عناصر الخطبة
1/ القيامةُ ضرورةٌ لتحقق العدل 2/ وصفٌ وَمَشَاهدُ ليوم القيامة 3/ ضرورة الحديث عن القيامةاهداف الخطبة
اقتباس
كل هذه الأحوال صورت في القرآن إلى الحد الذي يجعل المسلم ينخلع قلبه من هول سماعها، وعند قراءتها، وهو ما جعل الصحابة رضي الله عنهم إذا ذكروا بتلك الأهوال تدور أعينهم، حتى ليبدوا لناظرهم أن بهم جِنة، وما بهم ذلك، إنما هو ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوّلٌ فليس قبله شيء، وآخرٌ فليس بعده شيء، وظاهر فليس فوقه شيء، وباطنٌ فليس دونه شيء، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد، منزلُ الكتاب، مسخُر السحاب، هازم الأحزاب، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، وهو السميع البصير. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، صاحبُ الشفاعة العظمى، والحوض المورود، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه. وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
معاشر المسلمين، [فإن عمر الفرد قصير، وأيامه في هذا العالم الفاني محدودة، ورغبتَه في أن يعيش رغبةٌ فطرية، وحاجاتِه على الأرض لا تنقضي، وآمالَه غيرُ محدودة. لكنه يموت!.
يموت وفي نفسه حاجاتٌ، ويترك على الأرض آماله، كما يترك مِن خلفه أعزاء، يفجعه أن يفارقهم، ويفجعهم أن يغيب، فهل يكون لقاءٌ بعد ذلك المغيب؟.
ينظر الإنسان، فيرى الخير والشر يصطرعان، ويشهد معركة الرذيلة والفضيلة، كما يرى الشرَّ عارماً، والرذيلة متبجحة، وكثيراً ما ينتصر الشر على الخير، وتعلو الرذيلة على الفضيلة.
والفرد -في عمره المحدود- لا يشهد رد الفعل، ولا يرى عواقب الخير والشر]. فهل الأمر ينتهي عند هذا؟.
إن الاعتقاد بوجود إلهٍ عادل، قدير عزيز، حليم كريم، حكيمٍ، يجعل المرء يقطع جازماً [بأن الجزاء على الخير والشر إن لم يتم في الأرض وفي هذه الحياة، فلا بد أن يتم هناك في عالم آخر].
معاشر المسلمين: [إن الخلق أجمع على موعد يحضرونه سوياً، ويرونه سوياً، ويسمعون ما فيه سوياً، في زمان واحد، ومكان واحد، يقف الخلائق أجمعون، ذَكرُهم وأنثاهم، شريفهم ووضيعهم، غنيهم وفقيرهم، موعد زماني ومكاني، لا بد من حضوره، لا مفر فيه لأحد (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود:103].]
يومٌ تتغير فيه حياة الناس، بسننها ومعالمها، ويشهدون حوادث لم يروها أو يسمعوها من قبل، ذلك اليوم؛ يوم الدين، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار:17-19].
يومٌ أخبر الله عنه بأبلغ وصف، وأتم بيان، أكثر الله من ذكر أحداثه تعظيماً لشأنه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30]، (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران:106]، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) [المائدة:109]، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) [الفرقان:27]، (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:105]، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [النحل:111]، (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم:48]، (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:52]، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا) [طه:102]، (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) [الطور:9-10]، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]، (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [النمل:87]، (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا) [المزمل:14]، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:52]، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) [عم:38].
ونصوص القرآن والسنة في وصف صورة القيامة وأحوالها وأهوالها ومشاهدها تواترت بما يكفي، [وبما يجعل قلوب المؤمنين تخفق تارة، وتقشعر جلودهم تارة، ويسرى في نفوسهم الفزع مرة، ويعاودهم الاطمئنان أخرى، وأحياناً يلفحهم من شواظ، ويرف لهم من الجنة نسيم].
كل هذه الأحوال صورت في القرآن إلى الحد الذي يجعل المسلم ينخلع قلبه من هول سماعها، وعند قراءتها، وهو ما جعل الصحابة -رضي الله عنهم- إذا ذكروا بتلك الأهوال تدور أعينهم، حتى ليبدوا لناظرهم أن بهم جِنة، وما بهم ذلك، إنما هو الخوف من تلك المواقف التي لا بد لكل أحد من معاينتها. نسأل الله بمَنّه وكرمه أن يلطف بنا.
أيها المؤمنون: إن الأمر جد، وليس بالهزل، (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:68-72]، (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر:92-93]، (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات:23].
إذا كان مهرجان من مهرجانات الدنيا بحضور مسؤول كبير في الدولة، وفي المهرجان قراءة أسماء بعض الأشخاص لتكريمهم، فإن ذلك المنظر بأخذ بالعقل انبهاراً لجلالة الموقف، أو كان مقابل ذلك جمع من البشر لحضور تنفيذ حدٍ من حدود الله مِن قتل أو قطع أو جلد، إذا كان رهبة ذلك الموقف يتخلخل كل مكان في الجسم والنفس.
وفي كلا الموقفين: الزمن محدود جداً، وعدد الحضور لا يتجاوز الآلاف، والمكرمون فيه أو المهانون أشخاص قليلون، ولا يُلزم أحد بحضوره، إنما هو في الغالب محض اختيار، فما بالكم بموقف يجمع الله فيه الأولين والآخرين؟ تطول مدته والجميع معنيون به، والكل إما مكرم، أو مهان، فيه تزول الفروقات، وتتلاش الطبقات، (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون:101]، المال لا ينفع، والجاه يسقط، والقرابة والرحم تُنسى، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37]، تتعالى فيه الصيحات، وتتوالى الزفرات، تصخب ألسنة الندم، وترتفع صيحات الندامة والحسرة، فمن قائل: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) [الزمر:56]، ومن قائل: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوْتَ كِتَابِيَهُ) [الحاقة:25].
وهكذا تتوالى صيحات الندم: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) [الفرقان:28]، (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) [الكهف:42]، (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:24]، (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [عم:40]، (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام:27]، (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) [الأنبياء:97]، (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) [يس:52]، (يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) [الصافات:20].
أيها المسلمون: لَئِنْ كان الحديثُ عن القيامة وأهوالها مُتَعَيِّنَاً وَمُتَحَتِّماً على كُلِّ مسلم في كُلِّ زمان؛ لأنه ركن من أركان الإيمان لا يصح دين المسلم إلا به، فإنَّ الحديث عنه والتركيز به في هذا الزمان آكَدُ؛ لطغيان المادة على حياة الناس، [طغيانٌ كاد يعمي الناس وينسيهم مصيرهم وما سينتهون إليه من هلاك محقق، وموت مصدق، لا يترك صغيراً لصغره، وكبيراً لكبره؛ بل يأخذ كلاً بأجله، فيرديه صريعاً، ويتركه ضجيعاً].
اللهم ارزقنا الاستعداد ليوم المعاد، وآمِنَّا يوم الفزع الأكبر. الله ارحم ضعفنا.
التعليقات