اقتباس
فالتلميح يُخلي ساحتك من تحمل المسؤولية، وكيف تُؤاخَذ وأنت تُلَمِّح ولا تُصَرِّح، فإنك أفْهَمْتَ جمهورك ما تريد إفهامه إياهم، دون أن تُصَرِّحَ بكلمة واحدة، فيصل المعنى المراد وتنتفي المؤاخذة، وبالمثال يتضح المقال...
نتابع حديثنا -أيها الفضلاء- عن التلميح غلى ما قد كتبناه في المقالة السابقة؛ فنقول مستعين بالله -تعالى-:
التلميح بالشيء حينًا يكون أصلًا أصيلًا وسواه خطأ، وحينًا يكون فرعًا بديلًا عن غيره؛ فيكون أصلًا في مواطن كثيرة، كالتلميح بما يستقبح ذكره من ألفاظ وأفعال خادشة للحياء، وأيضًا عند توجيه النصح إلى شخص مرهف الحس مستور الحال، ففي مثل هاتين الحالتين يقبح التصريح ويضر.
ويكون التلميح بديلًا عن غيره: عند العجز عن التصريح؛ لخوف على النفس عند قول الحق؛ فإن مرتبة: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"([1])، إنما هي لمن استطاعها وقد عليها وليست واجبة على كل شخص، كذلك يكون التلميح بديلًا عند تقويم الفاحش المتفحش، وعند التعرض لسؤال حاجة من أحد البشر... فعند العجز عن التصريح في مثل هذه المواطن يُنتقل إلى البديل وهو التلميح.
وقد بدأنا في إلقاء بعض الإضاءات على هذا الفن المهم؛ "فن التلميح"، فسبق منها إضاءتان -في الجزء الأول من هذا المقال- وهما:
الإضاءة الأولى: مظهرك يحدد مسار تلميحك.
الإضاءة الثانية: أصِّل المسائل ودع الإسقاط لعقولهم... وهذي عدة إضاءات أخرى:
الإضاءة الثالثة: اسرد القصص المشابه للواقع:
كقصة موسى وفرعون ترمز بها لانتصار الحق على الباطل بغرق فرعون وجنده في البحر بعدما كان من طغيانه وجبروته وظلمه وتطاوله على خالقه، فيدرك الناس المصير المظلم للجبارين الظالمين -الذين يعاينونهم- مهما بدا أنهم لا يُهزَمون... وذلك يعفيك من مخاطرة ذكر الأسماء والهيئات.
وكقصة قارون ترمز بها لكل صاحب مال غَرَّهُ ماله وحاد به عن الصراط المستقيم:
وتقرن ذلك بقول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)[الأنفال: 36]، إن قصدت بالقصة من يصدون بأموالهم عن سبيل الله فينشئون القنوات الفضائية التي تنشر الرذائل -مثلًا- أو التي تدعو إلى فكر منحرف.
أو تقرنها بقوله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون: 9]، إن قصدت بالقصة من ألهاه ماله عن الطاعة وعن صلاة الجماعة وعن الدار الآخرة وطلبها.
أو تقرنها بقوله -تعالى-: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)[سبأ: 37]، إن قصدت بالقصة غنيًا ظن أنه بغناه صار خيرًا من الفقراء الضعفاء فتعالى عليهم، وتذكر معها حديث مصعب بن سعد حين قال: رأى سعد أن له فضلًا على من دونه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم"([2]).
وكقصة مؤمن سورة "يس" تربي بها روح التضحية بالنفس في سبيل الحق، وتبين بها كيف تكون عاقبة المصلحين: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)[يس: 26-27]... وكذا قصة مؤمن آل فرعون تُعلِّم بها كيف يكون رباط العقيدة أولى من رباط المصلحة والنسب؛ فقد كان ابن عم لفرعون.
وهكذا دائمًا؛ إن لم تقدر على التصريح، أو كان التصريح يضر ولا ينفع، فعليك باستخدام قصة تلمح من خلالها إلى ما تريد.
الإضاءة الرابعة: لا تستخدم التصريح هنا، فتؤاخَذ:
فالتلميح يُخلي ساحتك من تحمل المسؤولية، وكيف تُؤاخَذ وأنت تُلَمِّح ولا تُصَرِّح، فإنك أفْهَمْتَ جمهورك ما تريد إفهامه إياهم، دون أن تُصَرِّحَ بكلمة واحدة، فيصل المعنى المراد وتنتفي المؤاخذة، وبالمثال يتضح المقال، فقد كان من شروط صلح الحديبية أن من جاء مكة إلى المدينة مسلمًا أن يرده المسلمون إلى مكة...
ولما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة جاءه أبو بصير من قريش مسلمًا، فأرسلوا في طلبه رجلين، فدفعه -صلى الله عليه وسلم- إليهما، فاحتال أبو بصير فقتل أحد الرجلين، وفر الأخر إلى المدينة مذعورًا، ثم جاء أبو بصير فقال: "يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك؛ قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم"، وهنا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد"([3])، وهو تلميح نبوي أدرك مغزاه أبو بصير وكل مسلم محبوس بمكة.
يقول ابن حجر: "وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم: يجوز التعريض بذلك لا التصريح كما في هذه القصة"([4]).
فأصاب هذا التلميح النبوي عدة مقاصد؛ فقد أوفى لقريش بعهدهم، وفهِم أبو بصير التلميح فخرج إلى "سيف البحر"([5]) فنجا منهم، وثالثًا: فقد شكَّل أبو بصير ومن لحق به "أداة ضغط" على قريش اضطرتهم أن يتوسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذهم إلى المدينة ويبطل ذلك الشرط المجحف، ففي البخاري: "فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تناشده بالله والرحم، لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم".
فألمح -أيها الخطيب- بما لو صرَّحت به سئلت وحوسبت وحيل بينك وبين منبرك.. وألمح بما لو صرحت به ضر أكثر مما ينفع؛ ففرق بين متآلفين أو أوقع الشحناء والضغينة أو أنتج منكرًا أعظم مما نهيت عنه.
الإضاءة الخامسة: لمِّح بأفعالك وتعابير وجهك كما تلمح بكلماتك([6]):
فهذا ابن أبي سرح، الذي أُهدِر دمه، يختبئ عند عثمان بن عفان، "فلما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: يا نبي الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟!"([7]).
فقد عاتب النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته على عدم فهمهم تلميحه لهم بعدم الرضا عن مبايعته وذلك من خلال فعله -صلى الله عليه وسلم-؛ فليس من عادته -صلى الله عليه وسلم- أن يرفض مبايعة من جاء مبايعًا على الإسلام، ولا من عادته أن يعرض عن أحد هذا الإعراض([8])، لذا عاتبهم -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "أما كان فيكم رجل رشيد.." أي: فطن ذكي يفهم هذه التلميحات بالأفعال والإعراض ومخالفة العادة.
لكن الغالب على الصحابة أنهم كانوا يفهمون تلميحاته -صلى الله عليه وسلم- حتى من تعابير وجهه، فهذا أبو سعيد الخدري يقول: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه"([9]).
وهذا كعب بن مالك يفهم تلميح النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغضب حتى من خلال بسمته، يقول كعب: "فلما سلمت تبسم تبسم المغضب"([10])... ولما غضب الأنصاري، فاتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتحيز للزبير قائلًا: "أن كان ابن عمتك؟" فتلون وجهه -صلى الله عليه وسلم-([11])، ففهم من الجميع شناعة خطأ الأنصاري.
فالخطيب الذكي هو من لا يكتفي بتلميحاته بالكلمات، بل يستثمر الأفعال وتعبيرات الوجه والإشارات جميعًا في التلميح بما يريد إيصاله لرواد مسجده.
([1]) ابن ماجه (4011)، والترمذي (2174)، وصححه الألباني (الصحيحة: 491).
([2]) البخاري (2896).
([3]) البخاري (2731).
([4]) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (5/350)، ط: دار المعرفة - بيروت.
([5]) أي: ساحل البحر.
([6]) للاستزادة في هذه الجزئية يمكن الرجوع إلى مقال: "الجسد المقنع"، وهذا رابطه:
https://khutabaa.com/ar/article/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8F%D9%82%D9%86%D8%B9
([7]) أبو داود (2683)، والنسائي (4067)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1723).
([8]) إنما صنع البي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لأن ابن أبي السرح كان من كتبة الوحي فارتد عن الإسلام "غلَّظ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما غلظ على غيره من المشركين"، ينظر: معالم السنن، للخطابي (2/288) ط: المطبعة العلمية - حلب.
وأما إجارة عثمان بن عفان له فلأنه أخوه من الرضاعة وقد اختبأ عنده، ينظر: سنن أبي داود (2683)، وذخيرة العقبى لمحمد آدم الإثيوبي (31/402)،.
([9]) البخاري (6102)، ومسلم (2320).
([10]) البخاري (4418)، ومسلم (2769).
([11]) البخاري (2359)، ومسلم (1688).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم