عناصر الخطبة
1/لله حكمة في تفضيل بعض الأيام على بعض 2/بعض خصائص يوم الجمعة 3/من مستحبَّات يوم الجمعة 4/خطأ بعض الناس بتهاونهم في أداء صلاة الجمعة 5/بعض فوائد التبكير لصلاة الجمعة.اقتباس
ومن الناس مَنْ يخرج في هذا اليوم إلى البر يتنزهون فيه، ولا يحضرون صلاة الجمعة، ويصلُّونها ظُهرًا، وقد نصَّ العلماء على أنه لا يجوز السفر في يوم الجمعة لمن تلزمه صلاة الجمعة بعد دخولِ وقتِها...
من اختيارات الشيخ رحمه الله
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعَل يومَ الجمعة من أشرف الأيام، وجعَلَه عيدَ الأسبوع لأهل الإسلام، وأمَرَنا فيه بذِكْره -تعالى- وبالإكثار من الصلاة والسلام على سيِّد الأنام، عليه مِنْ ربِّه أفضلُ الصلاةِ وأزكى السلامِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله عباد الله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة في الله: لقد اختصَّ الله -سبحانه وتعالى- بعضَ الأيام بمزيد من الشرف والتفضيل، فكان لها في النفوس شرفُ التعظيمِ، ورفعةُ التكريمِ، ومن تلك الأيام يوم الجمعة، فهو يوم مبارَك شاهد ومشهود، فمن حاضر يشهد له، ومتخلِّف بغير عذر يشهَد عليه، والملائكة بعد ذلك شهود، قد فضَّله اللهُ على سائر الأيام، وجعَلَه للمسلمين كما جعَل الأحدَ للنصارى، والسبتَ لليهود.
ثبَت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "نحن الآخِرون الأوَّلون السابقون يومَ القيامة، بيدَ أنهم أُوتوا الكتاب مِنْ قبلِنا، ثم هذا يومهم الذي فرَض الله عليهم، فاختلَفوا فيه، فهَدَانا اللهُ له، والناس لنا تبعٌ، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد".
يوم الجمعة: هو سيِّدُ الأيام، وهو خير يوم طلعت فيه الشمس، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدخل الجنةَ، وفيه أُخرج منها، وفيه تِيبَ عليه، وفيه قُبِضَ، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلي يسأل اللهَ شيئًا إلا أعطاه إيَّاه.
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تعظيم هذا اليوم، وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختصُّ بها عن غيره.
فمن خصائص هذا اليوم: صلاة الجمعة التي هي من آكَدِ فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم من كل مجمَع يجتمعون فيه سوى مجمَع عرفة، مَنْ ترَكَها تهاونًا بها طبَع اللهُ على قلبه، وقربُ أهلِ الجنة يومَ القيامة، وسبقُهم إلى الزيارة يوم المزيد، بحسب قُربِهم من الإمام يومَ الجمعة وتبكيرِهم.
ومن خصائص هذا اليوم: تأكيد الاغتسال فيه لصلاة الجمعة، وقد ثبَت في الصحيحين وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "غُسلُ الجمعةِ واجبٌ على كل محتلِم"؛ أي على كل بالغ، فلا ينبغي للمسلم أن يترك الاغتسال ليوم الجمعة؛ لأنه أمر مؤكَّد، وروت عائشة -رضي الله عنها-: "كان الناس ينتابُون يومَ الجمعة من منازلهم من العوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبارُ، فتخرج منهم الريحُ، فأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ منهم وهو عندي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو أنكم تطهرتُم ليومكم هذا"(متفق عليه).
وينبغي للمسلم أن يتطيَّب، ويلبَس أحسنَ ثيابه، ويبكِّر إلى المسجد فيشتغل بالصلاة وقراءة القرآن والذِّكْر حتى يأتي الإمامُ، وينبغي أن يتقدَّم في المكان، كما تقدَّم في الزمان، فيدنو من الإمام ولا يتأخَّر.
ومن خصائص هذا اليوم: أنه اليوم الذي يُستحب أن يتفرَّغ فيه للعبادة، فالله -سبحانه وتعالى- جعَل لأهل كل مِلَّة يومًا يتفرَّغون فيه للعبادة، ويتخلَّوْن فيه عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القَدْر في رمضان، ولهذا مَنْ صحَّ له يومُ جمعتِه سَلِمَتْ له سائرُ جمعته، ومَنْ صحَّ له رمضانُ وسَلِمَ، سلمت له سائرُ سَنَتِهِ، ومَنْ صحَّت له حجتُه وسَلِمَتْ، سَلِمَ له سائرُ عمرِه؛ فيومُ الجمعةِ ميزانُ الأسبوعِ، ورمضانُ ميزانُ العامِ، والحجُّ ميزانُ العمرِ.
ومن خصائص هذا اليوم: استحباب كثرة الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه وفي ليلته، كما جاء في الحديث: "أكثِرُوا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة، وليلة الجمعة".
فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام، فلِلصَّلاة عليه في هذا اليوم مزيةٌ ليست لغيره، وثمة حكمةٌ؛ أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخِرة، فإنما نالته على يده، فجَمَع اللهُ لأُمَّتِه به بين خيرَي الدنيا والآخرة، فأعظمُ كرامةٍ تحصُل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة، فإن فيه بعثُهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخَلُوا الجنةَ، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم يسعفهم الله -تعالى- بطلباتهم وحوائجهم، ولا يرد مسائلهم، وهذا كله إنما عرفوه، وحصل لهم بسببه وعلى يده.
فمِنْ شُكرِه وحمدِه، وأداءِ القليلِ في حقِّه -صلى الله عليه وسلم-؛ أن نُكثِرَ من الصلاة والسلام عليه في هذا اليوم وليلته.
ومن خصائص هذا اليوم: أن جهنم تسجَّر كل يوم إلا يوم الجمعة، كما جاء في حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-، وسرُّ ذلك -والله أعلم- أنه أفضل الأيام عند الله، ويقع فيه من الطاعات والعبادات والدعوات، والابتهال إلى الله -سبحانه وتعالى- ما يمنع من تسجير جهنم فيه، ولذلك تكون معاصي أهل الإيمان فيه أقل من معاصيهم في غيره، حتى إن أهل الفجور لَيمتنعون فيه ممَّا لا يمتنعون منه في غيره من الأيام.
وكون جهنم تسجَّر فتوقَد كلَّ يوم إلا يوم الجمعة، هذا في الدنيا، أمَّا يومَ القيامة فلا يفتَّر عذابُها ولا يخفَّف عن أهلها، ولذلك يدعون الخَزَنة أن يدعوا ربَّهم ليخفف عن أهلها، فلا يجيبونهم لذلك، نسأل اللهَ السلامةَ والعافيةَ من عذاب جهنم.
ومن خصائص هذا اليوم: قراءة سورة الكهف، فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ قرأ سورةَ الكهف يوم الجمعة سطَع له نورٌ من تحت قدمه إلى عَنان السماء، يُضيء به يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين"(أخرجه الحاكم والبيهقي).
أيها الإخوة في الله: ثبَت في الصحيحين وغيرِهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اغتَسَلَ يومَ الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرَّب بدنةً، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرةً، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرنَ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجةً، ومَنْ راح في الساعة الخامسة فكأنَّما قرَّب بيضةً، فإذا خرَج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذِّكْرَ".
قال ابن القيِّم: فلما كان يوم الجمعة في الأسبوع، كالعيد في العام، وكان العيد مشتَمِلًا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة جعَل اللهُ -سبحانه وتعالى- التعجيلَ فيه إلى المسجد بدلًا من القربان وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان.
فانظروا -أيها الإخوةُ- إلى هذا الفرق العظيم بين أجر مَنْ يُبكِّر إلى الجمعة فيأتي في الساعة الأولى، وأَجْر مَنْ يتأخَّر فلا يأتي إلَّا في الساعة الأخيرة، إنه الفرق بين من يُهدي البعيرَ، ومَنْ يُهدي البيضةَ، بل إن مَنْ يتأخَّر إلى دخول الإمام فإنه تُطوى عنه الصحفُ، ولا يُكتَب له قربان بعد ذلك.
إنكم ترون بعض المصلين -هداهم الله- يتأخرون عن الحضور إلى الجمعة إلى وقت دخول الإمام، ولا تسمح نفوسُهم بالتقدم والتبكير؛ بُخلًا بالوقت، وتشاغلًا بما لا فائدةَ فيه، أو ما فائدته ضئيلة يمكنهم الحصولُ عليه في وقت آخَر، إنهم بهذا التأخير يفوِّتون على أنفسهم خيرًا كثيرًا وأجرًا جزيلًا.
اسمعوا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ توضَّأ فأحسَن الوضوءَ، ثم أتى الجمعةَ فاستمَع وأنصَتَ غُفِرَ له ما بينَه وبينَ الجمعة وزيادةَ ثلاثة أيام"(رواه مسلم).
فيا أخي كيف تفوِّت على نفسك هذا الأجرَ العظيمَ؟ تقدَّم في وقت مبكِّر إلى المسجد لانتظار صلاة الجمعة، واعمُرْ وقتَكَ بطاعة الله من الصلاة والذِّكْر والتسبيح والتهليل وتلاوة القرآن، والصلاة على سيِّد الأنام.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة في الله: مع هذه المزايا الكثيرة والفضائل العظيمة لهذا اليوم الذي جعَلَه اللهُ موسمًا عظيمًا لنَيْل الدرجات وتكفير السيئات، نرى بعضَ الناس لا يُقِيم لهذا اليوم وزنًا، ولا يحسب له حسابًا.
ولا يعرف هذا اليومَ إلا بأنه يوم عطلة وفراغ يقضيه في اللهو واللعب، وربما في المعاصي -نسأل الله السلامة والعافية- لا يَعرِف عن هذا اليوم إلَّا أنه يومُ نزهةٍ يُعطي فيه نفسَه ما تشتهي.
ومن الناس مَنْ يخرج في هذا اليوم إلى البر يتنزهون فيه، ولا يحضرون صلاة الجمعة، ويصلُّونها ظُهرًا، وقد نصَّ العلماء على أنه لا يجوز السفر في يوم الجمعة لمن تلزمه صلاة الجمعة بعد دخولِ وقتِها.
فما أعظم حرمان هؤلاء، أمَا يَخشَوْن أن يَطبع اللهُ على قلوبهم فيكونوا من الغافلين، لقد حرَمُوا أنفسَهم خيرًا كثيرًا، وعرَّضوها لإثم كبير، ففي الأيام غير يوم الجمعة متَّسع لرحلاتهم، وإذا كان لا بد من الخروج يوم الجمعة فليحرِصوا على أداء صلاة الجمعة فيما حولَهم من المساجد.
فاتقوا الله -عباد الله-، واشهدوا الجمع، فإنها فريضة فرضها الله عليكم، ولا خير فيمن ترك فرائض الله، وحذار من التهاون أو التشاغل عنها؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة: 9].
ثبَت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأولَ فالأولَ، ومثل المهجِّر -يعني المبكِّر- كمثل الذي يُهدي بدنةً، ثم كالذي يُهدي بقرةً، ثم كبشًا، ثم دجاجةً، ثم بيضةً، فإذا خرَج الإمام طَوَوْا صحفَهم، ثم جاءوا يستمعون الذِّكْر.
أيها الإخوة في الله: إن في التبكير لصلاة الجمعة فوائد عديدة؛ منها: الاستكثار من الأجر الذي يحصل في هذا اليوم، فهو أفضل الأيام عند الله.
ومنها: أن التبكير يُتيح للمصلي أن يجمع شتات نفسه، وأن يستحضر المعانيَ التي ترقِّق قلبَه، وتهذِّب نفسه، وتجعله من الخاشعينَ.
ومنها: قطعُه عن الشواغل والصوارف، وما أكثرَها في هذه الحياة، حتى إذا ما جاءت الموعظة وجدت الطريقَ إلى قلبه ووجدانه ميسَرًا مذلَّلًا.
لقد كان المسلمون إلى عهد قريب يبكرون في الحضور إلى صلاة الجمعة، ويملؤون المساجد بوقت مبكر، وأما اليوم فقلَّ مَنْ يعمل بذلك، فالكثير لا يحضر إلا عند الخطبة أو عند الإقامة، بل إن بعض الناس لا يحضر إلا في آخِر الصلاة، فيُحرم أولئك أجرَ التبكير وسماع الخطبة والموعظة، بل قد يَحرِمون أنفسَهم أجرَ صلاة الجمعة، وهذا حرمان عظيم، ونقص كبير، يجلس الإنسان في بيته وهو بجوار المسجد، ولا يقوم إلى الصلاة إلا عندما يدخل الإمام، يخشى أن يُمضي شيئًا من الوقت في المسجد قبل حضور الإمام، فاتقوا الله -عباد الله-، واهتموا بالحضور لصلاة الجمعة مبكرين، واغتنموا الأجر مع الغانمين تفلحوا وتكونوا من الفائزين، هذا واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله...
التعليقات