عناصر الخطبة
1/ الحث على الخوف من الله سبحانه 2/ حال النبي صلى الله عليه وسلم في الخوف من الله 3/ نماذج من خوف السلف الصالح من النار 4/ آثار الخوف من اللهاقتباس
إن المؤمن يتقلب في الدنيا على جمرات الحذر في نيران الخوف، يرهب الآخرة، ويحذر المعاقبة، فالخوف من النار متمكن من سويداء قلبه. فقد صرنا في زمان صار كثير من أهله لم يقدروا الله حق قدره، ولم يعرفوه المعرفة التي تليق بجلاله وعظمته، ولو عرفوه هذه المعرفة وقدروه ما صدق العقل أن يكونوا ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عمت رحمته كل شيء ووسعت، وتمت نعمته على العباد وعظمت، ملك ذلت لعزته الرقاب وخضعت، وهابت لسطوته الصعاب وخشعت، وارتاعت من خشيته أرواح الخائفين وجزعت، كريم تعلقت برحمته قلوب الراجين فطمعت، بصير بعباده يعلم ما كنَّت الصدور وأودعت، عظيم عجزت العقول عن إدراك ذاته فتحيرت.
نحمده على نعم توالت علينا واتسعت، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من النار يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، اللهم فصلّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: تأهبوا للانتقال من دار الرحيل والزوال، وتنافسوا في اكتساب ما يوصل إلى دار المقيل والظلال، وارغبوا في صالح الأعمال، واعلموا أنكم عما قليل راحلون، وإلى الله صائرون، ولا يغني هنالك عمل إلا صالح قدمتموه، أو حسن ثواب أحرزتموه، فإنكم تقدمون على ما قدمتم، وتجازون على ما أسلفتم، فلا تصدنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات علية، واكتسبوا مراضي الرحمن، فإنها أربح المكاسب، واجتنبوا موارد العصيان، فإنها وخيمة العواقب، وحاذروا مواعيد الآمال فإنها آمال كواذب.
أيها المسلمون: إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الخلق ليعبدوه، ويعرفوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه، ويخافوه خوف إجلال، ووصف لهم شدة عذابه، ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه؛ ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر -سبحانه وتعالى- في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال والأغلال، وما احتوت عليه من الضريع والزقوم والحميم والسلاسل والغساق والغسلين، وغير ذلك مما فيها من الأهوال والفظائع والعظائم.
ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، وأخبر -جل وعلا- بأن الخلق واردوها قال -تعالى-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71-72]، فأنت من الورود على يقين، ومن النجاة في شك.
عباد الله: إن المؤمن يتقلب في الدنيا على جمرات الحذر في نيران الخوف، يرهب الآخرة، ويحذر المعاقبة، فالخوف من النار متمكن من سويداء قلبه. فقد صرنا في زمان صار كثير من أهله لم يقدروا الله حق قدره، ولم يعرفوه المعرفة التي تليق بجلاله وعظمته، ولو عرفوه هذه المعرفة وقدروه ما صدق العقل أن يكونوا بهذه الحال، وقد عاتب الخلاق العليم عباده من ذلك فقال -جل وعلا-: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:13] فما لكم لا تقدرون الله حق قدره، ولا تعظمونه حق تعظيمه ولا تخشونه حق خشيته، ألا ما أجهل الخلق بربهم، وما أجرؤهم على معاصيه، وهو الكبير الجليل العظيم -سبحانه جل في علاه-.
عباد الله: وقد مضى رجال من هذه الأمة كانوا يخشون ربهم خشية العارفين الموقنين، لذلك كانت أقوالهم وأفعالهم موزونة بما للشرع من موازين كانوا يزنون كلامهم قبل أن يلفظوا به؛ لأنهم يوقنون أن خالقهم سمعها وشهد عليها، وهو تعالى خير الشاهدين. كانوا إذا أظلم الليل يقفون في محاريبهم باكين متضرعين، لهم أنين كأنين المرضى، ولهم حنين كحنين الثكلى، وكانوا ربما مروا بالآية من كتاب الله فجعلوا يرددونها بقلب حزين فأثرت عليهم ومرضوا بعدها، مات أولئك السلف الصالح الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا.
وماتت تلك الخشية وأعقبها قسوة أذهلت العباد عن طاعة الله، فصاروا يأتون ما يأتون، ويذرون ما يذرون دون سؤال عن سخط الله ورضاه. نعوذ بالله من سوء الأحوال وسيء الأخلاق.
عباد الله: وقد حثنا ربنا على الخوف منه، فقال -تبارك وتعالى-: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:15-16].
وتدبر معي -أخي الكريم- فبعد أن ساق ربنا الجليل ذلك المشهد، وتلك الشدة، فوصف الخاسرين لأنفسهم، وما يصيبهم من العذاب والنكال، نادى على عباده وهو الرحيم الذي لا يحب عذاب أحد، فقال: (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) أي: احذروا غضبي، واعملوا بطاعتي، وتجنبوا مساخطي، سبحانه من إله رحيم كريم.
وفي آية أخرى يرشد ربنا الجليل عباده إلى عدم الخوف من غيره، فقال -جل وعلا-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175]، فكلما زاد إيمان العبد وارتفع، كانت معرفته بربه أكبر، ومن ثم تكون خشيته من ربه وخوفه منه أعظم، وطاعته له أكثر، فاللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك.
وقد حثَّ النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- عباد الله على الخوف منه واستحضار جلاله وعظمته، فعن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار" [مسلم:426].
وفي صورة أخرى يوصي النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالخوف من الله تعالى، مبينًا لهم شيئا من عظمة الله وجلاله، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ عَلَى أَوْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ" [الترمذي (2312) وحسنه الألباني].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستحضر الخوف من الله في كل المواقف، فعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "لما كسفت الشمس رأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قطّ أفظع" [البخاري (1052) ومسلم (907)].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يسأل ربه أن يرزقه الخشية منه، وكان يعلّم أصحابه أن يدعوا ربهم ويسألوه أن يرزقهم من الخوف ما يمنعهم من عصيان ربهم -سبحانه-، فعن ابن عمران قال: قلما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصيبات الدنيا" [الترمذي (3502) وحسنه الألباني].
وعلى هذا المنوال سار سلف الأمة الصالحون، فكانوا يستحضرون الخوف من الله وخشيته، وكان ذكر النار ينغص عليهم عيشهم ويذكرهم بنار الآخرة ولهم في هذا مواقف مشهورة، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما سمع رجلاً يتهجد في الليل، ويقرأ سورة الطور، فلما بلغ إلى قوله -تعالى-: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) [الطور:7-8]، قال عمر: "قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إلى منزله"، فمرض شهراً يعوده الناس، لا يدرون ما مرضه.
وعن ابن عباس مرفوعاً: "لو أُبرزت النار للناس، ما رآها أحد إلا مات".
وكان من السلف من إذا رأى النار اضطرب وتغيرت حاله، قال مجاهد وغيره: "يعني أن نار الدنيا تذكر بنار الآخرة، حيث جعلها الله تذكرة"، وقال أبو حيان التيمي: "سمعت منذ ثلاثين سنة أن عبد الله بن مسعود مر على الذين ينفخون على الكير فسقط"، خرجه الإمام أحمد، وخرج ابن أبي الدنيا من رواية سعد بن الأخرم، قال: "كنت أمشي مع ابن مسعود، فمر بالحدادين وقد أخرجوا حديداً من النار، فقام ينظر إليه ويبكي".
وعن عطاء الخراساني قال: "كان أويس القرني يقف على موضع الحدادين، فينظر إليهم كيف ينفخون الكير، ويسمع صوت النار، فيصرخ، ثم يسقط". وروي أن طلحة وزيداً مرا بِكِيرِ حداد، فوقفا ينظران إليه يبكيان، قال الأعمش: "أخبرني من رأى الربيع بن خيثم مر بالحدادين، فنظر إلى الكير وما فيه، فَخَرَّ." وقال مطر الوراق: "كان جمعة وهرم بن حيان إذا أصبحا، غديا فمرا بِأَكْوِرَةِ الحدادين، فنظرا إلى الحديد كيف ينفخ، فيقفان ويبكيان، ويستجيران من النار". وكان بشير بن كعب، وقراء البصرة يأتون الحدادين، فينظرون إلى شهيق النار، فيتعوذون بالله من النار.
وعن العلاء بن محمد قال: "دخلت على عطاء السلمي، فرأيته مغشياً عليه، فقلت لامرأته ما شأنه؟ قالت: سجرت جارة لنا التنور، فلما نظر إليه غشي عليه"، وعن معاوية الكندي قال: "مر عطاء السلمي على صبي معه شعلة نار، فأصابت النار الريح، فسمع ذلك منها، فغشي عليه". وقال الحسن: "كان عمر-رضي الله عنه- ربما توقد له النار، ثم يدني يديه منها، ثم يقول: يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر؟".
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح بالليل، فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حس حس، ثم يقول: "يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟", وقال البختري بن حارثة: "دخلت على عابد، فإذا بين يديه نار قد أججها، وهو يعاتب نفسه، ولم يزل يعاتبها حتى مات".
وكان كثير من الصالحين يذكر النار وأنواع عذابها؛ برؤية ما يشبهه بها في الدنيا، أو يذكره بها؛ كرؤية البحر وأمواجه، والرؤوس المشوية، وبكاء الأطفال، وفي الحر والبرد، وعند الطعام والشراب، وغير ذلك.
عباد الله: ومن الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم، قال أسد بن وداعة: "كان شداد بن أوس، إذا أوى إلى فراشه، كأنه حبة على مقلى، يقول: اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه". وقال أبو سليمان الداراني: "كان طاووس يفترش فراشه، ثم يضطجع عليه، فيتقلى كما تقلى الحبة على المقلى، ثم يثب، فيدرجه، ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: طيّر ذكر جهنم نوم العابدين".
وقال مالك بن دينار : "قالت ابنة الربيع بن خيثم: يا أبت، مالك لا تنام والناس ينامون؟ فقال: إن النار لا تدع أباك ينام". وكان صفوان بن محرز، إذا جنَّه الليل يخور كما يخور الثور، ويقول: "منع خوف النار مني الرقاد". وكان عامر بن عبد الله يقول: "ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، فكان إذا جاء الليل قال: "أَذْهَبَ حر النار النوم"، فما ينام حتى يصبح، وإذا جاء النهار قال: "أذهب حر النار النوم"، فما ينام حتى يمسي. وروي عنه أنه كان ثم يقوم فينادي: "اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي"، وقيل له: ما لك لا تنام؟ قال: "إن ذكر جهنم لا يدعني أنام".
وقال الحر بن حصين الفزاري: "رأيت شيخاً من بني فزارة، أمر له خالد بن عبد الله بمائة ألف، فأبى أن يقبلها، وقال: أذهب ذكر جهنم حلاوة الدنيا من قلبي، قال: وكان يقوم إذا نام الناس، فيصيح: النار، النار، النار". وكان رجل من الموالي، يقال له صهيب، وكان يسهر الليل ويبكي، فعوتب على ذلك، وقالت له مولاته: "أفسدت على نفسك"، فقال : "إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طال نومه".
وأما سفيان الثوري فما كان ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض فزعاً، مرعوباً ينادي: "النار، النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات"، ثم يتوضأ، ويقول على أثر وضوئه: "اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار".
وفي هذا المعنى، يقول عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى-:
إذا ما الليل أظلم كابدوه *** فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا *** وأهل الأمن في الدنيا هجوع
أيها الإخوة: ومن السلف من منعه خوف النار من الضحك، قال الحجاج لسعيد بن جبير: "بلغني أنك لم تضحك قط"، قال: "كيف أضحك؟ وجهنم قد سُعرت، والأغلال قد نُصبت، والزبانية قد أُعدت؟!" وقال عثمان بن عبد الحميد: "وقع عند جيران غزوان حريق، فذهب يطفئه، فوقع شرارة على أصبع من أصابعه، فقال: ألا أراني قد أوجعتني نار الدنيا، والله لا يراني ضاحكاً، حتى أعرف أينجيني من نار جهنم أم لا؟" وقد كان جماعة من السلف عاهدوا الله أن لا يضحكوا أبداً، حتى يعلموا أين مصيرهم، إلى الجنة؟ أم إلى النار؟ منهم جمعة الدوسي، والربيع بن خراش، وأخوه ربعي، وأسلم العجلي، ووهيب بن الورد، وغيرهم.
ويروى في بعض الآثار أن صحف موسى -عليه السلام- كانت عبرًا كلها، ومما يروى فيها : "عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم لا يعمل".
عباد الله: ومن السلف من أحدث له خوفه من النار مرضا، ومنهم من مات من ذلك، وكان الحسن يقول في وصف الخائفين:" قد براهم الخوف، فهم أمثال القداح، ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى وما هم مرضى، ويقول: قد خُولُطوا -أي أصابهم شيء في عقلهم-، وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.
نسأل الله أن يرزقنا خشيته، والاتعاظ بآياته، ونسأله سبحانه أن يحسن لنا الخاتمة وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.
أيها الإخوة: ينبغي للعبد العاقل أن يغلب الخوف من الله حال حياته، وصحته، ويجتنب مساخط الله، وليقتفِ أثر سلف الأمة الصالحين في الخوف من الجليل سبحانه، وقد ذكرنا بعض أحوالهم، وإليك المزيد:
وكان بعض السلف يتأثر بشدة من ذكر النار في القرآن العظيم، ويظهر ذلك عليه، قال حفص بن عمرو الجعفي: "اشتكى داود الطائي أياماً، وكان سبب علته، أنه مر بآية فيها ذكر النار، فكررها مراراً في ليلته، فأصبح مريضاً، فوجدوه قد مات، ورأسه على لبنة".
ومر منصور بن عمار بالكوفة ليلاً على رجل يناجي ربه، فتلا منصور هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6]، قال منصور : "فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حساً ومضيت، فلما كان من الغد رجعت، فإذا جنازة قد أخرجت، وإذا عجوز، فسألتها عن أمر الميت، ولم تكن عرفتني، فقالت هذا رجل -لا جازاه الله خيراً- مر بابني البارحة وهو قائم يصلي، فتلا آية من كتاب الله، فتفطرت مرارته، فوقع ميتاً".
ولما مات المنصور بن المعتمر، صاحت أمه: "واقتيل جهنماه! ما قتل ابني إلا خوف جهنم". وأما علي بن الفضيل فمات من سماع قراءة هذه الآية (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام:27] وقال يونس بن عبد الأعلى: "قرأ عبد الله بن وهب كتاب الأهوال، فمر في صفة النار فشهق فغشي عليه، فحُمل إلى منزله، وعاش أياماً، ثم مات -رحمه الله-".
وعن يحيى بن أبي كثير، قال: "قطع قلوب الخائفين، طول الخلودين في الجنة أو النار". وعن ابن السماك، قال: "قطع قلوب العارفين بالله ذكر الخلودين الجنة والنار"، وعن بكر المزني، أن أبا موسى الأشعري خطب الناس بالبصيرة، فذكر في خطبته النار، فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر، قال: وبكى الناس يومئذ بكاءً شديدًا.
ونظر عمر بن عبد العزيز إلى رجل عنده متغير اللون، فقال له: "ما الذي أرى بك؟" قال: "أسقام وأمراض يا أمير المؤمنين إن شاء الله"، فأعاد عليه عمر، فأعاد عليه الرجل مثل ذلك ثلاث مرات، فقال: "إذا أبيت إلا أن أخبرك، فإني ذقت حلاوة الدنيا، فصغر في عيني زهرتها وملاعبها، واستوى عندي حجارتها وذهبها، ورأيت كأن الناس يساقون إلى الجنة، وأنا أساق إلى النار، فأسهرت لذلك ليلي، وأظمأت له نهاري، وكل ذلك صغير حقير في جنب عفو الله، وثواب الله -عز وجل-، وجنب عقابه".
وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا علي بن أبي الحر، قال: أوحى الله إلى يحيى بن زكريا -عليه السلام-: "يا يحيى، وعزتي، لو اطلعت إلى الفردوس اطلاعة لذاب جسمك، ولزهقت نفسك اشتياقاً، ولو اطلعت إلى جهنم اطلاعة، لبكيت بالصديد بعد الدموع، وللبست الحديد بعد المسوح".
وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن سفيان، قال: " كان عمر بن عبد العزيز ساكتاً، وأصحابه يتحدثون، فقالوا: ما لك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت مفكراً في أهل الجنة، كيف يتزاورون فيها؟ وفي أهل النار، كيف يصطرخون فيها؟ ثم بكى".
وعن مغيث الأسود أنه كان يقول: "زوروا القبور كل يوم بفكركم، وتوهموا جوامع الخير كل يوم بعقولكم، وشاهدوا الموقف كل يوم بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة والنار بهممكم، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار، ومقامعها وأطباقها".
وعن صالح المري قال: "للبكاء دواعي: الفكرة في الذنوب، فإن أجابت على ذلك القلوب، وإلا نقلتها إلى الموقف، وتلك الشدائد والأهوال، فإن أجابت إلى ذلك، وإلا فاعرض عليها التقلب بين أطباق النيران، قال: ثم صاح، فغشي عليه، وتصايح الناس من جوانب المسجد".
وعن أبي سليمان الداراني، قال: "خرج مالك بن دينار بالليل إلى قاعة الدار، وترك أصحابه في البيت، فأقام إلى الفجر قائماً في وسط الدار، فقال لهم: إني كنت في وسط الدار خطر ببالي أهل النار، فلم يزالوا يعرضون علي بسلاسلهم وأغلالهم حتى الصبا" .
وكان سعيد الجرمي يقول في وصف الخائفين: "إذا مروا بآية من ذكر النار، صرخوا منها فرقاً، كأن زفير النار في آذانهم، وكآن الآخرة نصب أعينهم"، وقال الحسن: "إن لله عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار معذبين". وقال أيضاً: "والله ما صدّق عبد بالنار قط، إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره، لم يصدق بها، حتى يهجم عليها".
وقال وهب بن منبه: "كان عابد في بني إسرائيل، قام في الشمس يصلي حتى اسود وتغير لونه، فمر به إنسان، فقال: كأن هذا حرق بالنار، قال: إن هذا من ذكرها، فكيف بمعاينتها؟" وقال ابن عيينة : قال إبراهيم التيمي: "مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا، فأعمل صالحاً، قال: فأنت في الأمنية فاعملي".
عباد الله: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الخوف من الله وخشيته عبادة جليلة تحجز العبد عن العصيان، وتسوقه إلى طاعة الرحمن، وقد كان جماعة من عُبَّاد البصرة مرضوا من الخوف، ولزموا منازلهم، كالعلاء بن زياد، وعطاء السلمي، وكان عطاء قد صار صاحب فراش عدة سنين، وكانوا يرون أن بدء مرض عمر بن عبد العزيز الذي مات فيه كان من الخوف.
وإن خشية الله -تبارك وتعالى- مرتبطة بالعلم به، فكلما كان العبد بالله تعالى أعرف كان له أخشى، فتعقله هذه الخشية عما لا ينبغي من الأفعال كيف لا وهذا القرآن يقول: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28].
فمن عرف ربه لا يجرؤ أن يحرّك لسانه بكلمة من المنكرات؛ لأنه يؤمن أن الله تعالى يسمع السر والنجوى، ولا يجرؤ أن يستعمل عضوًا من أعضائه في عمل ليس بحلال، لأنه يؤمن أن الله تعالى يراه مهما اختفى واجتهد في الاختفاء، وكذلك لا يقدم ويعزم على فعل شيء من المحرمات، لأنه يؤمن بوعيد الله على من اجترأ وانتهك المحظورات، العارف بالله حق المعرفة لا ينطوي على رذيلة كالكبر والعجب والحقد والنفاق وغير ذلك من الرذائل الممقوتات؛ لأنه يؤمن أن ما في قلبه لا يخفى على من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فلا يستريح حتى يكون باطنه كظاهره مطهرًا من الفواحش.. قال -تعالى-: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة:73].
فتذكروا -رحمكم الله- أحوال الخائفين، واستحضروا دائمًا الخوف من الله الجليل، وتذكروا قرب حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا. اللهم يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم