عناصر الخطبة
1/ اليقين سر الثبات في المواقف الصعبة 2/ اليقين وفضله في القرآن والسنة 3/ كل اعتماد وتوكل على غير الله هزيمة 4/ احتمال البلاء علامة على ثقة المؤمن بربه 5/ أسباب زيادة اليقين في القلوباقتباس
فمن منا يقايض دنياه بالآخرة، ومن منا مُستعد للتفريط في ثروته أو منزله أو سيارته في مقابل شيءٍ آجلٍ لم يره إنه الإيمان بالغيب، وتلك درجة عالية لا تُنال إلا باليقين والثقة بالله الواحد الأحد، لا الثقة بحطام الدنيا الفانية، وهنا الامتحان والاختبار، أرجو أن تكون هذه القصة عبرة؛ فالدنيا لا تساوي أن تحزن أو تقنط لأجلها ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله وسع كل شيء برحمته، وعمَّ كل حي بنعمته، لا إله إلا هو خضعت الخلائق لعظمته، سبحانه يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ آلائه وجلائل منِّته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خيرته من بريته، ومصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على نهجه وطريقته.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعتبروا بمن مضى من قبلكم، فقد عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، هم السابقون وأنتم اللاحقون، سبقوكم بمضي الآجال، وأنتم على آثارهم تشد بكم الرحال.
عباد الله: كثيرًا ما يتعرض الإنسان في حياته لمواقف كثيرة وأزمات صعبة يحتاج فيها إلى الثقة واليقين برب العالمين، والاعتماد على من بيده الأمور، مع الأخذ بالأسباب المباحة التي تعين الإنسان بعد توفيق الله -سبحانه- على أن يتخطى مراحل صعبة في حياته.
إن الله -جل وعلا- أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، فإذا عظُم الخطب، واشتد الكرب فلا نجاة لنا إلا بالله -سبحانه وتعالى-، وهذا ما أشار إليه ربنا -سبحانه- في القرآن العظيم، قال الله -جل وعلا-: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) [الصافات:75]، وقال الله -تبارك وتعالى-: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) [الصافات:114]، وإذا تضاعف الضر، وزاد السوء، فلا كاشف له إلا الله، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62]، وقال -سبحانه-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:17-18].
إذا توالى الهمّ، وتتابع الغم، فلا فارج له إلا الله, (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87].
وإذا جاءت النقمة أو حلت الفتنة فلا صارف لها إلا الله (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف: 34]، وكلما عظمت الخطوب، أو تزايدت الكروب، فلا ملجأ إلا إلى الله (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50]، ولا منجى ولا ملجأ إلا إليه -سبحانه-.
إن الصلة بالله -سبحانه وتعالى- تعلقاً به، ويقيناً بموعوده، وأملاً في نصره، ورضاءً بقضائه، ومحبة في ثوابه، وخوفاً من عقابه، وتوكلاً على قوته, ذلك هو المعوّل عليه في كل خطب، وهو الموثوق به بإذن الله -عز وجل- في كل كرب, تضرع إلى الله، واستمساك بمنهج الله، وطلب ومناجاة ودعاء لله قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
لا نستطيع أن نجزم أن أحداً لم تمر به ظروف ومشاكل صغيرة كانت أم كبيرة، ولكن الذي نجزم به أن كل منا يملك شخصية مستقلة ومختلفة عن شخصية الآخرين، وإن تشابهت فيها بعض الأشياء، ولا تتشابه تماماً، وهذه الشخصية تتعرض لمؤثرات قد تكون سبباً في تعاستها أو سعادتها، والذي تعود على أن يحصل جميع حاجياته دون تعب ونصب، ودون أن يتحمل مسئولياتها، ولو بشكل بسيط، تتشكل لديه شخصية اتكالية، تفقد الخبرة والصبر والحنكة، ومع أدنى موقف قد يُصَاب بالأمراض النفسية التي تعزله عن الحياة وتبني في طريقه سداً يحجز السعادة عنه، ولن يستطيع هدم هذا السدّ إلا إذا امتلك قوة حقيقية تحتوي كل نشاطاته، وإذا تساءلنا عن سبب ثبات بعض الناس في مواقف حياتية يتعرضون، وسقوط آخرين عند نفس الموقف نكتشف أنهم يملكون صفات معينة يفتقدها الآخرون، ومنها وهو مقدمتها اليقين.
والذي يمتلك هذه الصفة يدرك أن كل ما يصيبه في هذه الحياة الدنيا هو بتقدير من الله -عز وجل-، ويدرك أنه إذا عمل بإخلاص فالله سيجزيه، فحينها يدرك يقيناً أن النصر قادم لا محالة، وأن الظلم إن وُجد لن يستمر، وأن الإنسان مبتلى في هذه الحياة، وأن الحياة زائلة، وأن المصاعب التي نواجهها هي خير لنا؛ لأننا لا نعلم الغيب، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51], فكم من الأمور كنا نعتقد أنها شرّ لنا وقت حدوثها، ثم بعد مرور الوقت اكتشفنا أنها لصالحنا، فعلمنا مقصور على اللحظة التي نعيشها.
أيها المسلمون: ما هو اليقين؟ اليقين عملٌ من أعمال القلوب التي تحيا به القلوب وتسكن به الأنفس وتنشرح به الصدور، وهو سبيل الاهتداء إلى طاعة الله -عز وجل-، وهو دليل الانتهاء عن ما حرم الله، فالله تعالى يقول عن المتقين: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [البقرة:4-5].
عباد الله: لقد دعانا ديننا إلى التسلح باليقين، ونجعله الزاد الذي سيحملنا إلى الجد في العمل، ويصنع في نفوسنا الرغبة فيما عند الله ويزرع في قلوبنا الثقة بموعود الله، والزهد في الدنيا، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
فبالقين تصقل شخصيتنا وتتحلى بالصبر والجلد في المواقف، ونسيطر على انفعالاتنا التي قد تقودنا أحياناً إلى الوقوع في الخطأ وأحياناً إلى الهلاك، ولعلنا نستمد لغة اليقين في قول أمير المؤمنين هارون الرشيد الذي خاطب السحابة بقوله: "أمطري حيث شئت فسيصلني خراجك".
اليقين مقام رفيع استحق صاحبه المديح من الله تعالى له، والثناء عليه، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:4-5].
إن المؤمن لا يكون ضعيفًا ولا يرى منهزمًا نفسيًّا، بل إنه فوق كل الخطوب؛ لعلمه بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. "وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار" [أبو داود (4699) وصححه الألباني]، فعلى قدر دين المرء يبتلى، وكلما اشتد بلاؤه كلما محيت سيئاته حتى يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة.
فله في رسوله -صلى الله عليه وسلم- قدوة وفي نبيه أسوة فقد كثر عليه البلاء واشتدت عليه الخطوب حتى سمي أحد أعوامه لكثرة بلائه بعام الحزن, ومع ذلك لم يجزع بل فوض الأمر لمالك الأمر؛ لعلمه بأن في هذا تثقيل لدينه واختبار لجوهره فما من محنة إلا وأعقبتها منحة, وسواد الليل يسبق ضوء النهار.
يحمد العارفون ربهم عند البلاء؛ لأنه لم يكن بلاؤهم في دينهم، وأنه لم يكن أكثر من ذلك. فهم قد فطنوا كبد الحقيقة، وجعلوها دعاءهم الدائم، وتسبيحهم المحبب لربهم بأن لا يجعل مصيبتهم في دينهم، وكلما جن ليلهم دعوا ربهم بأن كل بلاء دونه عافية، وكل غني دونه فقر، وكل قرب دونه وحشة وبعد؛ فلو علم أهل البلاء ما أعده الله لهم يوم القيامة لتمنوا أن يكون أكثر من ذلك؛ عن جابر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب؛ لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض" [الترمذي (2402)حسنه الألباني]، لكن هذا لا يمنع المؤمن سؤال ربه العافية ليلا نهارا وأن يرزقه مع العافية شكرا عليها؛ حتى لا يعتريه ضعف في نفسه ووهن في عزمه.
أهل اليقين لغيرهم سابقون، والسالكون لطريقهم واصلون، فمقومات الوصول معلومة والسوق قائمة والسلعة موجودة والثمن مقدور عليه ومعالم الطريق واضحة فهم عباد ربانيون. ويأتي المدد من الله، ويتنزل النصر من الله، ويكون الثبات سكينة من الله في النفوس، ويكون اليقين صارف للخوف والجزع اليقين بالله -سبحانه وتعالى- وليس شيء غير ذلك، لا التجاء إلى أسباب الكثرة العددية، ولا إلى وفرة القوة المادية، ولا إلى ما يزعم من الاستعدادات العسكرية، إنما اللجوء إلى رب البرية - -سبحانه- وتعالى-.
كل شيء يستند فيه إلى غير الله فإنه إلى ضياع وخراب، وكل اعتماد وتوكل على غير الله فإنه إلى هزيمة وضياع، وإن المرء المؤمن لَيرى ويقرأ ويوقن ويعتقد، وهو يتلو آيات القرآن، أن ذلك حق لا مرية فيه، ولكن أحوال الدنيا المضطربة، وأحوال القلوب الخائفة الجزعة، وضلال العقول الخربة، ربما ينال من ذاك كله، والله -جل وعلا- قد بيّن لنا وفصّل أن كل التجاء إلى غيره، واعتماد على سواه لا تكون نتيجته طيبة، ولا تحمد عقباه، فقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:36].
مهما اجتمعوا، ومهما كثروا، ومهما عظموا، ومهما انتفخوا, كلهم من دون الله في صيغة موجزة، تدل على الاحتقار لهم، وبيان ضعفهم، وزرع اليقين بذهاب قوتهم، وضعف ريحهم، وانفلال شوكتهم ؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قدّم بذلك بقوله: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [الزمر:37-40].
ولا يكون نوع من الثبات، ولا ظهور للشجاعة، ولا بروز للحمية، إلا إذا ملأ الإيمان القلب، وانسكب اليقين في النفس، وكان الرضا بقضاء الله وقدره والإيمان به عظيماً فإن ذلك هو أعظم قوة لا يكون معها خوف ولا يخالطها جبن بحال من الأحوال.
ولقد أكدت الأحاديث النبوية على أهمية اليقين وقوته وفضله؛ فعن معاذ بن رفاعة، أخبره عن أبيه، قال: قام أبو بكر الصديق، على المنبر ثم بكى فقال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الأول على المنبر ثم بكى فقال: "اسألوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية" [الترمذي (3558) وصححه الألباني].
وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- اليقين، وحض عليه، ورفع من شأنه في كثير من الأحاديث، فجعل من أهم أسس صلاح الأفراد والأمة كلها حصول اليقين، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل وطول الأمل" [البيهقي في شعب الإيمان (10844) وصححه الألباني].
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب من ربه ويدعوه أن يرزقه اليقين، عن ابن -عمر رضي الله عنهما-، قال: قلما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا،" [الترمذي (3502) وصححه الألباني]، ولليقين في الله -جل وعلا- دور كبير في تهوين مصائب الدنيا، وأن الدنيا وما عليها هينة طالما كانت في رضا الله سراء كانت أم ضراء.
كما أنه كان -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الشك، فعن أبي جعفر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشك بعد اليقين، وأعوذ بك من مقارنة الشياطين، وأعوذ بك من عذاب يوم الدين" [مصنف ابن أبي شيبة (6/ 19)].
وخاف على أمته الشك والريب؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أتخوف على أمتي ضعف اليقين" [ الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1 / 196)].
وقد أدرك سلف الأمة الصالحون من الصحابة والتابعين أهمية اليقين، فكانوا يرفعون من شأنه ويكثرون من ذكره؛ فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: "وَخَيْرُ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ، وَخَيْرُ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرُ الْهُدَى مَا اتُّبِعَ، وَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى.." [جامع معمر بن راشد (11 / 159)]. وكان -رضي الله عنه- يقول: "الفرح والروح في اليقين والرضا، والغم والحزن في الشك والسخط".
وعن الحسن -رحمه الله- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا إن الناس لم يؤتوا في الدنيا شيئًا خيرًا من اليقين، والعافية، فسلوهما الله -عز وجل-". وقال الحسن: "صدق الله، وصدق رسوله، باليقين هُرب من النار، وباليقين طُلبت الجنة، وباليقين صُبر على المكروه، وباليقين أُديت الفرائض، وفي معافاة الله خير كثير، قد والله رأيناهم يتقاربون في العافية، فإذا وقع البلاء تباينوا" [ الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 196)].
عباد الله: في احتمال البلاء علامة على ثقة المؤمن بربه تنتج عن قوة في اليقين به وعلمًا بأن وعده حق, وأن من استمسك بحبله فقد استمسك بحبل غير منقطع, وهذه الثقة تجعله يحس بالطمأنينة لما يدور حوله من أحداث, يري أنها مظلمة ومليئة بالظلال التي تعتم دوائر الضوء في النفس فتورثها كآبة تنغص عليها حياتها. ولكن بقوة اليقين تتماسك أركان النفس من الانهيار، وتتجمع بعد تفرق وشتات وتحيي مواتها؛ فسرعان ما تعود لأفضل من سابق أمرها مكتسبة من تجربتها رشدًا يهديها في طريق الوصول بل ويعينها للوصول إلي غاية المطلوب.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في بيان ذلك: "الذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله، فمن سلّم لله واستسلم له، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، لم يبقى لخوف المخلوقين في قلبه موضع؛ فإن نفسه التي يخاف عليها سلّمها إلى وليّها ومولاها، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها، فلا معنى للخوف من غير الله بوجه".
أسأل الله أن يرزقنا إيمانًا كاملاً ويقينًا صادقًا وأن يهدينا لصالح الأقوال والأعمال، وأن يرزقنا الإخلاص واليقين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه.
عباد الله: أما عن زيادة اليقين فهو يزيد بكثرة التأمل في كتاب الله وتدبر معانيه، وتدبر الآيات الكونية، وتدبر معاني صفات الله تعالى، وقد طلب خليل الرحمن ذلك من خلال أن يريه ربه كيفية الخلق مشاهدة قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 260].
ومما يزيده كذلك كثرة سؤال الله تعالى الإيمان واليقين والهدى، ففي حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- قال كان -عليه الصلاة والسلام- يقول: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا" [الترمذي (3502) وصححه الألباني].
عباد الله: واليقين أعلى درجات الإيمان لأنه إيمان لا يصحبه شك ولا يساوره تردد؛ تتيقن ما غاب عنك كما تشاهد ما حضر بين يديك، فإذا كان عند الإنسان تام بما أخبر الله تعالى به من أمور الغيب فيما يتعلق بالله -عز وجل- أو بأسمائه أو صفاته أو اليوم الآخر أو غير ذلك، وصار ما أخبر الله به من الغيب عنده بمنزلة المشاهد فهذا هو كمال اليقين وقوله: "ما تهون به علينا مصائب الدنيا"؛ لأن الدنيا مصائبها كثيرة؛ لكن هذه المصائب إذا كان عند الإنسان يقين فإنه يكفر بها من سيئاته، ويرفع بها من درجاته، وإذا صبر واحتسب الأجر من الله هانت عليه المصائب وسهلت عليه المحن، مهما عظمت سواء كانت في بدنه أو في أهله أو في ماله ما دام عنده اليقين التام فإنها تهون عليه المصائب.
ومما يزيده كذلك العمل بما تعلّم العبد من الدين، وتعبّده لله تعالى، وذكره إياه في كل حال، ومما يزيده كذلك كثرة النظر في نصوص الوحي الزاخرة بآيات الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، ولا يلزم من زيادة اليقين أن توجد كرامات ولا أن تترك الأسباب، فكثير من الصحابة لم تكن لهم كرامات، وكان الأنبياء والصحب يتكسبون؛ ففي حديث البخاري أخبر -عليه الصلاة والسلام-: "أن نبي الله داود كان يأكل من كسبه". وقد تاجر الصحابة وزرعوا وامتهنوا المهن، وكذلك خيار السلف بعدهم.
وبين يديك -أخي الكريم- بعض الأخبار والقصص العجيبة لتعلم مدى اليقين الذي رسخ في قلب ذاك الجيل الفريد من السلف الصالح؛ بينما كان الرسول محمد -صلَّى الله عليه وآله- جالساً وسط أصحابه إذ دخل عليه شابٌّ يتيمٌ يشكو إليه قائلاً: "يا رسول الله، كنت أقوم بعمل سور حول بستاني فقطع طريق البناء نخلةٌ هي لجاري, طلبت منه أن يتركها لي لكي يستقيم السور فرفض، فطلبت منه أن يبيعني إياها فرفض".
فطلب الرسول أن يأتوه بالجار. فأُتي بالجار إلى الرسول -صلى الله عليه وآله- وقص عليه الرسول شكوى الشاب اليتيم فصدَّق الرجل على كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فسأله الرسول -صلى الله عليه وآله- أن يترك له النخلة أو يبيعها له فرفض الرجل فأعاد الرسول قوله: "بِعْ له النخلة ولك نخلةٌ في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام" فذُهِلَ أصحاب رسول الله من العرض المغري جداً فمن يدخل النار وله نخلة كهذه في الجنة, وما الذي تساويه نخلةٌ في الدنيا مقابل نخلةٍ في الجنة, لكن الرجل رفض مرةً أخرى طمعاً في متاع الدنيا, فتدخل أحد أصحاب الرسول ويدعي أبا الدحداح فقال للرسول الكريم: "إن أنا اشتريت تلك النخلة وتركتها للشاب إلي نخلة في الجنة يا رسول الله؟" فأجاب الرسول: "نعم".
فقال أبو الدحداح للرجل: أتعرف بستاني يا هذا؟ فقال الرجل: نعم، فمن في المدينة لا يعرف بستان أبي الدحداح ذا الستمائة نخلة والقصر المنيف والبئر العذب والسور الشاهق حوله فكل تجار المدينة يطمعون في تمر أبي الدحداح من شدة جودته. فقال أبو الدحداح: بعني نخلتك مقابل بستاني وقصري وبئري وحائطي. فنظر الرجل إلى الرسول -صلى الله عليه وآله- غير مصدق ما يسمعه أيُعقل أن يقايض ستمائة نخلة من نخيل أبي الدحداح مقابل نخلةً واحدةً فيا لها من صفقة ناجحة بكل المقاييس فوافق الرجل، وأشهد الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله- والصحابة على البيع وتمت البيعة.
فنظر أبو الدحداح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سعيداً سائلاً: "أليَ نخلة في الجنة يا رسول الله؟"، فقال الرسول "لا" فبُهِتَ أبو الدحداح من رد رسول الله -صلى الله عليه وآله- ثم استكمل الرسول قائلاً ما معناه: "الله عرض نخلة مقابل نخلة في الجنة, وأنت زايدت على كرم الله ببستانك كله, وَرَدَّ الله على كرمك -وهو الكريم ذو الجود- بأن جعل لك في الجنة بساتين من نخيل يُعجز عن عدها من كثرتها" ثم قال الرسول الكريم: "كم من عذق رداح لأبي الدحداح -والرداح هنا هي النخيل المثقلة من كثرة التمر عليها-في الجنة" وظل الرسول -صلى الله عليه وآله- يكرر جملته أكثر من مرة. لدرجة أن الصحابة تعجبوا من كثرة النخيل التي يصفها الرسول لأبي الدحداح وتمنى كُلٌّ منهم لو كان أبا الدحداح.
وعندما عاد أبو الدحداح إلى امرأته، دعاها إلى خارج المنزل وقال لها لقد بعت البستان والقصر والبئر والحائط فتهللت الزوجة من الخبر فهي تعرف خبرة زوجها في التجارة وسألت عن الثمن فقال لها: "لقد بعتها بنخلة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام" فردت عليه متهللةً: "ربح البيع أبا الدحداح, ربح البيع" [الحاكم في المستدرك (2194) وصححه ووافقه الذهبي والألباني في الصحيحة (2964)].
فمن منا يقايض دنياه بالآخرة، ومن منا مُستعد للتفريط في ثروته أو منزله أو سيارته في مقابل شيءٍ آجلٍ لم يره إنه الإيمان بالغيب، وتلك درجة عالية لا تُنال إلا باليقين والثقة بالله الواحد الأحد، لا الثقة بحطام الدنيا الفانية، وهنا الامتحان والاختبار، أرجو أن تكون هذه القصة عبرة؛ فالدنيا لا تساوي أن تحزن أو تقنط لأجلها، أو يرتفع ضغط دمك من همومها.
عباد الله: إن المؤمن القوي يجب أن يكون وثيق العزم، مجتمع النية على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقرّبه منه، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مأربه، والإسلام يكره للمسلم أن يكون متردداً في أموره يحار في اختيار أصوبها وأسلمها، ويكثر الهواجس في رأسه فتخلق أمامه جواً من الريبة والتوجّس، فلا يدري كيف يفعل أو بماذا يتصرف إن هذا الضعف ومثل هذا الاضطراب لا يليق بالمؤمن القوي.
فقوة اليقين، وصدق التصديق بموعود الله ورسوله، جعل سلف هذه الأمة يحلفون بالله على صدق موعود الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتصديقاً بموعود الله ورسوله.
وتأمل حال هذا الأعرابي الذي سمع آيات بيّنات فتأثر بها،. فماذا صنع؟ قال الأصمعي: "أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلداً سيفه، وبيده قوسه، فَدَنا وسلّم، وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم . قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يُتلى فيه كلام الرحمن. قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟! قلت: نعم . قال: فَاتلُ عليّ منه شيئًا، فقرأت (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) إلى قوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22].
فقال الأعرابي: يا أصمعي هذا كلام الرحمن؟ قلت: إي والذي بعث محمداً بالحق إنه لكلامه، أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-. فقال لي: يا أصمعي حسبك. ثم قام إلى ناقته فنحرها، وقطعها بجلدها، وقال: أعنِّي على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما، ووضعهما تحت الرحل، وولّى نحو البادية، وهو يقول: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22].
قال الأصمعيّ: فَمَقتُّ نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفتُّ، فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل، فسلّم عليّ، وأخذ بيدي، وقال: اتلُ عليّ كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام، فقرأت (وَالذَّارِيَاتِ) حتى وصلت إلى قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقًّا. وقال: غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 23] فصاح الأعرابي، وقال:" يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثًا، وخرجت بها نفسه" [شعب الإيمان (2 / 481)].
فانظروا -رحمكم الله- ما بلغ بهذا الأعرابي من رسوخ في اليقين وعظيم في التصديق حيث أيقن أن مجرد إخبار الله أن رزق العباد وما يوعدون في السماء كاف دون أن يقسم على ذلك، فسبحان الله ما أكثر جزع الإنسان إن مسته الضراء وما أحرصه إن مسته السراء.
عباد الله: اتقوا ربكم، وعليكم بحسن الظن والثقة واليقين بالله، واعتصموا بربكم، فنعم المولى ونعم النصير.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا. اللهم أحسن لنا الختام، وارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم