أحوال يوم القيامة

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-06 - 1436/03/15
عناصر الخطبة
1/ تأملات في مشاهد يوم القيامة 2/ عظم الحسرة بسبب استيلاء الغفلة 3/ أحوال الناس في الآخرة 4/ الحث على العمل الصالح 5/ أكثر الناس لم يدخل الإِيمَان بالْيَوْم الآخر في قُلُوبهم.

اقتباس

انتبهوا من رقدتكم، واستدركوا بقية أعماركم، واحذروا الانهماك في دار الغرور، فالويل لكم إن أدرككم الموت وأنتم على هذه الحالة، زينتم الفلل والقصور ونسيتم القبور، اذكروا القبر وظلمته ووحشته، والموت وسكرته، والميزان وخفته أو رجحته، والكِتَاب وأخذته، والصراط ودِقته، والموت وسكرة في سكرة، وحيرة في حيرة، وجذبة يا لها من جذبة، وكُربة يا لها من كربة، فالمسكين يكابد غُصص المنون، داهش العقل كالمحزون. أفيقوا من سكراتكم، وانتبهوا من نوماتكم، واستيقظوا من غفلاتكم، قبل مفاجأة المنية وحلول الرزية ووقوع البلية، حيث لا مال ولا ولد نافع، ولا حميم شافع، ولا فرح واقع، ولا رجَاءَ طامع، ولا حسنة تُزاد، ولا سيئة تُحذف، ولا حياة تعاد، ويزودك أحبابك بالحزن عَلَيْكَ والبُكَاء، فلا عثرة تُقال ولا رجعة تُنال...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى :

 

إن الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: جَاءَ في اْلكِتَاب والسنة أن الله يجمَعَ الأولين والآخرين في صعيد واحد، يُسمعهم الداعي، ويُنفذهُم البصر، لا يغيب منهم أحد، وتدنو مِنْهُمْ الشمس، ويُلجمهم العرق هَذَا الْيَوْم، وهُوَ الْيَوْم الَّذِي (تَذْهَلُ فيه كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 2].

 

في ذَلِكَ الْيَوْم يبلغ الأَمْر من الحيرة والدهشة والاضطراب والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الَّذِي فمُهُ في ثديها وَهُوَ أعز شَيْء لديها فَكَيْفَ بالذهول عما سواه، وتُسقط الحوامل من الفزع والرعب والروع ما في بطونها من الأجنّة قبل التمام، وَتَرَى النَّاسَ كأنهم سُكَارَى من شدة الروع والفزع والخوف الَّذِي صيّر من رآهم يُشَبّههم بالسكارى لذهاب عقولهم من شدة الخوف كما يذهب عقل السكران من الشراب: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)[النازعات: 6- 7].

 

تَكُون الأرض كالسَّفِينَة في البحر عِنْدَ اضطراب الأمواج تكفأ بأهلها. فيميد النَّاس على ظهرها ويتساقطون من شدة الأَمْر وبلوغه أقصى الغايات، ولهَذَا أذهل العقول وأذهب التمييز والفكر، إنه يوم القيامة: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) [الزلزلة: 1- 2].

 

إنها لهزة عنيفة للقُلُوب الغافلة حيث تَرجُف الأرض الثابتة ارتجافًا وتُزَلزل زلزالا، وتَنفض ما في جوفها وتُخرِجَ ما يُثقلها من أجساد وكنوز وغيرها مِمَّا حملته طويلاً، وَهُوَ مشهد يهزُ كُلّ شَيْء ثابت، فالأرض تهتز والسماء تمور.

 

إنه لمشهد مجرد تصوره يخلع القُلُوب، يُري الإِنْسَان ما لا يعهد، ويواجه ما لا يدرك، ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه ولا السكوت عَنْهُ: (وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا)[الزلزلة: 3]. ما الَّذِي يزلزلها هكَذَا ويرجها رجًا؟!

 

 وكأنه من شدة ما نزل يتمايل على ظهر الأرض ويتشبث ويحاول أن يمسك بشَيْء لعله يَثبُتْ لأن كُلّ ما حوله يمور مورًا شديدًا قَدْ امتلأ من الرعب والفزع والدهشة والعَجَب. يرى الجبال وهي تسير: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [التكوير: 3]، هذه الجبال وقَدْ نُسفت وبُست وراءها ذرات في الهواء: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً)[الواقعة: 5- 6] (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً) [طه: 105]، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً) [النبأ: 20].

 

هنا يشاهد ويواجه الحشر والحساب والوزن والجزاء ويقف جبريل عَلَيْهِ السَّلام والملائكة صفًا بين يدي الرحمن: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً)[النبأ: 38]، (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)[هود: 103- 105]، (وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)[الفجر: 22].

 

أيها المسلمون: وموقف هؤلاء المقربين خاشعين خاضعين لعظمة الله: (وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً)[طه: 108]، (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)[طه: 111].

 

موقفهم هكَذَا صامتين لا يتكلمون إِلا بإذن من الرحمن، يُلقي في النفس الرهبة والرُعب والفزع من ذَلِكَ الْيَوْم العَظِيم الَّذِي ينكشف فيه كُلّ مستور ويُعلم فيه كُلّ مجهول. وتقف فيه النفس أمام ما أَحضرت من الرصيد والزَادَ في موقف الفصل والحساب: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ) [يونس: 30]، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)[آل عمران: 30]، (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) [النبأ: 40]، (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) [النور: 25].

 

في ذَلِكَ الْيَوْم يكون التغير العَظِيم الشامل للمعهودات، السماوات والأرض، الشمس مُكورة، والنجوم منكدرة، والسماء مُنشقة، والوحوش النافرة محشورة، والأنعام والطيور والعشار مُعطلة: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)[القيامة: 7- 10]، (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَت) [الانفطار: 1- 4]، (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً)[الفرقان: 25]، (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) [الرحمن: 37].

 

هذه الآيات وأمثالها تشير إلى ذلك الحادث الهائل في الكون كله، ولا يعلم حقيقته إِلا الله، إنه حادثٌ عَظِيم ترجُف الأرض منه وتخاف وتنهار، فَكَيْفَ بالخلق الضعاف المهازيل الَّذِينَ تهزهم الصواعق هزًا وتخلع قُلُوبهمْ خلعًا: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً، السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ)[المزمل: 18] (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)[المزمل: 14].

 

وفي وسط هَذَا الرعب والخوف والقلق والفزع والذهول والانقلاب، يتساءل الإِنْسَان المذعور أين المفر؟ ويدور ذَلِكَ في سؤاله وكأنما ينظر في كُلّ اتجاه فإذا هُوَ مسدود دونه مأخوذ عَلَيْهِ ولا ملجأ ولا محيص ولا مَنفَذ ولا وقاية من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه والمصير والمستقر عنده: (كَلَّا لَا وَزَرَ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)[القيامة: 11- 12] (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض فَانفُذُوا) [الرحمن: 33].

 

ففي هَذَا الموقف الرهيب يتبين عجز الخلائق وضعفهم وكمال سلطان الله وقدرته ونفوذ مشيئته: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) إِنَّكُم في قَبْضَة الله: (مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)[هود: 56]، إنه ليوم عصيب وموقف رهيب: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) [مريم: 93- 95].

 

فلا مجال لهرب أحد، ولا نسيان لأحد، فعين الله على كُلّ فرد، وكل فرد يقوم وحيدًا لا يأنس بأحد، فإذا هُوَ فريد وحيدٌ أمام الديان: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 34- 37].

 

مشهد المرء يفر وينسلخ ويهرب من أقرب النَّاس إليه، وألصقهم به، أولئك الَّذِينَ تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم، ولكن الصاخة والطامة تُمزّق هذه الروابط وتقطع الوشائج والصلات: (فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ)[المؤمنون: 101]. فالهول يُفزع النفس ويقلقها، ويفصلها من محيطها، ويستبد بها استبدادًا، فلكل نَفْسهُ وشأنه، ولديه الكفاية من الهم الْخَاص به الَّذِي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ)[غافر: 18].

 

فها هِيَ ذي الساعة التي يغفل عَنْهَا الغافلون، ويلهو عَنْهَا اللاهْوَن، وَيَسْتَعْجِلُ بِهَا المستعجلون: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ)[الشورى: 18] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ* وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)[الروم: 12- 16].

 

وهؤلاء المجرمون حائرين يائسين لا أمل في النجاة ولا رجَاءَ ولا خلاص بل قَدْ أيقنوا في العطب: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)[السجدة: 12].

 

 هنا يعترفون بالخطيئة ويقرون بالحق الَّذِي جحدوه بالدُّنْيَا ويعلنون اليقين بما شكوا فيه ويطلبون العودة إلى الدُّنْيَا لإصلاح ما فات في الدُّنْيَا ومنظرهم إذ ذاك مُفزعٌ مخيفٌ وهم ناكسوا الرؤوس خجلاً وخزيًا. فالأَمْر أمر فظيع، والحال مزعجة، أقوامًا حاسرين مكروبين، وسؤال غيرُ مجاب لفوات وَقْت الإمهال: (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) [سبأ: 52].

 

فيا عباد الله: انتبهوا من رقدتكم، واستدركوا بقية أعماركم، واحذروا الانهماك في دار الغرور، فالويل لكم إن أدرككم الموت وأنتم على هذه الحالة، زينتم الفلل والقصور ونسيتم القبور، اذكروا القبر وظلمته ووحشته، والموت وسكرته، والميزان وخفته أو رجحته، والكِتَاب وأخذته، والصراط ودِقته، والموت وسكرة في سكرة، وحيرة في حيرة، وجذبة يا لها من جذبة، وكُربة يا لها من كربة، فالمسكين يكابد غُصص المنون، داهش العقل كالمحزون.

 

أفيقوا من سكراتكم، وانتبهوا من نوماتكم، واستيقظوا من غفلاتكم، قبل مفاجأة المنية وحلول الرزية ووقوع البلية، حيث لا مال ولا ولد نافع، ولا حميم شافع، ولا فرح واقع، ولا رجَاءَ طامع، ولا حسنة تُزاد، ولا سيئة تُحذف، ولا حياة تعاد، ويزودك أحبابك بالحزن عَلَيْكَ والبُكَاء، فلا عثرة تُقال ولا رجعة تُنال.

 

أَلا إِنَّ أَيَّامَ الْحَيَاةِ مَرَاحِلُ *** طَرِيق الْفَتَى مِنْهَا إِلَى الْمَوْتِ سَاحِلُ

يُسَرُّ بِمَا يَمْضِي لِمَا هُوَ آمِلٌ ***وَيَأْتِي الرَّدَى مِنْ دُونِ مَا هُوَ آمِلُ

وَمَا يَوْمُهُ إِلا غَرِيمٌ مُحْكَّمٌ *** إِذَا مَا اقْتَضَاهُ نَفْسَهُ لا يُمَاطِلُ

عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي السَّلامَةَ جَاهِدًا***وَمَرُّ اللَّيَالِي كُلُّهُنَّ غَوَائِلُ

وَنَحْنُ بَنُو الأَيَّامِ نَظْلِمْ نُفُوسَنَا ***وَنَرْجِعُ وَهِيَ الْقَاتِلاتُ الثَّوَاكِلُ

 

أيها المسلمون: وفي المحشر تجد مشهد مكروب ذليل يثير الفزع والخوف: (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ)[الأنبياء: 97]. هذه أبصارهم لا تطرف من الهول الَّذِي فوجئوا به يَقُولُونَ: (يَا ويلنا) وَهُوَ تَفجّع وتوجّع المفجوء الَّذِي تنكشف له الحَقِيقَة المروعة بغتة فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف ويدعو بالويل والهلاك ويعترف ويندم ولكن بعد فوات الأوان.

 

إنها مشاهد يوم القيامة وما يجري فيه من تغيرات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة وتحسر في مواجهة الأحداث، حيث يتجلى الهول في صميم الكون وفي اغترار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [المعارج: 42- 44].

 

بارك الله..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: وكَذَلِكَ خروجهم من القبور ينبئ أنهم في كرب وشدة وأنهم أذلاء غير متمكنين من الاستعصاء على الداعي إذ هم يهرولون مقهورين مَعَ خشوع أبصارهم وذلتها لهول ما تحققوا من الْعَذَاب. قَدْ ملك القلق والخوف قُلُوبهمْ واستولى على أفئدتهم وسكّن حركاتَهم وقطع أصواتَهم تعلو وجوههم القترة لما أصابهم من الكآبة والحزن والهم العَظِيم الَّذِي لا يُرجى له فرج: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ)[الشورى: 22] (تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ) [الشورى: 44 - 45].

 

إن هؤلاء الظالمين الطغاة كَانُوا في الدُّنْيَا متكبرين فناسب أن يكون الذل والصغار هُوَ مظهرهم البارز يوم القيامة الجزاء على الأعمال فعِنْدَ ما يشاهدون الحقائق ويرون الْعَذَاب تتهاوى كبرياؤهم وعظمتهم ويتساءلون في ذل وانكسار وخوف: (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ).

 

في هذه العبارة التي يُفهم منها اليأس مَعَ التلهف والانهيار مَعَ التطلع إلى أي بارقة للخلاص ويُعرضون على النار خاشعين لا من ورع ولا تقوى ولا من حياء وخجل ولكن من الذل والهوان منكسي أعينهم من الذل والعار ينظرون من طرف خفي. إنه لمنظر وَمَرْأً فظيعًا صعبًا شنيعًا مجرد تصوره يزعج ويقلق حيث يظهر منه الندم العَظِيم والحزن الطويل والأسف الشديد على ما سلف مِنْهُمْ من الإهمال والتفريط والتضييع الَّذِي لا يمكن تلافيه.

فيا أيها الغَافِل الساهي المهمِل وكلنا كَذَلِكَ انتبه ومثّل نفسك في هَذَا الْيَوْم العَظِيم الجامَعَ للأولين والآخرين فيا لعظم يوم يوجه السؤال فيه لمن قال الله جلا وعلا في حقهم: (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)[الصافات: 181] (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ)[المائدة: 116]، (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف: 6].

 

أيها المسلمون: في ذَلِكَ الْيَوْم العصيب ينادى الخلائق واحدًا وَاحدًا يا فلان هَلُمَّ إلى العرض وعِنْدَ ذَلِكَ تنخلع القُلُوب وترتعد الفرائص وتضطرب الجوارح وتنبهت العقول وتتحير وييبس اللسان وتشخص الأبصار. فما ظنك بمن يؤخذ بناصيته ويقاد وفؤاده مضطرب ولبه طائر وفرائصه ترتعد وجوارحه تنتفض ولونه متغير ولِسَانه وشفتاه قَدْ نشف ما بهما من رطوبة وقَدْ عض على يديه ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يسترح ولم يجلس ولم يركب.

 

والعَالم والجو عَلَيْهِ مظلم وضاقت عَلَيْهِ الأرض وصَارَت الدُّنْيَا أضيق من سم الخياط مملوء من الرعب والخجل من علام الغيوب والأولين والآخرين وأَهْل السماوات وأتى يتخطى رقاب النَّاس ويخترق الصفوف يقاد كما يقاد الفرس المجنوب وقَدْ رفع الخلائق إليه أبصارهم حتى انتهى به إلى عرش الرحمن فرموه من أيديهم. وناداه الله سُبْحَانَهُ وتعالى فدنى بقلب محزون خائف وجل وطرف خاشع ذليل وفؤاده متحطم متكسر وأعطي كتابه الَّذِي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إِلا أحصاها.

 

فكم من فاحشة نسيها فتذكرها! وَكَمْ من ساعة قتلها عِنْدَ منكر! وَكَمْ من ليلة أضاعها عِنْدَ ملهى! وَكَمْ من ريال أنفقها في المعاصي! وَكَمْ من صلاة ضيّعها! وَكَمْ من زكاة تهاون بها! وَكَمْ من صيام في الكذب والغيبة خرقه! وَكَمْ من أعراض انتهكها! وجلود مزقها! وَكَمْ من جيران تأذوا بمجاورته! وَكَمْ من بريء قذفه بالزنا واللواط! وَكَمْ من محصنة قذفها واتهمها! وَكَمْ من مُحصنة حاولها للفساد! وَكَمْ من مخالط له أوقعه في المعاصي! وَكَمْ من أرحام قطعهم! وَكَمْ من مسلم غشه! وَكَمْ من ساعة قتلها فيما يُغضب الله حول المنكرات! وَكَمْ من حقوق لخلق الله نسيها أو تناسها! وكم من أسرار تسمّعها لم يؤن له في ذَلِكَ!

 

وَكَمْ من محرم نظر إليه! وكم من مسلم جس عَلَيْهِ وأوقعه فأفزعه وأزعج أولاده وأحباءه! وَكَمْ من رحلة إلى بلاد الكفر أقامها وأنفق فيها الأموال في المعاصي! وَكَمْ من أعداء لله جالسهم ومازحهم وشاركهم وولاهم وداهنهم، وَكَمْ من أَوْلِيَاء لله عاداهم وانتهك أعراضهم، وَكَمْ من كفار والاهم وصادقهم ومدحهم، وَكَمْ من عمل بالرياء أفسده: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) [الزمر: 47 - 48].

 

فليت شعري بأي قدم يقف بين يدي الله وبأي لسان يجيب وبأي قلب يعقل ما يَقُولُ وبأي يد يتناول وبأي عين ينظر وبديع السماوات والأرض أمامه: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) [مريم: 93- 95].

 

إذا فهمت ما سبق من أحوال يوم القيامة وأدلته فاعْلَمْ أن أكثر خلق الله لم يدخل الإِيمَان بالْيَوْم الآخر في قُلُوبهمْ ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم. ويدل على ذَلِكَ استعدادهم لبرد الشتاء وحر الصيف، وتهاونهم بجهنم وزمهريرها وزقومها، وحميمها وويلها وغساقها مَعَ ما يتبع ذَلِكَ من الشدائد والأهوال والكروب والقلاقل والمزعجات. ولو كَانُوا مصدّقين ما كَانُوا بهذه الحال، اللسان يصدق والْعَمَل يكذب إذا سئلوا عن الْيَوْم الآخر نطقت ألسنتهم وغفلت عَنْهُ قُلُوبهمْ.

 

ومن قُدّم له طعام وأخبر أنه مسموم فَقَالَ للذي أخبره صدقت فيه سُم ثُمَّ مد يده يتناوله ليأكل كَانَ مصدّقًا بلِسَانه ومكذبًا بفعله وتكذيب الْعَمَل أبلغ من تكذيب اللسان.

 

وَمُنْتَظِرٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ***يَشِيدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ

لَهُ حِينَ تَبْلُوهُ حَقِيقَةُ مُوقِنٌ ***وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ

عِيَانٌ كَإِنْكَارٍ وَكَالْجَهْلِ عِلْمُهُ ***بِمَذْهَبِهِ فِي كُلِّ مَا يَتُيَقَّنُ

 

وقال آخر:

بَادِرْ شَبَابَكَ أَنْ تَهْرَمَا ***وَصِحَّةَ جِسْمِكَ أَنْ تَسْقَمَا

وَأَيَّامَ عَيْشِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ ***فَمَا قَصْرُ مَنْ عَاشَ أَنْ يَسْلَمَا

وَوَقْتُ فَرَاغِكَ بَادِرْ بِهِ ***لَيَالِي شُغْلِكَ فِي بَعْضِ مَا

 

اللهم ..

 

 

 

المرفقات

يوم القيامة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات