمة لتنسمنا نسائم العزة، ولذقنا حلاوة القيادة! ولكن؛ عسى الله أن يمن على الأمة برجعة صادقة إلى هذه المعاني حتى يتبين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
ومن مشاهد الالتحام إلى مشاهد الاقتحام، فهذا سيدنا عمير بن الحمام يسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا ادخله الله الجنة؛ قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". فقال عمير بن الحمام: "جنةٌ عرضها السماوات والأرض! بَخٍ بَخٍ!"، وأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: "لَئِنْ أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة" ،فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل. رضي الله عنهم وأرضاهم، ورزقنا حبهم، وأقامنا على نهجهم وطريقتهم.
معاشر الصالحين: بما أننا على مشارف العشر الأواخر من هذا الشهر الزاهر فإن المقام يقتضي منا التنبيه على فضيلتها، وما ينبغي للمؤمن أن يتحراه فيها، وذلك حتى لا تفوته نفحاتها القدسية، ولحظاتها النورانية.
ومن ذلكم ما جاء في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
وفي صحيح مسلم عنها -أيضا- قالت: "كان -عليه الصلاة والسلام- يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهد في غيرها"، أي: كان -عليه الصلاة والسلام- يخص خاتمة هذا الشهر بأعمال لا يعملها في العَشر الأولى ولا والوسطى، وفي ذلك إشارة إلى عظيم معرفته بربه ومقامه أولا؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فأنت عندما تجتهد في هذه العشر أكثر من غيرها فإنك تُري الله من نفسك أنك ستفارق هذا الشهر وأنت مرتبط به لم يصبك ملل ولا كلل.
ثم إن المتسابق إنما يرفع من وتيرة سباقه عند اقترابه من خط النهاية، ونحن -يا عباد الله- أُمرنا بالسباق في ميادين الخيرات، قال -تعالى-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد:21].
وبين يديك -أخي المؤمن- هذه العشر، وهي ميدان عظيم من ميادين السباق، فلا تدع أحداً يسبقك إلى الله، أنجِز ولا تعجَز، وبادر قبل أن تغادر.
قلنا إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهد في غيرها. من ذلكم: إحياؤه الليل، ونعني به: تطويل تهجده والزيادة فيه؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل العشر شمر وشد المئزر، ورجح جمع من الأئمة الأعلام أن المراد بإحياء الليل في العشر إحياء غالبه ومعظمه؛ لقول عائشة -رضي الله عنها- وهي من أعلم الناس بحياة رسول الله الخاصة، قالت: "ما أعلمه -صلى الله عليه وسلم- قام ليلة كاملة حتى الصباح".
ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر: "إيقاظه لأهله"، زوجه وولده، ذكرانهم وإناثهم، فقد خرج الإمام الطبراني من حديث علي -رضي الله عنه- أنه كان -عليه الصلاة والسلام- يوقظ أهله في العشر الأواخر، وكل صغير وكل كبير يطيق الصلاة من أهله.
وكيف لا يفعل ذلك وهو المتمثل لقول ربه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]؟.
وهذا الأمر يفرّط فيه الكثير من المسلمين -مع الأسف!- فالكثير منهم تمتلئ بهم المساجد في صلاة التراويح أو في صلاة الفجر أو غيرها وأبناؤهم وأهلهم في اللهو غارقون، أو في النوم مغيبون، أو مع المسلسلات منشغلون، ولا يأمر ولا يزجر ولا يحث أهله على عدم إضاعة هذا الفضل العظيم، وهذا لا يليق أبداً بمن تلقى هذا الخطاب الرباني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [طه:132].
روي أن سيدنا عمر -رضي الله عنه- سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهالينا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "تنهوهن عما نهاكم الله عنه، وتأمروهن بما أمركم الله به، فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار".
وجاء في الموطأ أن سيدنا عمر -رضي الله عنه- كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله، يقول لهم: "الصلاةَ الصلاةَ!"، ويتلو قول الله: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه:132].
من هديه كذلك -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر شدُّ مئزره، والصحيح في معنى ذلك اعتزاله نساءه، وبهذا فسره العلماء من أئمتنا، وقد ورد صريحا في حديث أمنا عائشة -رضي الله عنها- أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل العشر طوى فراشه واعتزل النساء؛ وذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان غالبا ما يعتكف العشر كلها، والمعتكف ممنوع من قرب النساء بالنص والإجماع، يقول ربنا: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) [البقرة:187].
من هديه كذلك -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر: الإكثار من الغسل والتطيب باستعمال أحسن أنواع الطيب، فقد ورد أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يغتسل بين أذاني كل عشائين في العشر الأواخر، يعني يغتسل يوميا بين المغرب والعشاء.
قال ابن جرير: "وكان السلف يستحبون الغسل كل ليلة"، وكان الإمام النخاعي الفقيه يغتسل في العشر الأواخر كل ليلة، ويتطيب، وهذا الطيب، أي: استعماله، هو للرجال فقط، أما النساء فلا يجوز لهن -أي: اللواتي يحضرن لصلاة الجماعة- أن يتطيبن، إذ السُّنَّة في حقهن أن يخرجن تَفِلات، يعني غير متطيبات، وذلك دفعا للفتنة بهن.
ولا يكمل تزيين الظاهر -إخوة الإيمان- إلا بتزيين الباطن بالتوبة والإنابة وترك العصيان، فإن تزيين الظاهر مع خراب الباطن يعد نفاقا ومقتا مبينا، يقول ربنا: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف:26].
ألا فاستغلوا هذه العشر، وبادروا فيها إلى كل أجر، فربما تصادفون فيها ليلة القدر، فيغفر الذنب ويوضع الوزر، فيسعد من أحياها، وبيَّضَ بالإخلاص محياها.
يا واقفًا في مقامِ التَّحيُّر: هل أنتَ على عزمِ التغيُّر؟! إلى متى ترضى بالنُّزول في منزل الهَوان؟
هل مضى من عمرِك يومٌ صالح سلمتَ فيه من جرائمِ القبائح؟! تالله لقد سبق المتقي الرابح، وأنت راضٍ بالخسران!.
عينك مطلقةٌ في الحرام، ولسانك منبسطٌ في الآثام، ولأقدامك على الذنوبِ إقدام، والكل مثبت في الديوان، قلبك غائب في صلواتِك، وفكرك غارق في شهواتك، فإن ركن إليك راكن في معاملاتِك، دخلتَ به خانة مَنْ خان.
يا هذا، أكثرُ كلامِك لهو وهَذَر، والوقت بالتفريطِ شَزَرَ مَزَر، فإن تغتبْ مسلمًا لم تُبقِ ولم تذر، الأمانَ منك الأمان!.
تالله لو عقلتَ حالَك، أو ذكرت ارتحالَك، أو تصورت أعمالَك، لبنيتَ بيتَ الأحزان، سيشهد رمضان عليك، بنطقِ لسانك، ونظر عينيك، وستسمع يوم الجمع: شقِيَ فلان، وسعد فلان.
كلِّ لحظة تقربُك من قبرِك، فانظر لنفسِك في تدبير أمرِك، فإن كان في الماضي قد قبح الوصف فقم الآن.
اللهم أصلح أحوالنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم