عناصر الخطبة
1/كثرة عوامل وأسباب انحراف الأولاد 2/ بعض الآباء يتسبب في ضياع ابنه 3/تأجيل التربية عن وقتها4/ارتكاب المنكر أمام الأبناء5/عدم الجلوس مع الأبناء 6/الجفاء مع الأبناء وعدم المداعبة 7/تغليب الضرب على التشجيع في التربية 8/إغفال التربية خارج المنزل وتركهم دون متابعة أو سؤالاهداف الخطبة
اقتباس
إن المربي إذا لم يكن في هذه الأزمنة على مستوى المسئولية. وعلى علم ودراية بأسباب الانحراف وبواعثه، وعلى بصيرة في الأخذ بأسباب العلاج، وطرق الوقاية؛ فإن الأولاد قد يقعون في هوة الضياع والشقاء والبؤس والعنت والبلاء. وإن بعض الآباء قد يكون هو السبب في ضياع ابنه، ونفوره، لا تفريطاً منه، ولا بغضاً لولده، ولا زهداً به -معاذ الله-. فلا يمكن أن يصدر ذلك عمداً من أب حنون طال سهره وعمله وتململه من خوف الردى على ابنه، ولقد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الشباب حماة الأوطان، ونصر بهم الشرائع والأديان، وأظهر بهم الحق في سائر البلدان، وجعل منهم رواة الحديث وحملة القرآن، ورفع بهم راية التوحيد في كل مكان؛ نحمده -تعالى - ونسأله إصلاح شبابنا الحاضر، وأن يعيد بهم مجدنا الغابر.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأول الآخر.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المؤيد بالقرآن والشباب الطاهر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه من أنصاري ومهاجر، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم تبدو فيه السرائر.
أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى-، اتقوا الله القائل: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46].
أحبتي في الله: حيث تضمنت خطبة الجمعة الماضية، والتي قبلها فضائل الوالدين وشمائلهما وإحسانهما، وأهمية احترامهما وتقديرهما ورعايتهما، والنظر في شئونهما وإكرامهما.
وتضمنت أيضاً قصصاً لشرذمة لم تعرف للوالدين حقاً، ولم ترع لهما حُرمة، فقابلت الفضل بالإساءة، والإحسان بالأذى؛ فإن هذه الجمعة ستتضمن حديثاً يكشف بعض أسباب النفور والانحراف من الأبناء.
فلقد كثرت العوامل والأسباب المفضية إلى انحراف الأولاد، وزيغهم وفساد أخلاقهم.
ولقد كثرت نوازع الشر، وبواعث الفساد التي تحيط بهم، وتكتنفهم من كل جانب.
ولذا فإن المربي إذا لم يكن في هذه الأزمنة على مستوى المسئولية.
وعلى علم ودراية بأسباب الانحراف وبواعثه، وعلى بصيرة في الأخذ بأسباب العلاج، وطرق الوقاية؛ فإن الأولاد قد يقعون في هوة الضياع والشقاء والبؤس والعنت والبلاء.
وإن بعض الآباء قد يكون هو السبب في ضياع ابنه، ونفوره، لا تفريطاً منه، ولا بغضاً لولده، ولا زهداً به -معاذ الله-.
فلا يمكن أن يصدر ذلك عمداً من أب حنون طال سهره وعمله وتململه من خوف الردى على ابنه، ولقد عبر أحد الآباء عما يجده في قلبه لابنه، وجميع الآباء كذلك، فقال:
ولولا بنيات كزغب القطا *** حططن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع في *** الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا *** تمشي على الأرض
لو هب الريح على بعضهم *** لامتنعت عيني من الغمض
والآخر لما سافر أبناؤه إلى رحلة ما بكى، وهو يودعهم، فقال في شعره:
قد يعجب العُذال من رجل *** يبكي ولو لم أبك فالعجب
هيهات ما كل البكا خور *** إني وبي عزم الرجال أبُ
فحنان الوالدين متأصل في نفوسهما.
أما الحياة مع الأبناء فقد تخفى على بعض الآباء، فقد يسلك الوالد أسلوب القسوة مع أبنائه؛ ظناً منه أنه الأصلح، وقد يسرف في الدلال اعتقاداً منه أنه الأنجح، وقد يسلك مسلكاً كان مناسباً في الماضي، ولكنه لا يتناسب مع أجيال اليوم، فيفاجأ الوالد بما كان يخشاه ويرفضه من قبل.
ومن هذا المنطلق أوردت بعض خلل التربية، وسقت جزءاً من العلاج؛ لعل الله أن يجعلها عين الصواب في المعالجة.
الخلل الأول: تأجيل التربية:
فقد يهمل الوالد ولده حتى يصل إلى سنِّ الخامسة عشر، ثم يلتفت إليه بعد تكرار الأخطاء وتتابعها؛ فينشأ من جراء ذلك صراع بين الوالد والولد، فالولد قد اعتادت نفسه على أمر ما.
فمن الصعب: أن ينفلت من زمامها، والأب يحاول جاهداً في صرفه عن هذا الأمر.
وهنا أيضاً قد يعاقب الوالد على إهماله، فالمسلم مطالب بالتربية قبل هذا السِن.
بل إنه مطالب بالتربية قبل خروجه من بطن أمه، بل قبل خروجه من صلب أبيه.
فالإسلام حتَّم على الإنسان اختيار الزوجة الصالحة لهذه النطفة، ثم حثه على البسملة والدعاء قبل الجِماع: "اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني"[البخاري: باب صفة إبليس وجنوده (3/1196)، رقم (3109)].
حفاظاً عليه من شياطين الجن، ثم الأذان والإقامة في أذنيه في اليوم السابع، واختيار الاسم المناسب.
وقد جاء رجل يشكو عقوق ابنه إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فأحضر عمر الابن وأنبه على العقوق ونسيانه للحقوق، فقال الولد: يا أمير المؤمنين! أليس للولد حق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب -أي: القرآن- قال الولد: يا أمير المؤمنين! أما أمي فهي زنجية كانت تحت رجل مجوسي، وأما اسمي فجُعل، ولم يعلمنِ شيئاً من الكتاب ولا حرفاً واحداً، فالتفت عمر إلى الرجل، وقال له: جئت إلي تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك؟!
الخلل الثاني: ارتكاب المحذور أمام الأبناء:
فمن الآباء من يصدر ألفاظاً نابية عند غضبه، ضارباً بأذن الصبي عرض الحائط، فاليوم تسمعه يخاطبه عن الأدب في الكلام، وعن حرمة اللعان والسب، وغداً يسمع الابن نفسه أباه في حالة غضبه وهو يشتم ويلعن ويتسخط، ومثل ذلك في الكذب، وإخلاف الوعود، ومشاهدة النساء عبر التلفاز وهم يبصرونه.
وهنا: كيف يستطيع الابن أن يكتسب خلق الصدق، وهو تسرد إليه قصصاً كاذبة، ويرى تصرفاً كاذباً؟
وكثيراً ما يستخدم الآباء الحيل في التربية وفي وقت مبكر، فالأم مثلاً تنادي طفلها فيأبى؛ فتغلق يدها لتوهمه أن بيدها شيء من الحلوى أو غيرها، ثم تقول: تعال خذ، فيأتي الابن ليأخذ، فلا يجد في يدها شيئاً.
وأحياناً يعتدي الابن على أخيه الأصغر؛ فمن باب إرضائه تضع الأم يدها أو الأب يده خلف ظهر الابن، ثم يضرب يداً على الأخرى وكأنه أدبه، وهنا يكتشف الابن الضارب طريقة الكذب، وكذلك الآخر.
ومثل ذلك في المواعيد، فالأب أحياناً لا يتخلص من الابن إذا بكى إلا بقوله: "اسكت وغداً أحضر لك لعبة".
أو غير ذلك.
فيسكت الابن ويبدأ في الانتظار، وغداً يأتي الوالد وليس معه شيء، فيكتسب الابن خلقين ذميمين، وهما: الكذب وإخلاف الوعود، وقد يزدري الابن أباه بهذا العمل ويقلل من شأنه، وهو في الحقيقة أمر ليس بالهين.
أيضاً: هذا الأب قد يزدري هذه الأعمال، ويعتقد أنها أعمال سهلة هينة، لا يأبه بها الطفل، وهي ليست بهينة، وقد حذر الإسلام من هذا العمل، يقول عبد الله بن عامر: "دعتني أمي يوماً ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: هاه تعال أعطك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أردت أن تعطيه؟" قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة"[أبو داود: باب في التشديد في الكذب (4/298)، رقم (4991)، وأحمد (3/447)، رقم (15740)].
فالولد يتعلم بالقدوة والمثل أكثر بكثير مما يظن ويتصور الوالد.
فالتلقين والتربية بالكلام المجرد لا يثمر مع الولد، وإن استخدمت جميع أنواع التربية فهم لن يحملوا داخل نفوسهم سوى الصورة التي يرونها أمامهم من أنماط السلوك، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فالابن إذا رأى المنزل خالياً من التلفاز مثلاً- ورأى المنازل تعج به، لا يمكنه إلا السؤال: لماذا لا نقتنيه كغيرنا؟
وبمجرد الإجابة من الوالدين يقتنع اقتناعاً تاماً، وهذا مجرب في أبنائنا -والحمد لله- ولكن إذا قال الوالد لولده: لا تشاهد النساء، والأب نفسه يشاهدهن عبر الشاشة! فلن يقتنع أبداً بهذا النهي، وإن تركه تركه خوفاً من الوالد ليس إلا.
ومثل ذلك في التدخين، فبعض من ابتلوا بالتدخين -هداهم الله- يتعاطونه على مرأى من الأبناء، ويحذرون أبناءهم منه؛ فيرى الابن التناقضات في حياة أبيه، بل ربما ينتقص الولد أباه؛ إذ كيف يشربه وهو يعلم ضرره؟ ثم كيف ينهى عنه وهو يتعاطاه؟
فعلى الوالد أن يكون قدوة صالحة لأبنائه في الصدق، وحسن المعاملة، وتجنب سفاسف الأمور، بل إن الوالد ينبغي عليه أن يبرهن للولد أن الصدق هو الوسيلة للنجاة في الدنيا والآخرة، وذلك بالعفو عنه إذا أخطأ ثم صدق، فقد يضطر الابن إلى الكذب تخلصاً من عبثٍ قام به، فالوالد الفطن يرفع يده عن التأديب مباشرة إذا قال الابن كلمة الحق، إشعاراً للابن بأهمية الصدق.
وأما عن إخلاف الموعد، فإذا نسي الأب فعليه تقديم المبررات الحقيقية، ومخاطبة الابن مخاطبة جادة حتى وإن كان صغيراً.
الخلل الثالث: عدم الجلوس مع الأبناء:
وهو من العوامل الكبرى التي تؤدي إلى انحرافه وفساد خلقه، وانحلال شخصيته.
فإذا انشغل الوالد بعقاراته ومزارعه وتجاراته، أو انشغل بوظيفته وزملائه، وترك الحبل لأولاده على الغارب يسرحون كيف يشاءون، ويجلسون مع من يريدون، ويأكلون ويشربون ما يشتهون، دون رقيب أو متابع، واعتبر الوالد منزله مكاناً للنوم والأكل والشرب أشبه ما يكون بالفندق، فإذا دخله دخل بحالة إرهاق وتعب، وإذا خرج خرج بوضع قلق من العجلة والهم والحرص على متاع الدنيا، متى ما كان الوالد هكذا فقل على الأبناء السلام، إلا أن يتداركهم الله بهدايته.
وحتى الذين ينشغلون بطلب العلم والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينالهم نصيب من اللوم والعتاب على هذا الخلل؛ إذ أن الأبناء هم أحق الناس وأولاهم بالتربية والتعليم، قال الله -تعالى-: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214].
فإذا أهمل الأب هذه المسئولية معتمداً على المدرسة، أو الأم، أو المجتمع الذي يعيش في وسطه؛ فلا شك أن الأبناء سيعيشون حياة المشردين.
بل سيكونون سبب فساد وأداة إجرام في الغالب، كما هي الحال في بعض من يسهرون طيلة الليل على جنبات الطرق وفوق رءوس الرمال، ولله در من قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه *** من همِّ الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أماً تخلت أو أباً مشغولاً
والحل السليم هو: اقتطاع وقت يسير -كوقت المغرب مثلاً- يجتمع فيه مع أبنائه، ويناقشهم عن المدرسة والدروس، ويتبادل معهم القصص، والحكايات، والكلمات الطيبة.
الخلل الرابع: عدم مداعبة الأبناء:
فبعض الآباء يعتقد أن أنجح وسيلة للتربية استخدام الجدية التامة في الجلوس والأكل والشرب، فقلَّ أن يشارك أبناءه في لعبهم ومزاحهم، ظناً منه أن هذا يسقط من قيمته، ويقلل من شأنه أمام أبنائه، وهنا يحصل ملل في نفس الابن، ويتمنى أن يخرج أباه من المنزل ليتابع اللعب؛ لأن الولد -مهما كان- مجبول بفطرته على العبث والمزاح، فيتمنى أن يخرج والده ليخرج هو بعده إلى السوق، أو ليضاعف اللعب والعبث في البيت قبل مجيء أبيه، بل إن بعض الأبناء يفرح أحياناً بسفر أبيه لإتاحة الفرصة الطويلة في اللعب والعبث.
وهذا مناف للتربية الإسلامية الصحيحة؛ فإن الإسلام بمحاسنه الجمة وضع من جملة التربية مداعبة الأبناء؛ لأنها تُكسب الابن محبة عميقة، وإذا أحبك الإنسان قبل منك وتأثر بك.
ولعلي أعود بكم إلى تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لتكون هي الحكم الفصل في أي الجانبين أفضل، يقول جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يمشي على أربع -يعني: على يديه ورجليه صلوات الله وسلامه - وعلى ظهره الحسن والحسين، وهو يقول: نِعم الجمل جملكما، ونِعم العِدلان أنتما"[المعجم الكبير (3/52)، رقم (2661)، وقال في مجمع الزوائد (9/182):" رواه الطبراني وفيه مسروح أبو شهاب وهو ضعيف"، وقال في لسان الميزان في ترجمة مسروح (6/21)، رقم (78):"مسروح أبو شهاب عن سفيان الثوري تكلم فيه، وهو راوي:" نعم الجمل جملكما" رواه عنه يزيد بن موهب الرملي، قال العقيلي:" لا يتابع عليه"، وقال في العلل المتناهية عن عيسى بن عبد الله (1/257):" قال ابن عدي:"هذا لا يعرف إلا بيزيد بن موهب، وقد سرقه عيسى بن عبد الله منه، وكان ضعيفاً يسرق الحديث"، وقال أبو عبد الرحمن النسائي:" هذا حديث منكر"، وقال المصنف قلت: وفي الطريقين مسروح، قال ابن حبان:"لا يجوز الاحتجاج به بحال؛ لأنه يخالف الثقات في كل ما روى"].
فكان يركبهما على ظهره ويمشي بهما قليلاً من باب المداعبة، فصلوات ربي وسلامه عليه.
ولأبي داود بإسناد صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة، وهن عبارة عن مجموعة من اللعب، فقال متلطفاً: «ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال النبي: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة، قالت عائشة: فضحك صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه"[أبو داود: باب في لعب البنات (4/283)، رقم (4932)، وتخريج الأحاديث والآثار (3/15)].
عجباً من ذكائها رضي الله عنها.
ويروي أبو هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يُدلع لسانه للحسن بن علي؛ فيرى الصبي حمرة لسانه فيهش إليه"[وإسناده حسن، [ابن حبان: ذكر إباحة ملاعبة المرء ولده وولد ولده (12/408)، رقم (5596)، وذخائر العقبى (ص126)].
ودخل أبو سفيان على ابنه معاوية؛ فوجده مستلقياً على ظهره وعلى صدره صبي يداعبه، فقال أبو سفيان: أمط هذا عنك، فقال معاوية: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «"من كان له صبي فليتصابَ له"[كنز العمال (16/190)، رقم (45413)، وفيض القدير (6/209)].
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي أحياناً، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم بيده أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال: "من أحبني فليحب هذين"[سنده حسن، ابن حبان: ذكر البيان بأن محبة الحسن والحسين مقرونة بمحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم (15/426)، رقم (6970)، وابن خزيمة: باب الرخصة في الإشارة في الصلاة والأمر والنهي (2/48)، رقم (887)، وأبو يعلى (8/434)، رقم (5017)].
فهذه هي تربية الإسلام، وطريقته تجاه الأبناء، ثم إن الانبساطة إليهم فوق أنها تكسبهم محبة لك، أيضاً تجعلهم يبيحون لك بأسرارهم، وبالتالي يتمكن الوالد من معالجة الخطأ.
الخلل الخامس: تغليب جانب الضرب على التشجيع:
فمن دافع الحرص الشديد يلجأ الوالد أحياناً إلى القسوة والضرب الشديد؛ لعل الابن أن يكون رجلاً صالحاً ينفع نفسه وينفع غيره، وهذا المنهج ينهجه كثير من الآباء؛ فأقرب وسيلة عنده وأنجحها في نظره هي حمل العصا على ولده، وهي ليست وليدة اليوم، فقد كانت تتخذ هذه الطريقة منذ القدم، فقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً وعثمان بن مظعون يضرب صبياً له، فقال له رسول الله: "ابنك هذا؟" قال: نعم، قال: "أتحبه يا عثمان؟" قال: نعم والله يا رسول الله إني أحبه، قال: "أفلا أزيدك حباً له؟" قال: بلى فداك أبي وأمي، قال: "إنه من ترضى صبياً صغيراً من نسله حتى يرضى ترضاه الله يوم القيامة حتى يرضى"[كنز العمال (16/246)، رقم (45958)، وتنزيه الشريعة (2/216)].
فالابن إذا عومل من قبل أبويه معاملة قاسية، وأُدب من قبلهم بالضرب والتوبيخ، وكان الهدف دائماً هو التحقير والازدراء، والتشهير والسخرية؛ فعند أدنى زلة يصب عليه كامل السخط، ويوصم بصفات قبيحة، ويسمى بأسماء الحيوانات، ثم تغلق في وجهه الأبواب، ولا يمنح فرصة لتقديم العذر؛ فإن تقاعس يوماً عن القيام بعمل أُطلق عليه اسم الكسول، وتردد هذا المسمى في لسان المربي، وإن كذب مرة أطلق عليه اسم الكذاب، وهكذا.
إذا نهج الوالد هذا المنهج في التربية فقد تظهر ردود الفعل في سلوكه وأخلاقه، وستبدو أيضاً ظاهرة الخوف والانكماش في تصرفاته وأفعاله، ثم يؤول به الأمر إلى تَبُلد الإحساس فلا يأبه بالضرب؛ لأنه اعتاد عليه، ولن يأبه بالتقريع؛ لأنه نشأ في أحضانه، فالمعاملة الفظة، والعقوبة الظالمة، واتخاذها منهجاً للتربية هو الذي جنى على كثير من الأبناء، وقذف بهم في جو الانحراف والعقوق والتمرد في كثير من الأحيان.
فالأب مطالب بإعانة الوالد على البر، وذلك باختيار أفضل السبل لإصلاحه، دون إهانات وسخرية، ولقد دعا خير المربين -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك، فقال: "رحم الله والداً أعان ولده على بره"[تكملة الحديث: "رحم الله والداً أعان ولده على بره؟ قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقبل إحسانه ويتجاوز عن إساءته"، مصنف ابن أبي شيبة (5/219)، رقم (25415)، وكنز العمال (16/190)، رقم (45417)، والجامع في الحديث (1/211)، رقم (138)].
وما أجمل ما قاله الأحنف بن قيس لمعاوية لما سأله عن الولد: ما تقول فيه؟ قال الأحنف: "يا أمير المؤمنين! هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة؛ فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم؛ فيمنحونك ودهم، ويحيوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً، فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك. فقال له معاوية: لله أنت يا أحنف! لقد دخلت علي وأنا مملوء غضباً وغيظاً على ابني يزيد، فلما خرج الأحنف رضي معاوية عن ابنه وبعث بهدية إلى الأحنف"[تاريخ مدينة دمشق (65/403)].
فكثرة اللوم والعتاب والمحاسبة على الأخطاء الماضية، والضرب الشديد، ليست من صفات المربي، ولكنه قد يُلجأ إليها أحياناً، وبصفة نادرة، وعلى خطأ كبير واضح، يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فوالله ما كان يقول لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لمَ لم تفعله، وما لامني أحد من أهل بيته إلا قال دعوه"[مسند أحمد (3/197)، رقم (13057)].
فزرع هذا الأسلوب في نفس أنس دقة الملاحظة، وروح الحياء.
وهنا قد يتساءل أحد الآباء، فيقول: إذا لم أضربه وأؤنبه؛ فإن الابن قد يتمادى في خطئه؛ فما هو البديل المناسب إذاً؟
إن البديل المناسب نستقيه من مشكاة النبوة؛ فنرى أنه يتلخص في: زرع التنافس البناء بين الأبناء، وفي التشجيع والمكافئة المناسبة للولد كبر الابن أم صغر، وبالكلمة اللطيفة التي تُترجم للولد سوء فعله دون سخرية به أو تحقير.
أما التنافس البناء، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستخدمه كأداة من أدوات التربية، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصف عبد الله وعبيد الله، ثم يقول: من سبق إليَّ فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وعلى صدره؛ فيقبلهم النبي ويلتزمهم"[أحمد (1/214)، رقم (1836)، وقال في مجمع الزوائد(5/263):" رواه أحمد، وفيه يزيد بن أبي زياد، وفيه ضعف ولين، وقال داود: لا أعلم أحداً ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وروى له مسلم مقروناً، والبخاري تعليقاً، وبقية رجاله ثقات"].
وإذا كان صلى الله عليه وسلم يضع الحوافز التشجيعية للسباق بينهما؛ فإن الحوافز في الأمور الأخروية كحفظ القرآن والأحاديث لا شك أنها من باب أولى، وهذا التنافس يجعل الأبناء جميعاً يتقدمون نحو الأمام، فالفائز يتشجع ويسعد، والآخر يجتهد للمرة الثانية، فبدلاً من قولك: أيها الوالد صل وإلا ضربتك! قل: إذا حافظت على الصلاة ولم تتأخر هذا الأسبوع وقتاً واحداً؛ فأنا أعدك بهدية، أو برحلة، أو غير ذلك.
وهذا طبعاً ليس على الدوام، وإنما في بداية المرحلة التدريبية، أما في المستقبل فسيصبح الخير دأبه -إن شاء الله-.
وهناك أسلوب آخر: وهو أسلوب المدح والثناء والتشجيع، وقد كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يستخدمه حتى مع أصحابه، فالثناء له أثره في تحريك المشاعر والأحاسيس، وله أثره في تصحيح السلوك والأعمال، أخرج البخاري عن ابن عمر قال: " كان الرجل في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد فرأيت في النوم...".
الحديث طويل: الشاهد منه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله في نهاية الحديث: "نِعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" [البخاري: باب فضل قيام الليل (1/378)، رقم (1070)، ومسلم: باب فضل عبد الله بن عمر (4/1927)، رقم (2479)].
فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، فكلمة: "نِعم الرجل" أثرت بعبد الله أيما تأثير، فنبهته لأمر غفل عنه، وداوم على خصلة من خصال الخير حتى مات رضي الله عنه وأرضاه.
أنا أجزم بأن هذه هي التربية النافعة -بإذن الله-، ذلك أنها نهج من نهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
أما ما يقوم به بعض الأولياء من السكوت عن الحسنات، وإغفال جانبها؛ فيصلي الابن، ويحفظ شيئاً من القرآن، ويتخلق بأخلاق فاضلة، فلا يسمع كلمة واحدة تدفعه إلى الازدياد من الخير، في الوقت نفسه يجد أقسى العقوبات لو أخطأ خطأً واحداً؛ فليتنبه الوالد الرحيم الرفيق بأبنائه لهذا الخلل؛ فإنه يوجد عند بعض أولياء الأمور -حفظهم الله وهداهم الله-.
وعليهم أيضاً بقيادة الأبناء إلى البر سوقاً رفيقاً، يقول أبو الليث وهو يصف حال بعض السلف في رحمتهم بأولادهم، وحمايتهم من العقوق: "كان بعض الصالحين لا يأمر ولده بأمر مخافة أن يعصيه في ذلك فيستوجب النار".
الخلل السادس: اهتمام الآباء بأبنائهم داخل المنزل فقط:
وهذا الخلل إذا استمر مع الوالد فقد ينطبق عليه -لا قدر الله- قول الشاعر:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
فالوالد قد يجتهد اجتهاداً كاملاً في التربية الشرعية، مقتدياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن هذا الاجتهاد داخل محيط المنزل فقط، وأما خارج المنزل فكأن الأب قد كُفي مئونة ذلك؛ فلا يسأل عن قرينه، ولا يحاول التعرف عليه، ليكتشفه من ناحية السلوك والمنطق والعقل، ناهيك عن موقفه مع المدرسة، فقد تنتهي السنة الدراسية أو المرحلة كلها -الابتدائية أو المتوسطة- ولم يأت في يوم من الأيام يسأل عن خلق الابن، وعن المستوى التعليمي، وعن الزملاء، وعن المدرسين الذين سيتولون الجزء الأكبر من تنشئة فلذات أكبادنا.
هذا وإن بعض الآباء قد يغفل جانب الصلاح والاستقامة في أبناء القرابة، فالأب لا يمانع من كون الابن يذهب مع ابن عمه أو ابن خاله أو ابن خالته أو ابن عمته أو غير ذلك، حتى ولو كان ذلك الابن منحرفاً، وله سلوكيات منحرفة، وحجته في ذلك القرابة والصلة، بل لربما سمح للابن أن يسافر معه لوحده، وأن يبيت معه ليلة أو ليلتين. وهذه من أكبر أسباب الانحراف لدى الشباب، فلا تقودكم العاطفة والمجاملة إلى تمييع الجهود المبذولة، فالصلة والقرابة عكر صفوها الكدر المتعلق في الموصول، فعلى الأب أن يعالج هذه العقبة لا بالقطيعة وإنما بالوصل بالحدود المعقولة، فلا يفتح مجالاً كبيراً يستقي الابن فيه ما لا يريده الأب، ولا يسمح له بالسفر مع ذلك الشاب.
هذه بعض خصال قد تصدر من الآباء عفواً لا قصداً، وقد عالجتها من منطلق نهج النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفي الجمعة القادمة -إن شاء الله- سأتطرق لبقية الأخطاء، وهي أكثر فشواً وانتشاراً، وأكثر حساسية من هذه الأخطاء، ولأن الاختصار في الخطبة أمر مطلوب؛ فإني أجعل الحديث في خطبتين مع أن الحديث جزء لا يتجزأ، ولكن الضرورة تبيح ما حرم؛ فضلاً عما أبيح.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
التعليقات