عناصر الخطبة
1/في ظلال اسم الله الهادي 2/أنواع الهداية 3/بعض علامات الهداية.اقتباس
وَهَذِهِ الْهِدَايَاتُ الْأَرْبَعُ مُرَتَّبَةٌ؛ فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ -أَعَاذَنَا اللَّهُ- لَهُ الْأُولَى لَا تَحْصُلُ لَهُ الثَّانِيَةُ، بَلْ لَا يَصْلُحُ لَهُ تَكْلِيفٌ، وَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الثَّانِيَةُ لَا تَصْلُحُ لَهُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ، وَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ الرَّابِعَةُ فَقَدْ حَصَلَ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْعِبَادِ: أَنْ جَعَلَ الْهِدَايَةَ بِيَدِهِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ بِالْهَادِي -جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ-.
وَنَقِفُ مَعَ هَذَا الِاسْمِ، وَنَحْنُ نَسْأَلُهُ: أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الْحَقِّ بِإِذْنِهِ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، يَقُولُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الْحَجِّ: 54]، وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 31]؛ فَرَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- الَّذِي يَهْدِي وَيُرْشِدُ عِبَادَهُ إِلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَإِلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ، وَيُعَلِّمُهُمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَيَهْدِيهِمْ لِهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ، وَيُلْهِمُهُمُ التَّقْوَى، وَيَجْعَلُ قُلُوبَهُمْ مُنِيبَةً إِلَيْهِ، مُنْقَادَةً لِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَهِدَايَةُ اللَّهِ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلًا: الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ، وَهِيَ: هِدَايَةُ كُلِّ نَفْسٍ إِلَى مَصَالِحِ مَعَاشِهَا وَمَا يُقِيمُهَا، وَهِيَ هِدَايَةٌ شَامِلَةٌ لِلْحَيَوَانِ كُلِّهِ؛ نَاطِقِهِ وَبَهِيمِهِ، طَيْرِهِ وَدَوَابِّهِ، فَصِيحِهِ وَأَعْجَمِهِ، وَقَدْ أَوْجَزَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الرَّدِّ عَلَى فِرْعَوْنَ عِنْدَمَا سَأَلَهُ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ لَهُ مُوسَى؛ (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طـه: 50]، وَكَفَى بِهَا دَلِيلًا.
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَهْلًا وَاتَّئِدْ *** وَاشْكُرْ لِرَبِّكَ فَضْلَ مَا أَوْلَاكَا
اللَّه مَازَكَ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ *** وَبِنِعْمَةِ الْعَقْلِ الْبَصِير حَبَاكَا
أَفَإِنْ هَدَاكَ بِعِلْمِهِ لِعَجِيبَةٍ *** تَزْوَرُّ عَنْهُ وَيَنْثَنِي عِطْفَاكَا
لِلَّهِ فِي الْآفَاقِ آيَاتٌ لَعَلَّ *** أَقَلَّهَا هُوَ مَا إِلَيْهِ هَدَاكَا
وَلَعَلَّ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ آيَاتِهِ *** عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
وَالْكَوْنُ مَشْحُونٌ بِأَسْرَارٍ إِذَا *** حَاوَلْتَ تَفْسِيرًا لَهَا أَعْيَاكَا
ثَانِيًا: هِدَايَةُ الْإِرْشَادِ وَالْبَيَانِ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَهِيَ حُجَّةُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى خَلْقِهِ؛ الَّتِي لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِقَامَتِهَا عَلَيْهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)[فُصِّلَتْ: 17].
ثَالِثًا: هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ وَشَرْحِ الصَّدْرِ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَالرِّضَا بِهِ، فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ)[الْإِسْرَاءِ: 97]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[الْبَقَرَةِ: 272]، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التَّغَابُنِ: 11].
وَلِذَا أَمَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ الْهِدَايَةَ؛ بَلْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوهُ الْهِدَايَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الْفَاتِحَةِ 6].
رَابِعًا: الْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 5]، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الْأَعْرَافِ: 43].
وَأَمَّا الْهِدَايَةُ إِلَى النَّارِ فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)[الصَّافَّاتِ: 22-23].
وَهَذِهِ الْهِدَايَاتُ الْأَرْبَعُُ مُرَتَّبَةٌ؛ فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ -أَعَاذَنَا اللَّهُ- لَهُ الْأُولَى لَا تَحْصُلُ لَهُ الثَّانِيَةُ، بَلْ لَا يَصْلُحُ لَهُ تَكْلِيفٌ، وَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الثَّانِيَةُ لَا تَصْلُحُ لَهُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ، وَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ الرَّابِعَةُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّلَاثُ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ يَنْعَكِسُ.
وَالْهِدَايَةُ أَكْبَرُ نِعْمَةٍ يُنْعِمُ بِهَا الْهَادِي عَلَى عَبْدِهِ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ دُونَهَا زَائِلَةٌ؛ فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَكْثَرُ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ بِعَدَمِ زَوَالِهَا؛ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)[آلِ عِمْرَانَ: 8].
وَلِابْنِ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- كَلَامٌ جَمِيلٌ حَوْلَ هِدَايَةِ النَّاسِ، قَالَ: "تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ جَعْلُ الْأَعْمَالِ الْقَائِمَةِ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ سَبَبَ الْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ؛ فَيَقُومُ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ أَعْمَالٌ تَقْتَضِي الْهُدَى اقْتِضَاءَ السَّبَبِ لِمُسَبِّبِهِ وَالْمُؤَثِّرِ لِأَثَرِهِ، وَكَذَلِكَ الضَّلَالُ؛ فَأَعْمَالُ الْبِرِّ تُثْمِرُ الْهُدَى، وَكُلَّمَا ازْدَادَ مِنْهَا ازْدَادَ هُدًى، وَأَعْمَالُ الْفُجُورِ بِالضِّدِّ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُحِبُّ أَعْمَالَ الْبِرِّ فَيُجَازِي عَلَيْهَا بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ، وَيُبْغِضُ أَعْمَالَ الْفُجُورِ وَيُجَازِي عَلَيْهَا بِالضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ... فَإِنَّ الْهِدَايَةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا؛ وَلَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ فِيهَا مَا بَلَغَ! فَفَوْقَ هِدَايَتِهِ هِدَايَةٌ أُخْرَى، وَفَوْقَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ هِدَايَةٌ أُخْرَى، إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، فَكُلَّمَا اتَّقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ ارْتَقَى إِلَى هِدَايَةٍ أُخْرَى؛ فَهُوَ فِي مَزِيدِ هِدَايَةٍ مَا دَامَ فِي مَزِيدٍ مِنَ التَّقْوَى. وَكُلَّمَا فَوَّتَ حَظًّا مِنَ التَّقْوَى فَاتَهُ حَظٌّ مِنَ الْهِدَايَةِ بِحَسْبِهِ؛ فَكُلَّمَا اتَّقَى زَادَ هُدَاهُ، وَكُلَّمَا اهْتَدَى زَادَتْ تَقْوَاهُ... فَلَمَّا آمَنُوا هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ هِدَايَةً بَعْدَ هِدَايَةٍ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)[مَرْيَمَ: 76]، وَقَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)[الْأَنْفَالِ: 29]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)[يُونُسَ: 9]، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 17].
إِلَهِي أَجِرْنِي مِنْ عَذَابِكَ إِنَّنِي *** أَسِيرٌ ذَلِيلٌ خَائِفٌ لَكَ أَخْضَعُ
إِلَهِي أَذِقْنِي طَعْمَ عَفْوِكَ يَوْمَ لَا *** بَنُونَ وَلَا مَالٌ هُنَالِكَ يَنْفَعُ
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عِبَادَ اللَّهِ: قَدْ قَرَنَ اللَّهُ بَيْنَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالرَّحْمَةِ؛ فَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ قَالَ: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 157]، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى حَصَلَ لَهُ النَّعِيمُ الْأَبَدِيُّ، فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)[الْفَاتِحَةِ: 6-7].
فَالْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَتَوَابِعُهمَا مِنَ الْفَضْلِ وَالْإِنْعَامِ -كُلِّهِ- مِنْ صِفَةِ الْعَطَاءِ، كَمَا أَنَّ الْإِضْلَالَ وَالْعَذَابَ وَتَوَابِعَهُمَا مِنْ صِفَةِ الْمَنْعِ.
وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُصَرِّفُ خَلْقَهُ بَيْنَ عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ صَادِرٌ عَنْ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَمُلْكٍ تَامٍّ، وَحَمْدٍ تَامٍّ؛ فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَعَلَامَةُ الْهِدَايَةِ: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ؛ فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ)[الْأَنْعَامِ: 125]، وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُضِلَّهُ، وَالْعَكْسُ صَحِيحٌ؛ فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ)[الزُّمَرِ: 36-37].
وَلِذَا كَانَ مِنْ أَكْثَرِ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)، وَعَلَّمَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِقَوْلِهِ: "قُلِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)، وَعَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنْ يَقُولَ فِي قُنُوتِ الْوَتْرِ: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ"(حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).
جَاءَ فِي سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ: "أَنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ كَانَ شَاطِرًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَذَاتَ لَيْلَةٍ سَمِعَ تَالِيًا يَتْلُو؛ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الْحَدِيدِ: 16]؛ فَقَالَ: بَلَى رَبِّ"؛ فَتَابَ وَجَعَلَ تَوْبَتَهُ مُجَاوَرَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ؛ حَتَّى لُقِّبَ بِعَابِدِ الْحَرَمَيْنِ.
يَا عَبْدَ اللَّهِ: اذْهَبْ إِلَى اللَّهِ بِضَعْفِكَ يَأْتِيكَ بِقُوَّتِهِ..
اذْهَبْ إِلَى اللَّهِ بِذُلِّكَ يَأْتِيكَ بِعِزِّهِ..
اذْهَبْ إِلَى اللَّهِ بِوَحْشَتِكَ يَأْتِيكَ بِأُنْسِهِ..
اذْهَبْ إِلَى اللَّهِ بِفَقْرِكَ يَأْتِيكَ بِغِنَاهُ.
اذْهَبْ إِلَى اللَّهِ بِهَمِّكَ يَأْتِيكَ بِفَرَجِهِ..
اذْهَبْ إِلَى اللَّهِ بِحُزْنِكَ يَأْتِيكَ بِفَرَحِهِ..
أَلَمْ تَسْمَعْ مَاذَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الصَّافَّاتِ: 99].
ضَلَلْتُ زَمَانًا لَسْتُ أَعْرِفُ الْهُدَى *** وَقَدْ كَانَ ذَاكُمْ ظُلْمَةً فِي فُؤَادِيَا
فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ دَفْعِي لِلْهُدَى *** أَبَانَ سَبِيلَ الْحَقِّ لِي وَهَدَانِيَا
فَأَلْقَيْتُ عَنِّي ظُلْمَةَ الْغَيِّ وَالرَّدَى *** وَيَمَّمْتُ نُورًا لِلْهِدَايَةِ بَادِيَا
وَصِرْتُ إِلَى دِينِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ *** رَشِيدًا وَمِنْ بَعْدِ الضَّلَالَةِ دَاعِيَا
اللَّهُمَّ يَا هَادِي اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
التعليقات